لغز المحترفين المصريين: لماذا لم يغير «محمد صلاح» مصيرهم؟
في الرابع والعشرين من شهر أبريل/نيسان من عام 2017، حل «رمضان صبحي» لاعب ستوك سيتي الإنجليزي ضيفًا على الفنانة «إسعاد يونس» في برنامجها «صاحبة السعادة». كان «صبحي» في بداية مشواره الاحترافي، راسمًا في مخيلته طريقًا ورديًا، لم يكن بالضرورة أن ينتهي به لمنافسة مشوار محمد صلاح، لكن يكفيه مشوار «النني» على أقل تقدير. وانطلاقًا مما دار في مخيلته، كان التالي جزءًا من تصريحاته في البرنامج:
في الثاني عشر من شهر يونيو/حزيران من عام 2019، يصرح وكيل أعمال اللاعب برغبته في العودة للنادي الأهلي، بل ووصف موكله بأنه عنيد جدًا تجاه ذلك، لرغبته في قيادة الأهلي للفوز ببطولة دوري أبطال أفريقيا. هذا بعد أن فشل اللاعب في حجز مكان أساسي في ستوك سيتي ثم هادرسفيلد تاون، ثم انتهى به الأمر خارج قائمة منتخب مصر المشاركة في كأس الأمم الأفريقية 2019.
حسنًا، لنلخص ما حدث. اللاعب الذي اتُهم سابقًا بالتمرد على ناديه من أجل الاحتراف، يعود ويتمرد على الاحتراف من أجل العودة إلى ناديه! ونحن الجمهور لا نمل من توجيه الانتقادات إليه وإلى غيره ممن سلكوا نفس الطريق، لكن ماذا لو تناولنا الأمر بشكل آخر لإلقاء اللوم بعيدًا عنهم؟
طرف الخيط
لنحاول أن نمسك طرف الخيط من بدايته وليس نهايته. علينا أن نسأل أنفسنا: من أقر أن هؤلاء هم أفضل المواهب في مصر حتى ننهال عليهم بكل هذه اللعنات؟ وإذا لم يكونوا الأفضل، فلمَ ننتظر منهم النجاح، ونتفاجأ بالفشل؟ باختصار، إذا كان المنتَج سيئًا، وغير قادر على منافسة باقي المنتجات، فاللوم يقع على المصنع وليس المنتَج.
سنحاول الاستعانة ببعض المنطق، والقياس على دولة أخرى تعاني أيضًا من نقص المواهب، وبالصدفة تعتمد دائمًا على تشكيلة تلعب في الدوري المحلي. لطالما عانت إنجلترا من تفوق لاعبي الخصوم على لاعبيها تكتيكيًا ومهاريًا، وكانت تلك الشكوى هي محور حديث «جاريث ساوثجيت» – المدرب الحالي للمنتخب الإنجليزي –لـصحيفة الجارديان في عام 2011.
في عام 2015، نشرت شبكة الإذاعة البريطانية «BBC» تقريرًا بعنوان: «اكتشاف مواهب كرة القدم: هل تخطئ الأندية في اختيار المواهب الصغيرة؟»، وذلك في محاولة لحل ذلك اللغز. هم يعتقدون أن طريقتهم في الانتقاء أضاعت عليهم الكثير من المواهب، وأسفرت عن ذلك المنتَج الضعيف. لكن قبل أن نكمل، دعني أذكرك مرة أخرى أن هذا مجرد قياس وليس تشبيهًا متطابقًا، فقط يمكننا من خلاله الاطلاع على بعض الأرقام ومحاولة السير على نفس الطريق.
معايير خاطئة
رصدت ال «BBC» عدة معايير خاطئة لاختيار الناشئين في بلاد الضباب، لكننا سنركز على اثنين منها، لأنهما يتماشيان مع نظام الانتقاء المتبَع في مصر. المعيار الأول هو الحجم أو القدرات البدنية، فالميلاد في وقت مبكر من العام الدراسي «School Year» يعتبر ميزة قد تجعل الطفل أكثر نضجًا بدنيًا. من المحتمل مثلاً أن تجد الطفل ذا السبع سنوات ومن مواليد شهر سبتمبر، أكبر وأسرع وأقوى من نظيره المولود في شهر يوليو التالي.
في هذا الإطار وتحديدًا في عام 2013، نشر مدير تحديد المواهب بالاتحاد الإنجليزي «Talent ID manager»«نيك ليفيت» إحصائية عن الأكاديميات ذات المستوى الأعلى. حيث وجد أن 45% من لاعبيها هم من مواليد الفترة بين شهري سبتمبر ونوفمبر، مما يشير إلى لعب الحجم دورًا رئيسيًا في الانتقاء. ورأى «نيك» أن ضرر هذا المعيار يكمن في تجاهله الصغار الذي يلجأون إلى العقل والمهارة لمجاراة زملائهم.
لكن إذا كان الحجم يفرق بين المواهب، فإن الضغط لا يفرق بينهم، وهذا هو المعيار الخاطئ الثاني، حيث ذلك الضغط الذي يبعد الطفل عن الاستمتاع بطفولته، ويجعله يتحول سريعًا من متعة الممارسة إلى رهبة المنافسة. وهذه المرة لا يتحمل النادي المسئولية بمفرده، بل المنزل أيضًا.
فالآباء من ناحيتهم يضغطون على أولادهم من أجل ممارسة اللعبة في سن صغير، آملين في مزيد من التفوق كلما كان الوقت مبكرًا. مستعينين بنظرية الـ 10000 ساعة، والتي تزيد من احتمالية إتقان مهارة ما عن طريق التمرين لمدة مكافئة. أما المدربون فيرتكبون المحظور بشكل أكثر فجاجة، عندما ينخرطون في أجواء المنافسة، ويضغطون لاعبيهم بالصراخ والتوبيخ، مما يحول فترة التطور والبناء إلى فترة عصيبة من شأنها تحطيم اللاعب ذهنيًا ونفسيًا.
العبثية كما يجب أن تكون
بالقياس هنا في مصر، فإن كلا المعيارين متواجد وبقوة. ولأن كرة القدم هي اللعبة الشعبية الأولى هنا، فمعظمنا احتك بقطاعات الناشئين، إما بنفسه أو عن طريق أحدهم من دائرة معارفه. الحجم كان يلعب دورًا يصل إلى رفض اللاعب قبل نزوله أرض الملعب. أما عن التنافسية فقد وصلت حد التقديس، جاعلة من صراخ المدربين أمرًا معتادًا. مع إضافة أمور أخرى لا تتسق مع القواعد، بإشراك لاعبين أكبر سنًا مع فئات عمرية أصغر، في ظاهرة تعرف باسم «التسنين».
وإذا صمد اللاعب أمام ما سبق، فإنه سيُفاجأ بمشهد أكثر عبثية مما يتخيل، سواء هنا أو هناك. حيث أفاد تقرير شبكة الإذاعة البريطانية إلى أن نسبة 0.5% فقط من الناشئين دون ال9 سنوات يصلون إلى الفريق الأول في الأندية الكبيرة. الكاتب «مايكل كالفين» في كتابه «No Hunger In Paradise: The Players. The Journey. The Dream» قدم رقمًا أكثر رعبًا. فقط 180 ناشئًا من أصل 1.5 مليون ينجحون في الوصول للعب بالبريميرليج (0.012%).
أرقام الـ «Financial Times» قبل كأس العالم 2018 تؤكد ذلك،فالإنجليز يحصلون فقط على 34% من دقائق المشاركة بالبريميرليج. إذن ما أهمية كل هذه الأكاديميات طالما لا تعتمد عليها الأندية في تأهيل لاعبيها؟ كأن العبثية يعاد تعريفها من جديد. لكن ليكتمل التعريف، علينا أن نكمل القياس وننظر داخل الدوري المصري، حيث لا يسرق أحد دقائق مشاركة اللاعبين المحليين؛ لأن عدد الأجانب محدود، وبالتالي ينتج العبث بشكل مختلف. فناشئو الأهلي لا يتم تأهيلهم للعب بالأهلي، وكذلك الزمالك.
للأسف فإن المشهد في مصر تنقصه مثل هذه الإحصائيات، لكن هذا لن ينفي أننا نمتلك نسبًا مشابهة، وإذا استطاع اللاعب تجاوزها والوصول إلى الفريق الأول فإنه سيكون قد أهدر مسبقًا معظم الفرص الذهبية في التطوير والتعلم، وتعرض لما يكفي لإنهاك قواه الذهنية. وما تراه أنت من الخارج على أنه إحدى درجات السلم في مسيرته، هو يراه شيئًا قد حصل عليه بعد صراع طويل للبقاء، والحفاظ عليه هو الإنجاز، أما الحديث عن التطوّر فهو محض خيالات.
الخيار الآمن الفاشل
وعندما يحصل اللاعب على فرصة الاحتراف في أوروبا، يتعامل بنفس المنطق. لا يرى أمامه سوى صراع جديد للبقاء لكنه أكثر صعوبة، نظرًا لاختلاف المجتمع واللغة، واضطراره للالتزام ببرامج تدريبية وغذائية لم يعتد عليها من قبل. والتفكير في التطور هو شعور متطرف، لا يخطر على باله من الأساس.
إلى هنا وستتهم كاتب السطور السابقة بالغباء، لأن محترفي المغرب والجزائر وكوت ديفوار والكاميرون وغيرها يمرون بنفس الظروف تقريبًا، إن لم تكن أصعب، فلماذا ينجحون بنسبة أكبر؟ لأنهم باختصار لا يملكون ذلك الخيار الآمن الذي يمتلكه اللاعبون المصريون. ففي مصر، تتزايد قيمة عقود اللاعبين بصورة كبيرة، ولا يوجد قانون ضرائب خاص بتلك المرتبات. الخيار الآمن يعيد لك أجواء الشهرة والحفاوة بسبب وبدون سبب، مع مستوى تنافسي متواضع، وتضحية مالية بسيطة مقابل هذه الراحة.
وبذلك ينتقل صراع البقاء الخاص بغير المصريين إلى مرحلة أعنف، لأن خيار العودة من حيث بدأ ليس متاحًا، وليكمل عليه أن يتطور ولا يكتفي بالتكيف. ومع زيادة أعداد المحترفين الناجحين، تبدأ الدوافع في التجدد من تلقاء نفسها؛ لأن من يجلس حبيس دكة أرسنال كمحمد النني، لن يجد مكانًا في قائمة منتخب الجزائر مثلاً، فمكانه سيذهب إلى محترف آخر يلعب في فريق لا يقل شأنًا.
وبذلك تتحول رحلة الاحتراف برمتها إلى اختبار لبعض الصفات السلوكية كالانضباط والإصرار، وليست اختبارًا للموهبة. وما ظنناه بعد النجاح الأسطوري لمحمد صلاح كان وهمًا ليس إلا؛ لأنه لم ولن يفتح الباب أمام المزيد من المحترفين المصريين، لأنه فقط كان متطرفًا في تفكيره، وأراد النجاح والتطور بلا حدود. أما بقية زملائه، وفي مقدمتهم رمضان صبحي سيتابعون تحقيق المنطق، ونحن سنستمر في انتقادهم لأن منطقنا لا يلتقي بمنطقهم.