المنظمات الحقوقية المصرية ومعركة البقاء
مع تصاعد ممارسات الدولة التي يرى العديد من المحللين والمراقبين أنها لا ترمي إلا إلى غلق المجال العام وتضييق الخناق على منظمات المجتمع المدني باعتبارها جزءًا من هذا المجال العام -وأعني منها هنا تحديدًا المنظمات التي تعمل في مجال الدفاع عن حقوق الإنسان-، بدأ البعض يطرح سؤالًا عن مدى قدرة المجتمع المدني على تحمل تلك الضربات التي توجه إليه وأثر ذلك على قدرة تلك المنظمات على الاستمرار في مواجهة انتهاكات حقوق الإنسان، وفضحها وتقديم الدعم اللازم للضحايا وهو السؤال المرتبط بما إذا كان المجتمع المدني في مصر قد نجح في أن يكون له ظهير مجتمعي للدفاع عنه في مواجهة الممارسات والضربات التي توجه إليه.
يرى العديدون -خاصة الموالين للسلطة منهم- بغض النظر عن موقفهم من عمل تلك المنظمات أنها ما هي إلا أبواق للخارج داخل مصر، وأنها منظمات ممولة بشكل غير قانوني، وأن الغرض من عملها هو تشويه سمعة الدولة المصرية وزعزعة الاستقرار تنفيذًا لمخططات خارجية، وبالتالي فإن المواطنين لن يدافعوا أبدًا عن تلك المنظمات لأنها بمفهوم هؤلاء لا تعمل لصالحهم وإنما تنفيذًا لأجندات غير وطنية.
وفي ظل هيمنة الدولة على مقاليد الإعلام والصحافة لا نكاد نسمع ثمة من يدافع عن تلك المنظمات وعن المدافعين عن حقوق الإنسان، ولكن الحقيقة أن زيارة واحدة لمقار أي من تلك المنظمات أو القيام بجولة مع أحد العاملين بها أو تصفح مواقعها الإلكترونية أو مطالعة منشوراتها الدورية وغير الدورية كفيل بمحو تلك الادعاءات تمامًا، ونظرة واحدة إلى عدد المستفيدين من الدعم الذي تقدمه تلك المنظمات للمواطنين -وليكن مجال الدعم القانوني على سبيل المثال- كفيلة أيضًا بالرد على تلك الادعاءات.
فعلى سبيل المثال عدد المستفيدين من حكم الحد الأدنى للأجور، قضية التاكسي الأبيض، عدد المستفيدين من قضايا بطلان عقود خصخصة بعض مصانع وشركات القطاع العام، هذه الأرقام تعني أن منظمات المجتمع المدني العاملة في مجال الدفاع عن حقوق الإنسان لها جمهور واسع تنامى عبر سنوات عمل تلك المنظمات بناءً على جسور الثقة التي قامت بين الضحايا والمستفيدين وبين تلك المنظمات.
وهو أيضًا أحد روافد ثورة الخامس والعشرين من يناير/كانون الثاني التي لفتت الأنظار إلى ضرورة عدم إغفال الدفاع عن حقوق الإنسان تحت أي ظرف من الظروف ودعم المنظمات العاملة على ذلك. ولا يخفى على أحد أن غالبية نشطاء وكوادر ومسؤولي تلك المنظمات هم من الشخصيات العامة ذات الثقل والمصداقية الذين لطالما حلوا ضيوفًا على برامج التليفزيون والراديو والصحف الخاصة وأحيانًا الحكومية، وليس ذلك بإرادة أي من الأنظمة المتعاقبة إنما ذلك بسبب طغيان قضايا انتهاكات حقوق الإنسان على الساحة، ووجود تاريخ لتلك المؤسسات وكوادرها في الدفاع عنها، وأيضًا كان ذلك بسبب هامش الحرية الذي أفرزته ثورة الخامس والعشرين من يناير والذي تحاول السلطات حاليًا محوه نهائيًا.
أفرزت الثورة أيضًا مجموعات حقوقية مستقلة عمادها هو نشطاء سياسيون وحقوقيون مستقلون تمامًا؛ مثل «مجموعة لا للمحاكمات العسكرية للمدنيين»، ومبادرات مكافحة التحرش المختلفة، وعدة حملات الغرض منها المطالبة بالإصلاح التشريعي وخلافه، وحملات مثل أحياء بالاسم فقط للدفاع عن سكان العشوائيات والتنظيمات النقابية المستقلة التي ما زالت حتى الآن تشكل عقبة أمام السلطة للعصف ببعض المكتسبات العمالية، بل إن قضايا حقوق الإنسان أصبحت حاضرة دائمًا على أجندات الأحزاب السياسية وأنشطتها.
وأيضًا فشل السلطات في إثبات أي من ادعاءاتها بفساد تلك المنظمات أو مديريها أو عمالها، أو إدانة تلك المنظمات بثمة اتهامات تتعلق بالعمالة للخارج أو الإضرار بسمعة البلاد هو دليل آخر على جدية تلك المنظمات وحرصها على تحقيق رسالتها على أكمل وجه.
ونحن هنا لا نتحدث عن ملائكية تلك المنظمات ولا ندعي ذلك، فعنصر الخطأ البشري وارد تمامًا في أي نشاط. لكن طرح قضايا حقوق الإنسان على نطاق واسع، وتكوين جمهور من المتطوعين ومن المؤمنين برسالة الدفاع عن حقوق الإنسان، وإجبار السلطات على مناقشة أي مما يتعلق بانتهاكات حقوق الإنسان «حتى ولو بالنفي أو الكذب»، وإتاحة مساحات للضحايا للتعبير عما عانوه ولطلب التأييد المجتمعي وعرض قضاياهم على الرأي العام، لا يعني سوى أن تلك المنظمات وفي ظل تلك الظروف قد أصبحت متنفسًا وقبلة لأعداد هائلة من الضحايا.
وهو ما لفت نظر الدولة إلى ضرورة أن يكون لها ذراع حكومي يعمل على تشويه تلك المنظمات أو إصدار تقارير أو معلومات غير حقيقية لمناصرة السلطات وتبييض وجهها، وهي المنظمات المسماة اختصارًا بالـ GNGOS وهو اختصار لتسمية: «المنظمات الحكومية غير الحكومية»، وهو أيضًا إحدى محاولات الدولة لخلق مجتمع مدني موازٍ أو ممالئ لها تدعم الدولة وجوده وتفرد له وللمسؤولين عنه مساحات واسعة لمهاجمة المنظمات التي استطاعت حتى الآن الحفاظ على مصداقيتها واستقلالها وحيادها وهو ما لم يفلح حتى الآن.
وبالرغم من أن عددًا كبيرًا من نشطاء تلك المنظمات التي تتعرض لتلك الهجمة الشرسة ومسؤوليها إما ممنوعون من السفر، أو مطاردون، أو مجمدة أموالهم، أو قيد التحقيق على ذمة قضايا غير واضحة المعالم. إلا أن ذلك لم يفلح في إجبارها على التوقف عن أنشطتها بل كان الرد الفوري هو أنه لا شيء سيوقفهم عن الاستمرار في الدفاع عن حقوق الإنسان، وهو ما يعني أنهم يدركون تمامًا وواثقون من أن لهم ظهيرًا مجتمعيًا. ولكن السؤال الحقيقي هنا هو: هل يشكل الظهير المجتمعي في ظل حالة «شبه الدولة» التي نحياها الآن فارقًا؟
بالنظر إلى ممارسات بعض السلطات، حالة اشتداد القبضة الأمنية، التصفيات الجسدية، تصاعد أعداد المحبوسين على ذمة قضايا سياسية، الملاحظات العديدة على أداء ومدى استقلال بعض أجنحة المؤسسة القضائية، وحالة الإنكار الدائمة التي تحياها أجهزة الحكم في الدولة على الصعيدين المحلي والدولي؛ ما دفع بعض أنصارها -ويقال إنه أستاذ علوم سياسية- للقول بإن: «العيب في الشعب مش في الحكومة»، فإن ذلك قد يُفقد أي قوة سلمية أو أي ظهير مجتمعي قدرته مؤقتًا على لعب دور فعال في مواجهة هذه الحالة، وبالتالي فإن الرهان الآن مؤقتًا أصبح على هذه المنظمات وحدها وعلى دائرة ضيقة من داعميها والمتطوعين لمساعدتها في أنشطتها وعلى أجيال أصبحت قضايا حقوق الإنسان على قائمة أولوياتها.
وهو ما يقطع بأن العمل على قضايا حقوق الإنسان تحول من عمل وظيفي إلى حالة يصعب حصارها أو القضاء عليها تمامًا، وأننا ما زال أمامنا جولات أخرى من المواجهة قد تكون أشد وطأة مما نشهده في هذه الأيام؛ نظرًا لافتقاد الثقة في توافر عامل «الرشادة» في التعامل مع تلك المنظمات، وتلك الحالة التي تعتبرها بعض أجهزة الحكم عدوًا لدودًا بلا سبب منطقي اللهم إلا أن انتهاك حقوق الإنسان هو أداة من أدوات تلك الأجهزة في إدارة شؤون الحكم.