عودة الجماهير للمدرجات: لم يتبق سوى المال كحل أخير
آه منكم يا اللي حارمنا منكم. هكذا استطاع مدحت شلبي أن ينهي مسألة غياب الجماهير عن المدرجات في مصر برمتها إلى أبد الآبدين. لولا ما فعلتم قديمًا لما كنتم الآن بعيدًا عن مكانكم المحبب. لكن الحقيقة أن الجماهير أنفسهم لديهم القناعة أن عودتهم للملاعب غير مرغوب بها إطلاقًا بغض النظر عن إمكانية العودة والعوائق المفترضة.
مع مرور الوقت أصبح الحديث عن حوادث بورسعيد والدفاع الجوي والاحتقان الجماهيري وروابط الأولتراس شيئًا من الماضي. وفي المقابل أصبح طقسًا موسميًا ظهور أحد المسئولين للتأكيد أن عودة الجماهير للملاعب على رأس الأولويات وأن كرة القدم دون جماهير لا طعم لها.
لا عادت الجماهير ولا كف المسئولون عن التصريحات، وخلال تلك السنوات الماضية تغيرت معطيات المشهد الرياضي والتي كانت الجماهير أهمها في السابق، ومع تغير تلك المعطيات أصبح غياب الجماهير هو الضرورة لا عودتها.
دعنا نحاول قراءة ما تغير من المشهد لنتفهم سويًا لماذا لا تعود الجماهير للمدرجات كالسابق وعلى الأغلب فهي لن تعود كالسابق أبدًا.
الجمهور البديل والقابلية للتحكم
تزامن ابتعاد الجماهير عن مدرجات كرة القدم مع تعاظم قدر وسائل التواصل الاجتماعي داخل المجتمع المصري. كانت النتيجة الطبيعية هي تحول التشجيع من المدرجات لوسائل التواصل تلك.
مع مرور الوقت فهم الجميع تقاليد اللعبة، أصوات الجماهير تحولت إلى أرقام حسابية للدلالة على الإعجاب بمنشور معين وتم استبدال كابوهات التشجيع داخل المدرج بأشخاص يطلون عبر الإنترنت يستطيعون قيادة الأصوات الإلكترونية وتوجيهها.
بدا هذا مثاليًا للمسئولين عن كرة القدم في مصر لأنه ببساطة قابل للتحكم بنسبة كبيرة. أصبح المسئولون عن الرياضة والأندية أقوى من ذي قبل بشكل ملحوظ لأنهم لا يخافون الجماهير بل أصبحت عملية صناعة الجماهير ذاتها أمرًا سهلًا للغاية.
يستطيع أي مسئول عن كرة القدم في مصر تمرير أي قرار غير مقبول دون عناء مواجهة الجماهير. لأنه إذا كان التعبير عن عدم الموافقة عن هذا القرار سيتضح من خلال هاشتاجات ومنشورات تعبر بها الجماهير عن غضبها فهو يملك الحل.
الحل في صناعة أبواق مضادة للرد على الجماهير وتمثلت تلك الأبواق في ظهور أسماء جديدة لا يمكن حسابها على الأندية بشكل رسمي لكنها تعبر عن آرائها في الشأن الرياضي لتحظى بتأييد مريب دون النظر عن محتوى تلك الآراء.
اكتسبت تلك الأبواق مصداقية عن طريق بث معلومات لا يملكها أحد والحقيقة أن تلك المعلومات تم تسريبها بشكل مباشر من إدارات ومسؤولي كرة القدم في مصر. أصبح هؤلاء يتمتعون بشعبية حقيقية لكنهم لا يملكون من رأيهم الشخصي شيئًا.
يكفي القول إن هناك حادثة معروفة عن أحد أعضاء مجلس الإدارة لنادٍ كبير في مصر قرر توزيع رواتب شهرية على هؤلاء في مقابل توزيع سكريبت محدد لتوضيح وجهة نظر يريدها مجلس الإدارة أن تكتسب قبولًا جماهيريًا.
كل شخص من هؤلاء الكابوهات الجدد عبر بطريقته وبأسلوبه لكنك تستطيع أن تدرك أن جوهر الحديث معد سلفًا بشكل سهل إذا كنت تتابع الجميع بشكل محايد.
لماذا إذن تعود الجماهير الحقيقية للمدرجات حيث لا يستطيع أحد التحكم في الهتافات المعبرة عن الغضب والقبول تجاه أشخاص محددة؟ خاصًة أن التجربة التي فرضت على الجميع حضور عدد من الجماهير لم تكن مطمئنة.
اقتصر الحضور خلال السنوات الماضية على بعض المباريات الأفريقية للأندية حيث أطلقت بعض الهتافات على غير هوى المسئولين ويستلزم ذلك بالطبع وجود بعض الاحتكاكات والتشديد على الإجراءات الأمنية.
تذكرتي والأمن الذي لا يريد تذكرتي
يظهر هنا العامل الآخر في المعادلة وهو الموافقات الأمنية على حضور الجماهير. يتعامل الأمن دومًا مع جماهير كرة القدم على أنها شغب محتمل، ربما تطور الأمر خلال سنوات الثورة لدرجة أنه وصل لدرجة الثأر الخامد. لكن بعيدًا عن هذا الافتراض فكرة القدم كانت وما زالت تمثل للأمن قلقًا غير مبرر.
يتعمد الأمن خلال المباريات التي تفرض وجود جماهير إلى تقليص العدد واختيار ملاعب بعيدة بشكل ملحوظ حتى يكون عنصر التحكم حاضرًا بقوة.
إحدى تلك المناسبات التي استلزمت وجود جماهير كانت مباريات كأس الأمم الإفريقية المقامة في مصر. هنا ظهر حل منطقي للغاية وهو نظام بطاقة تذكرتي.
تذكرتي من المفترض أنها مؤسسة معنية بتنظيم الفعاليات الرياضية أو الفنية حيث توفر للجماهير التذاكر عن طريق الحجز الإلكتروني والذي يتم باستخدام البطاقة الشخصية لكل فرد من أفراد الجمهور. حسنًا بدا ذلك وكأنه حل مثالي للجميع، فلو أن الخوف من الشغب هو العائق من حضور الجماهير فالحجز بالبطاقة الشخصية من المفترض أن يزيل أي خوف من شغب متوقع.
لكن لم يتم تنفيذ تلك التجربة من خلال مباريات الدوري بعد ذلك والسبب ببساطة أن تجمع عدد كبير من المشجعين على مدار العام مرفوض أمنيًا على الأغلب.
لا تظهر المشكلة الأمنية خلال البطولات المحددة المدة مثل بطولة إفريقيا أو مع عدد قليل من الجماهير خلال مباراة إفريقية للأهلي أو الزمالك. لكن مع وجود دوري يلعب كل ثلاثة أيام على مدار العام والاحتقان المستمر بين الجماهير أصبح تجمع عدد من الجماهير في حد ذاته هو مأزق غير مبرر من وجهة نظر الأمن.
من يريد الجماهير؟
في الحقيقة يبقى السؤال الأخير هنا، طالما أن إدارات الأندية -طالما أنهم غير مهزومين في مباريات الذهاب- والمسؤولين أقوى دون جماهير الملاعب والأمن لا يرحب بالفكرة، فمن يريد الجماهير بشكل حقيقي؟
الحقيقة أن الأمل الأخير لدى الجماهير في مصر هو أن ينظر لها نظرة اقتصادية بحتة. جمهور كرة القدم في مصر جمهور شغوف بشكل واضح للجميع وهو شريحة مضمونة اقتصاديًا لأي جهة تقرر الاستثمار فيما يتعلق بحضور الجماهير في مصر.
ربما يتسبب ذلك بشكل مباشر في قلة عدد الحضور وهو ما سيرضي جميع الأطراف، حيث تملك تركيا تجربة متشابهة حيث تم إقرار نظام بطاقة Passolig ولم تعد التذاكر الورقية صالحة ولا يمكن للجماهير دخول الملاعب باستخدام بطاقة Passolig.
ناهيك عن أن الجماهير التركية تضطر إلى استخدام بنك أكتيف الذي كان مملوكًا لصهر أردوغان لشراء البطاقة بأسعار مرتفعة، لكن فكرة أن يتم مشاركة معلوماتهم الشخصية مع الحكومة أدى إلى انخفاض كبير في عدد الحضور.
بعيدًا عن التجربة التركية لكن النظرة الاقتصادية هي الوحيدة التي تنجح في تذليل الصعاب في مصر. صحيح أن الجماهير ربما تكون أقل، وصحيح أن التذاكر ستكون أغلى بشكل واضح لكن على الأقل ستجد مدرجات مصرية بها عدد مقبول من الجماهير.
حتمًا، ستصرخ بعض الأصوات التي تؤكد أن الكرة للجماهير وأن سعر التذاكر هذا يعني أن الكرة أصبحت للأثرياء فقط وأين حق المواطن البسيط في المتعة. هنا سيكون الرد جاهزًا وبذات النبرة المحببة للقلب: آه منكم يا اللي حارمنا منكم. إنكم فقط لو تعملون أكثر وتحصلون الأموال لما كنتم الآن بعيدًا عن مكانكم المحبب.