الاقتصاد المصري في نصف قرن: من ثورة يوليو حتى الألفية
هذه المقالة هي مقدمة الترجمة العربية لكتاب «الاقتصاد المصري في نصف قرن: منذ ثورة يوليو حتى نهاية الألفية» لخالد إكرام التي أنجزها الباحث والمترجم الاقتصادي مجدي عبد الهادي الحاصل على جائزة المركز القومي للترجمة، وقد صدر الكتاب عن الهيئة المصرية العامة للكتاب.
هو قطعًا ليس الأول من نوعه ولا الوحيد في موضوعه، لكنه ربما كان أشمل ما صدر حتى تاريخه في تحليل، لا مجرد عرض ووصف، تاريخ الاقتصاد المصري في النصف الثاني من القرن العشرين، ولعلّ هذه أولى مزاياه، فإلى جانب الموضوعية النسبية والانضباط المنهجي، لم يغطّ عمل واحد في حدود علمنا كل هذه الفترة؛ ما يجعله مرجعًا لا غنى عنه للباحث المتخصص والقارئ العام المهتم على حد سواء.
ومما يميّزه كذلك ويزيد أهميته، اشتباك مؤلفه العملي مع واقع الاقتصاد المصري، خلال فترة عمله كمدير لمكتب البنك الدولي بمصر؛ ما وفّر له إمكانية تحليله من موقع «المراقب – المشارك» على حد وصفه، ما يجعل كتابه أكثر من مجرد بحث أكاديمي غارق في الأرقام، من دون تماسّ مع خلفياتها أو معرفة بكواليس الإدارة الاقتصادية والسياسية، مما يفتقده غالبًا أي أكاديميين لم تُتح له هذه الفرصة النادرة نسبيًا.
وتتجلّى شمولية العمل وعمقه معًا في طريقة تقسيمه المصفوفية لموضوعاته المُتسلسلة منطقيًا، فبعد عرض عام للتطورات الاقتصادية العامة واتجاهات السياسات الاقتصادية، بتغيّراتها وتحوّلاتها عبر الفترة، في ثلاثة فصول اختصّ كلُ منها بفترة جزئية مثّلت مرحلة مختلفة إلى حد ما في توجّهاتها العامة وسياساتها التفصيلية، انتقل المؤلف للأبعاد العضوية والوجوه النوعية المختلفة للاقتصاد القومي في ستة فصول، بدأها بفصل عام عن اتجاهات النمو والإنتاجية العامة والتغيّر الهيكلي للاقتصاد، ثم خصّص فصلاً لكل من هذه الأبعاد والوجوه، من قطاع خارجي ومالية عامة وسوق نقدي ومالي وسوق عمل وفقر وتوزيع دخل، لينهي بفصل حول المستقبل، طرح فيه خطوطًا عامة للتنمية المُستدامة في مصر، مناقشًا عديدًا من قضاياها الاستراتيجية والمؤسسية.
ولا تهدف هذه المقدمة لعرض أو تلخيص العمل، فهو واضح بما يكفي لقراءته مباشرة، بل تحاول تقديم تغطية شديدة الإيجاز لما لم يغطّه الكتاب تاريخيًا، والأهم تحليليًا، من صورة أعمّ لتطور الاقتصاد المصري بالمنظور البنيوي التاريخي، الأوسع نظرة من المنظور النيوكلاسيكي الذي يتبنّاه الكتاب، والذي لا يعطي صورة للقصة الكلية للاقتصاد المعني في مسار تطوره التاريخي العام، أي ما يمكن وصفه بمنطق تطوّره، لا مجرد صيرورة ذلك التطور!
لهذا لا نرّكز على الأحداث والتطورات التفصيلية، بل نناقش محطات التحول الرئيسية والمكونات التحتية الأكثر تجذرًا من بُنى موروثة ومُحرّكات سياسات واتجاهات تطوّر هيكلي، وكيف تفاعلت لتنتج معًا ما نراه من تجليات للعجز التنموي وظواهر اقتصادية كليّة مما يناقشه الكتاب تفصيلاً في مواضعه، ولماذا تعثرت، وما زالت تتعثر، كلٌ من الاشتراكية والليبرالية في مصر، تاركين للقارئ استنتاج الأبعاد العامة للعجز التنموي المصري وحلوله!
ما قبل ثورة يوليو: أيّ اقتصاد خلّفته مرحلة الاستعمار-الملكية؟
باستثناء إجراءات محدودة كالإصلاح الزراعي وغيره، لم تتحقق يوليو حقًا كثورة ذات توجّه واضح وأثر عميق سوى بتأميمات 1961م، فلم يكن ما قبلها سوى حالة من التخبّط المستمر، في صورة دعاوى إنشائية لا تغيّر واقعًا ولا تحرّك موضعًا، فلم يجر أي تغيّر نوعي كبير على الاقتصاد المصري بعد يوليو 1952م، وإن حدثت بعض التطورات الكمّية في اتجاهاته السابقة، لكنه استمر في المُجمل على ذات طابعه الهيكلي تقريبًا حتى أتت التأميمات، التي ربما سبقتها بعض التغييرات المؤسسية، لهذا ربما يكون من الأجدى التركيز على أوضاع هذا الاقتصاد قبل التأميمات مباشرةً في سياق مُقارنتها بأوضاعه وقت قيام الثورة؛ لفهم دوافع تلك الإجراءات.
أولاً: على صعيد التنظيم الاجتماعي للإنتاج، كان الهيكل الإنتاجي المصري حتى أواخر الخمسينيات بصفة عامة، هيكلاً ذا طابع زراعي محدود العمق الصناعي والتكوين الرأسمالي، مع تركّز احتكاري وتورّم خدمي سابق لأوانه، فنجد تكوينًا قطاعيًا نصفه خدمات وثُلثه زراعة، فيما لم تتجاوز صناعته 12% منه عام 1953-1954م، نجحت جهود الثورة في الإطار القائم قبل التأميمات مباشرةَ عام 1959-1960م، في الوصول به لتركيب أكثر تصنيعًا، بلغت به الصناعة والتعدين 20% تقريبًا، وظلّت الزراعة على حالها تقريبًا بنسبة 31%، فيما لم تنخفض حصة الخدمات عن 47% من الناتج المحلي الإجمالي.
أما التكوين الرأسمالي، أي نسبة رأس المال الإنتاجي في الاقتصاد، فكان استهلاكيًا ضعيف التكوين الإنتاجي، ما ظهر أولاً في غلبة الصناعات الاستهلاكية التي بلغت حصتها 74% من القيمة المُضافة للقطاع الصناعي عام 1950م، فيما بلغت حصص الصناعات الوسيطة 24% والاستثمارية 2% فقط، وثانيًا، في غلبة المزارع الصغيرة على القطاع الزراعي (بسبب الاستقطاب الشديد في توزيع الملكية الزراعية قبل الإصلاح الزراعي)، وغلبة المنشآت الصغيرة على القطاع الصناعي (بسبب غلبة النمط الحرفي وتركّز رؤوس الأموال رغم قلّتها)، وثالثًا، في ضعف رأس المال الثابت وانخفاض التكوين الرأسمالي في مُجمل الاقتصاد، وإن حاولت الثورة معالجة هذا الضعف، فزادت نسبة الآلات إلى جملة الواردات من 4.5% عام 1952م إلى 11% عام 1959م، تعبيرًا عن رغبتها في التطوير الصناعي؛ ما انعكس في تحسّن طفيف في تكوين القيمة المُضافة الصناعية، التي توزّعت ما بين 59% للصناعات الاستهلاكية و33% للصناعات الوسطية و3% للصناعات الثقيلة.
من جهة أخرى عانى هذا الهيكل الإنتاجي من استقطاب احتكاري شديد كابح للتطور الإنتاجي والسوقي والاجتماعي، فخلافًا للقطاع الزراعي الذي كان يملك فيه 0.4% من الملاك (50 فدانًا فأكثر للمالك) 34% من الأراضي الزراعية، بما يعادل تقريبًا مجموع ملكية 94.3% من الملاك (أقل من خمسة أفدنة للمالك) عام 1952م، والتي لم تتناول قوانين الإصلاح الزراعي منها سوى 12% من الأراضي حتى عام 1959م، نجد أن الصناعة كانت تعيش استقطابًا هائلًا من بضع منشآت احتكارية ضخمة ضمن بحر من المنشآت الصغيرة والقزمية، فظلّت نسبة المنشآت المتوسطة (من 50 إلى 500 عامل)، والتي تمثّل أحد أهم معايير تعمّق التصنيع، تدور حول 18% بين عامي 1952 و1961، فيما انخفضت نسبة مساهمة المنشآت الكبرى في التوظيف الصناعي من 83% من مجموع العمالة الصناعية عام 1950م إلى 60% عام 1957م؛ ما يعكس آثار الاحتكارية وتشبّع السوق على سوق العمل.
ثانيًا: على جبهة الإطار المؤسسي، نجد حالة غياب للمنظم الرأسمالي وقلة في المرونة الإنتاجية والسوقية وإمكانات التطور التنظيمي، فمؤسسات سياسية غير مرنة لم تنجح الثورة في استبدالها أو تعديلها بشكل حقيقي، وغلبة لشكل محدود الأفق والقدرة الإنتاجية والمالية من التنظيمات الاقتصادية، المُنقسمة ما بين أقزام حرفية وعماليق عائلاتية! وأخيرًا على مستوى الحوافز أنماط استهلاك لا تناسب مستوى التطور الاقتصادي والاجتماعي، وحوافز ادخار واستثمار محدودة كمًّا وكيفًا، وتكاليف صفقات مرتفعة بحكم انخفاض مستوى ونوعية رأس المال الاجتماعي والبشري؛ بما يضّعف العمل من خلال السوق الحرة، بل ويعوق تطورها!
ثالثًا: من جهة الفضاء السوقي، اتسم بالضيق، سواءً في حجمه الخام كسوق داخلي، أو في حجمه الصافي الناتج عن علاقة السوق الداخلية بالخارجية، ما يرجع لضعف الجهاز الإنتاجي على ما سبق ذكره، واستقطابيته الشديدة المُنعكسة في توزيع دخول مختل يخلق هيكل طلب استقطابيًا لا يدعم التنمية الصناعية المُستقرة، فضلاً عن ضعف حجمه بسبب سوء التوزيع، وغلبة الاحتكارية التي تكبح نمو الأسواق وتضعف سيولة تحويل الموارد عبر الأسواق المختلفة استهلاكًا واستثمارًا؛ ما يخلق اختلالاً بين الطلب الكلي والعرض الكلي المحليين، يعزيز تبعية الفضاء السوقي واختراقه من الخارج؛ بما أدخله في حلقة حلزونية من الضعف، يتبادل فيها ضيق الفضاء السوقي واختلاله مع ضعف الهيكل الإنتاجي واستقطابيته التأثير والتأثر؛ بما يعزز في النهاية ركود الهيكل الاقتصادي في مجموعه وتبعيته؛ وبالتالي ضعف نموه الكمي وتطوره الكيفي.
وبجمع كل ما سبق، نستنتج السمات/التفسيرات الآتية للهيكل الاقتصادي المصري خلال فترة ما قبل ثورة يوليو وأواخر الخمسينيات:
- عانى الهيكل الإنتاجي من التناقض بين ضعفه الكمّي وتطوره الكيفي– الشكلي لا غير- فبينما كان له حجم وقدرات رأسمالية صغيرة ناشئة، كان له شكل وسمات رأسمالية احتكارية متطورة؛ ما أفقده المزية الكيفية الأساسية للرأسمالية الناشئة (المنافسة العالية)، والمزية الكمّية الأساسية للرأسمالية المتطورة (ارتفاع الإنتاجية)!
- خنق هذا الطابع الاحتكاري تطوّر هذه الرأسمالية في مرحلة مُبكرة من وجودها؛ فلم يعد يحمّل الشعب فقط بتكاليف الاحتكار (كمّ إنتاج أقل بأسعار أعلى=مستوى معيشة أقل)، بل فعل ذلك أولاً في سياق متخلف لا يحقق حتى مزاياه الموازية في العالم المتقدم من تطوير تكنولوجي وتنظيمي، وثانيًا بتبعية تكنولوجية للخارج، وثالثًا وهو الأهم بخنق تطور تلك الرأسمالية الناشئة قبل الآوان، وإبقائها في مرحلة الصناعات الاستهلاكية الخفيفة.
- أدى هذا الخنق الاحتكاري المُبكر لخنق نمو الصناعة، والذي أدى مع تقلّص فرص النمو التشغيلي في الزراعة، إلى حالة تحضّر رثّ، يهجر ضمنها الريفيون القرى إلى المدن بحثًا عن فرص عمل صناعية غير موجودة؛ ما أدى لتضخّم سرطاني مُبكر للتشغيل الخدماتي محدود الإنتاجية والمهارات، فضلاً عن تضييق فرص الاستثمار عمومًا دفعًا للاتجاه للنشاطات المضاربية والاكتنازية والهروبية، كإعادة تدوير الفوائض في الأرض الزراعية وفي بناء العقارات وما شابه؛ ما هدّد بزيادة سلطة ملاك الأراضي والعقارات من جهة، وزاد من ميل رجال الأعمال لعدم الاستجابة لدعوات الحكومة المتتالية للاستثمار الصناعي من جهة أخرى.
- أدى التكوين السابق لاختلال العلاقة بين رأس المال الثابت ورأس المال العامل على مستوى مُجمل الاقتصاد، فالاحتكارية (وبالتالي عدم مرونة النمو الإنتاجي)، وغلبة الاستهلاكية (أي سيطرة الصناعة الخفيفة التابعة)، وتورّم الخدمات (محدودة التكوين الإنتاجي بطبيعتها)، أدت مُجتمعة لاستمرار انخفاض التكوين الرأسمالي أو التكوين العضوي لرأس المال (أي نسبة رأس المال الثابت إلى مُجمل رأس المال المادي)؛ ومن ثم استمرار انخفاض الإنتاجية وبطء تطور التنظيم والمهارات الإدارية، فضلًا عن غياب آفاق التطور التكنولوجي.
- انعكس هذا الاختلال بين نوعيّ رأس المال كذلك في اختلال بين العرض والطلب على المستوى السوقي، بما له من آثار سلبية على التوازن التجاري (اختلال مُزمن بين الواردات والصادرات لصالح الأولى)، والتوازن المالي (اختلال مُزمن بين الإيرادات والنفقات الجارية لصالح الثانية)، وبالتفاعل مع الاختلالين السابقين على التوازن النقدي (اختلال مُزمن في علاقة العملة المحلية بالعملات الأجنبية وبالإنتاج المحلي)؛ ما جعل تحرير هذه الأسواق من التدخل الحكومي مُخاطرةً كبرى!
- أدت غلبة الخدمات لسوق عمل هشّة ومُجزأة، ولعدم تبلور وتجانس معقول للطبقة العاملة؛ ما أعاق نمو المُكون الماهر في الطبقة العاملة بما له من آثار تراكمية على النمو في الأجل الطويل من جهة، ولم يوفّر أرضية اجتماعية للتحوّل الديمقراطي مُستقبلًا من جهة أخرى.
لماذا اتجهت يوليو للاشتراكية العربية؟
ونتيجة لكل ما سبق أدركت يوليو أن العجز عن التصنيع كان (ولا يزال للمفارقة!) هو جوهر حالة العجز الاقتصادي والتخلّف الاجتماعي لمصر، إنه الرافد الأصل لكافة الفروع/المشاكل، كما هو عصا موسى التي يمكن أن تلقم كافة الأفاعي في ذات الوقت، إنه الضرورة التاريخية التي لا تعدوها ضرورةً أخرى، والتي كان غيابها السبب السوسيواقتصادي الحقيقي لانهيار الملكية شبه الإقطاعية العاجزة عن إنجازها.
وهكذا قضت ثورة يوليو ثمانية أعوام تدعو رجال الأعمال المصريين للتصنيع دونما استجابة جوهرية، فبدأت تؤسس العديد من الهيئات لهذا الغرض واستفادت من التمصير وغيره لبناء قطاع عام يدفع لتنمية الصناعة، مُحاولةً في كل ذلك تشجيع الصناعة بعمل مشترك بين القطاعين العام والخاص، ما دام القطاع الخاص وحده عاجزًا وراغبًا عن الاتجاه إليها.
وتكشف محاولات يوليو عبر ثمانية أعوام اجتذاب رأس المال الخاص لمزيد من التصنيع، بل وتركها مساحةً له حتى بعد التأميم، عن الدافع الحقيقي لإجراءات التأميم نفسها، فلم تكن الأيديولوجيا، أي الاشتراكية هي الدافع له، بل كانت حتمية قيادة الدولة للاقتصاد التابع مفتوح الأحشاء على الخارج وضرورة هيمنتها على الفائض الاقتصادي المُهدر والحاجة لتوجيه الاستثمارات للتصنيع، إنها ضرورة الإنتاج لا الرغبة في العدالة، التصنيع لا الاشتراكية.
أما الإصلاحات الاجتماعية، فلم تأت لمجرد نزعات شخصية ومساومات سياسية، بل أساسًا ضمن الحاجة لتنمية الطلب المحلي لمساندة نمو الصناعة المحلية؛ فلم يكن ممكنًا الاعتماد على هيكل الطلب الاستقطابي الموروث عن الملكية شبه الإقطاعية في دعم تطور صناعة محلية تلزمه قاعدة طلب مستقرة كمًّا وملائمة كيفًا (فحد أدنى من التوافق بين هيكليّ الطلب والعرض يمثل ضرورة اقتصادية)، وإن لم يتم ذلك بنجاح كاف بحكم الطبيعة الاجتماعية للنظام، في ما لسنا في محل تفصيله.
لهذا لا يعدو شعار «حتمية الحل الاشتراكي» وقتها كونه غلافًا لهذه الحاجات (قيادة الدولة للاقتصاد، القطاع العام الإنتاجي، إعادة توزيع الدخل)، حتى مع كونه تعبيرًا عن تصوّر بعض أجنحة النظام بعجز القطاع الخاص المحلي عن إنجاز مهمة التصنيع بمُشتملاتها، وفي ضوء ما تم ذكره وقتها من أسباب أخرى كالسياق الدولي والتاريخي والاجتماعي؛ فكان التأميم وإدارة الدولة للاقتصاد والإصلاح الجزئي لتوزيع الدخل اختيارًا أخيرًا مع العجز عن إقناع رأس المال الخاص بالمشاركة في الخطط القومية لتطوير الصناعة، التي مثّل ضعفها ولا يزال أصل العجز في الاقتصاد المصري، والذي اختار ناصر أن تتصدّى الدولة بنفسها لمعالجته إستراتيجيًا على مستوى الهيكل الإنتاجي (التكوين القطاعي والرأسمالي)، فيما فضّل خلفاؤه اكتفاء الدولة بإدارته تكتيكيًا على مستوى التوازنات الحكومية (المالية والنقدية والتجارية)، وترك الباقي للقطاع الخاص الذي ظلّ عاجزًا، كما أكّدت تجربة الانفتاح التي انتهت بثورة يناير.
لكن لماذ تعثّر تصنيع الاشتراكية العربية؟!
عانت هذه «الاشتراكية العربية» اختلالات واختناقات بنيوية سياسيًا واجتماعيًا مما لسنا في محل تناوله، فضلًا عن مشكلات التمويل والتكنولوجيا والأهم التطور المؤسسي، مما سيتناوله المؤلف في موضعه ويؤكد استمراره حتى يومنا هذا، وحيث لا حاجة في مثل هذه العُجالة لإغراق القارئ في سيل من التفاصيل؛ فسأكتفي هنا بالإشارة لاختلالين بارزين، أحدهما على صعيد هيكل الاستهلاك والآخر على صعيد هيكل الإنتاج.
فأما الأول، فهو الاختلال الفنّي، مُتمثلاً في النزوع التصنيعي- الاستهلاكي السابق لأوانه، أي الإنتاج السابق لأوانه- بالنسبة لمستوى تطوّر القوى الإنتاجية ومستوى الدخل القومي- للسلع المُعمرة، كالسيارات الخاصة والثلاجات والغسالات الكهربائية وغيرها، أو منطق «من الإبرة للصاروخ»، في مجتمع كان أكثر من نصفه يسير حافيًا قبل أقل من عقدين فقط! ولا يمكن اعتبار هذا من الإنجازات، رغم كونه يمثل طموحًا طيبًا؛ لأنه يخالف منطق وإمكانات الواقع (الاتحاد السوفياتي الدولة العظمى لم يدخل هذه السلع سلة الاستهلاك العامة سوى بعد نصف قرن تقريبًا من التطور الكبير!)، فهى تمثل استهلاكًا يفوق إمكانات القوى الإنتاجية والفضاء السوقي المحلّي؛ ما يضعف إمكانات التطور الصناعي لاحقًا؛ كونه يزيد من تشوّه العلاقة بين هيكل الاستهلاك وهيكل الإنتاج؛ ما يضعف النمو المتوازن المنتظم والمُطرد بين الصناعة والسوق؛ كما يعزز استتباع الاثنين للخارج، بفشل إستراتيجية استبدال الواردات، خلافًا للهدف الأساس!
فيما يتمثّل الاختلال الثاني الذي يمثّل الوجه الاجتماعي له، في تمرّكز الطبقة الوسطى حضريًا وريفيًا في قاعدة النظام الاجتماعية، ما يفسّر الاختلال الأول نفسه سياسيًا واجتماعيًا؛ فهذه الطبقة نفسها هي التي تتعجل الاستهلاك الرخيص نسبيًا لتلك السلع المُعمرة، والتي كان النظام يستهدف استرضاءها بمنطق اجتذابها للاشتراكية، أو هكذا قيل! لا عجب أن خدم الإصلاح الزراعي كبار ومتوسطي الملاك الزراعيين في الريف، وأن نمت بيروقراطيتها الإدارية (حجمًا ودخلاً) بشكل أسرع من نمو العمالة المُنتجة في اقتصاد ناشئ يُفترض كونه يسعى للتصنيع! وهكذا زادت وظائف البيروقراطية العامة خلال فترة الستينيات التي ُيفترض أنها كانت فترة تحوّل اشتراكي بنسبة 70% مقابل زيادة 20% فقط في العمالة الإنتاجية، حيث تجاوزت معدلات التضخم البيروقراطي معدلات نمو السكان والعمالة والإنتاج؛ ما مثّل هدرًا وفاقداً اقتصاديًا هائلاً بالنسبة لاقتصاد صاعد، حصّلت تلك الطبقة مكاسبه، ناهيك عن الآثار الهيكلية والكيفية السلبية طويلة الآجل!
لا عجب أن تدهور هذا التصنيع سريعًا، وإن بدأت أزماته قبل حتى استكمال خطته الخمسية الأولى، على كل نجاحها النسبي غير المسبوق محليًا! فما كاد يحلّ عام 1964م، حتى بدأت اختلالات الهيكل تعبّر عن نفسها في تدهور معدلات النمو وعجز في خطط الاستثمار واختناقات عديدة في الاقتصاد؛ ما أدى للتراجع عن التخطيط (الذي كان يُؤمل أن يصبح شاملًا!)، والاكتفاء بأشباه خطط سنوية!
التطوّر الهيكلي العام للاقتصاد المصري
وهكذا لم تكن مرحلة الاشتراكية العربية سوى جملة اعتراضية قصيرة في مسار التطور الهيكلي للاقتصاد المصري، الذي يمثل المُكون الأكثر أهمية وإستراتيجية في حركة وتطوّر الاقتصاد، فهو الذي يحدّد نمط النمو، أي الطريقة التي يتحقّق بها النمو الاقتصادي بكافة أبعاده وتمظهراته الكليّة، ويمكن القول إنه الوجه الكيفي للنمو الكمّي، وهو يتخذ أشكالاً لا حصر لها؛ كونه مُحصّلة تفاعل عديد من البنى والديناميات، كحجم ونوع الموارد الطبيعية والمادية والبشرية المتاحة، وحجم البلد وعدد السكان، والموقع الدولي واتجاهات الاقتصاد الإقليمي والعالمي، والسياق الاجتماعي وبنية السلطة واتجاهات السياسات …إلخ، لكنه يتراوح إجمالًا ما بين نمطين أساسيين في العصر الحديث، هما نمط التصنيع المُستقل ونمط فخ الموارد.
وبالنظر للهيكل الاقتصادي المصري، نجده «أقرب» للثاني منه للأول، حيث نجد الصناعة التحويلية في عام 2015/2016م، قد بلغت بالكاد نسبة 17% من الناتج المحلي الإجمالي، والزراعة نحو 12% منه، بمجموع 29% فقط للقطاعات السلعية، فيما بلغت نسبة الصناعات الأخرى (التعدين والتشييد والكهرباء والمياه) نحو 15% منه؛ لتبقى للخدمات بأنواعها نسبة 55% تقريبًا من الناتج المحلي الإجمالي؛ ما يجعله هيكلًا اقتصاديًا يستحق بالكاد وصف «شبه الصناعي» Semi-Industrial، في ضوء المستوى التنموي لمصر كدولة، كبيرة الحجم سكانيًا (أي لا يمكنها أن تعتمد اقتصاديًا على الخدمات أو تتبنّى توجهًا تنمويًا خارجيًا بحتًا في الأجل الطويل)، تنتمي لشريحة دول الدخل «المتوسط–المنخفض».
ويؤكد اقتراب مصر من هذا النمط الأكثر تخلفًا، مؤشر «التعقيد الاقتصادي»، الذي يقيس درجة تنويع الاقتصاد قطاعيًا وسلعيًا كمقياس لدرجة تطوّره، فنجد مصر في المرتبة 63 من إجمالي 128 دولة غطّاها المؤشر عالميًا، والخامسة من إجمالي ست عشرة دولة غطاها المؤشر على مستوى منطقة الشرق الأوسط، وهي مرتبة متأخرة تضعها على عتبة النصف الأسفل من المؤشر، حيث بلغت قيمة المؤشر لمصر (-0.021)، ضمن مجموعة الدول المنتمية للجانب السلبي منه، بل وأقرب لأدنى قيمة للمؤشر (موريتانيا، -1.907) مما هي لأعلى قيمة له (اليابان، 2.316).
وباسترجاع تاريخي مُوجز لكامل مسار التطوّر الهيكلي للاقتصاد المصري الذي أدى لهذا النمط، نجد حلقاته الكلية الرئيسية كما يلي:
- كان أهم مظاهر الانتهاك الاستعماري، أو الرسملة القسرية بما شملته من استباق علاقات الإنتاج لقوى الإنتاج، ما وصفه دكتور محمد دويدار بحالة «الالتواء الهيكلي، وتحويل هيكل الاقتصاد لكي يتم الإنتاج أساسًا استجابة لاحتياجات الاقتصاد الأم،…، حيث هدفت الدولة في مرحلة أولى إلى بناء اقتصاد مستقل داخل السوق العالمية من دون السماح لرأس المال الأجنبي بأن يلعب دورًا يُذكر داخل مصر، لكنها في مرحلة ثانية تسعى إلى بناء نوع من الاقتصاد السلعي داخل السوق العالمية، لكنها تقبل هذه المرة أن تقوم بذلك، ليس فقط مع وجود رأس المال الأجنبي، وإنما بالالتجاء إليه في شكله المالي كذلك؛ لينتهي الأمر بالدولة إلى تسليم الفلاح إلى رأس المال».
- أدى هذا الربط لرسملة مُعجّلة للزراعة المصرية لحساب الخارج؛ أدت لإغلاق أبواب التشغيل الزراعي أمام ملايين الفلاحين المصريين وطردهم من القرية، لتبدأ عملية تحضّر عشوائية ورثّة؛ بسبب ضعف الصناعة والبنية التحتية ورأس المال الاجتماعي؛ حيث..
- لم يسمح اقتصاد التصدير التابع والخاضع للخارج، الذي ورثته يوليو سوى بنمو مُختنق لصناعة ظلّت في نطاق التصنيع الاستهلاكي الخفيف، لكن للمفارقة وسوء الحظ، بتركيب احتكاري سابق لآوانه بحكم نشأتها أساسًا من باطن طبقة ملاك الأراضي، لا الطبقة التجارية كما حدث في أوروبا، إلى جانب أسباب أخرى بالطبع؛ وهو ما أضعف حوافزها للتطوّر بحكم أرباحها الاحتكارية، كما أضعف قدرتها على توفير فرص عمل للملايين النازحة من الريف المصري؛ ما أدى لنشوء فائض عمل مُزمن نتج عنه..
- تضخّم قطاع خدمات، تغلب عليه العشوائية واللارسمية، لاستيعاب هذه الملايين في «تشغيل فقر» منخفض المهارات والإنتاجية، مثّل أرضية التحضّر العشوائي الرثّ المذكور آنفًا، بكافة آثاره الاقتصادية والاجتماعية، والذي..
- أدى متواكبًا مع ضعف التشغيل الصناعي (بمزاياه المُفترضة/المفقودة على الصعيدين الفردي والاجتماعي) مع التركيب الاحتكاري للصناعة، إلى انقسام وتفتّت للطبقة العاملة (الضروري توحّدها للتحوّل الديمقراطي)، كذا أدى بالتفاعل مع حالة الفقر الحضري العام (ناهيك عن الريفي الطبيعي في بلد متخلف)، إلى تباطؤ التحوّل السكاني؛ ومن ثم الاحتجار الديموغرافي في مرحلة النمو السكاني المرتفع (المرحلة الثانية)؛ ما رفع معدلات الإعالة والاستهلاك، وخفض معدلات الادخار الفردي والعام؛ الذي أدى بدوره إلى..
- ضعف الاستثمار، سواءً في رأس المال الإنتاجي أو الاجتماعي أو البشري؛ ما أضعف النمو الاقتصادي الكمّي وأبطأ التطوّر الهيكلي الكيفي، وفرض ضغطًا كبيرًا على الموارد العامة يدفع للاتجاه للموارد الريعية والاستدانة المُستمرة لمواجهة الحاجات والمطالب المحلية المتزايدة،
- أدت حالة فائض العمل، مع الحالة الاحتكارية وضيق السوق وضعف رأس المال الاجتماعي ابتداءً، لإضعاف حوافز تطوير صناعة ثقيلة أو شبه ثقيلة؛ ما أضعف تطوّر الصناعة عمومًا، وأبقاها تابعة للخارج تكنولوجيًا؛ وأضعف من ثم فاعلية إستراتيجية استبدال الواردات في الستينيات؛ لتصل إلى سقفها سريعًا، قبل أن تحقّق نقلات اقتصادية وتنموية نوعية، خصوصًا على صعيد الصناعة، مع تأزّم مُزمن في التصدير الصناعي كمورد للنقد الأجنبي.
- تعمّق هذا الضعف الصناعي، مع اختناق آفاق نموه بضيق السوق وتراجع الدعم الحكومي بعد إقرار سياسات الانفتاح الاقتصادي، وتراجع معه القطاع الزراعي؛ لتضعف الموارد الضريبية الإنتاجية، وتتعزز الفجوة التجارية السلبية؛ لتتفاعل مع تأزم النقد الأجنبي؛ وتؤدي مُجتمعة إلى..
- فجوات تجارية ومالية ونقدية مُزمنة، دفعت الحكومات المصرية للتركيز على تنمية الموارد الريعية (سهلة وعاجلة التحصيل نسبيًا) لا الإنتاجية (المشروطة بتحسين الإنتاجية والتنافسية)، كحلول سريعة سهلة لمواجهة هذه الفجوات العاجلة كما المُزمنة؛ فزاد الاعتماد على الموارد الخارجية الريعية وشبه الريعية (صادرات البترول والغاز الطبيعي، تحويلات العاملين بالخارج، عوائد السياحة وقناة السويس، الإعانات الخارجية)؛ بآثارها على النمط الاقتصادي الاجتماعي، حيث..
- أصبح مُجمل الأداء الاقتصادي المصري عبر النصف قرن الماضي تقريبًا مرتبطًا بتقلّبات الريوع الخارجية المتوفرة له، والتي قدّرها قمر وسوتو كمتوسط عام بنحو 15% من الناتج المحلي الإجمالي خلال الفترة 1970-2013م، فيما قدّرها حازم الببلاوي بنحو 20% منه خلال الفترة 1993-2005م، وكلاهما معدل عال مقارنًة بالمتوسط العالمي البالغ 8.7%، بل وحتى مقارنة بمعظم البلدان العربية غير النفطية، علماً أنه قد يكون أكبر لو أخذنا في الاعتبار كافة الأشكال غير المباشرة من الريع، وهو ما أدى إلى..
- ظهور أعراض للمرض الهولندي والاتجاه الريعي عمومًا في الاقتصاد المصري، خصوصًا بسبب المعونات وتحويلات العاملين بالخارج؛ ما عزّز الطابع الريعي مرة أخرى لسببين، أولهما على المستوى الميكروي، بتوسيع نطاق وممارسات الأنشطة والقطاعات الريعية في الاقتصاد على حساب نظيرتها المُنتجة، وثانيهما على المستوى الماكروي، بإضعافه الإنتاجية العامة والتنافسية الدولية؛ ما أضعف النمو والموارد المالية ذات الأصل الإنتاجي؛ لتزيد حاجة الحكومة واعتمادها على الموارد الريعية، اللذيّن كانا من محفّزات تلك الحالة ابتداءً!
وينتهي بنا هذا المسح الاقتصادي التاريخي شديد التبسيط والعمومية لنمط النمو ولمسار تكوّنه، إلى غلبة الطابع الريعي على النمط الاقتصادي المصري، بما يقرّبه من نمط فخ الموارد المذكور، كذا يشير إلى أربع سمات رئيسية مترابطة لهذا النمط، هي «عجز التصنيع وفائض العمل» الموروثين بتوابعهما عن الرسملة المُختنقة بتبعيتها السوسيوتاريخية وطرفيّتها الجيوتاريخية، و«المرض الهولندي والمالية الريعية» المُستجدّان بآثارهما نتاج الطفرة النفطية والانفتاح الاستهلاكي.
تجلّيات العجز التنموي المصري
انعكس هذا الطابع الريعي للنمط على ضعف الهياكل الإنتاجية بمُجملها؛ ومن ثم: (1) ضعف الإنتاج السلعي المحلي واختلال هياكل الطلب والعرض؛ فزيادة للواردات على الصادرات؛ تخلق عجزًا تجاريًا مُزمنًا في ميزان المدفوعات، كذا (2) ضعف القيم المُضافة في الاقتصاد؛ وبالتالي ضعف الموارد المالية العامة المُستخلصة منها؛ فغدت الإيرادات الحكومة أقل من نفقاتها باستمرار؛ لتخلق عجزًا ماليًا مُزمنًا أيضًا، و(3) بتفاعل العجزين تولّد عجز نقدي مُزمن كذلك انعكس على سعر الصرف؛ لينعكس بدوره سلبًا عليهما، فضلاً عن آثاره الهيكلية على تخصيصات الاستثمار، ومستوى المعيشة ..إلخ.
ونتيجة لسياسات اللبرلة العشوائية، انخفض الاستثمار العام من دون تعويضٍ موازٍ من الاستثمار الخاص؛ فانخفض الاستثمار الكلي بالمُحصلة من 33.37% إلى 19.5% من الناتج المحلي الإجمالي بين عاميّ 1975م و2010م؛ ما ظهر في الضعف النسبي لمُعدل التكوين الرأسمالي، الذي بلغ نحو 26% فقط خلال الفترة 1965-2010م.
وحيث انخفض الاستثمار الكلي، ومن ثم الإمكانات الكلية لتوليد الوظائف، كما تشوّه توزيعه لصالح القطاعات الخدمية على حساب القطاعات السلعية، أي لصالح القطاعات ذات معدلات التشغيل الأقل كمًّا وكيفًا؛ كان حتمًا أن ينخفض المعدل الصافي لخلق الوظائف الجديدة اللائقة، ما تجلّى في الفجوة السلبية بين معدل نمو التشغيل ومعدل نمو قوة العمل، حيث بلغ متوسط النمو السنوي للأول 2.6%، وللثاني 2.8% خلال الفترة 1980-2005م، مع تذبذب كبير في مرونة التشغيل (أي مدى انعكاس النمو الاقتصادي على خلق فرص العمل)، لكن في مستوى متدن نسبيًا لم يتجاوز 0.46 خلال معظم الفترة ما بين الثمانينيات وثورة يناير، علمًا بأنه، حتى بمستواه المذكور، يتضمّن انحيازًا لأعلى بما يتجاوز حقيقة الواقع؛ لتضمّنه معايير قياس منحازة لأسفل في مسوح وتقديرات البطالة الرسمية في مصر، ولتضمّنه نسبة عالية من التشغيل غير الرسمي والبطالة المُقنّعة.
وإذا أضفنا ضعف الإنتاج السلعي بالنسبة للطلب الاستهلاكي– المباشر وغير المباشر وكميًا وكيفيًا- عليه؛ ومن ثم ارتفاع نسبة المُكون الاستيرادي في إشباع الطلب المحلي، خصوصًا في سلة السلع الاستهلاكية الأساسية؛ فتزايد الفجوة بين الأسعار (ذات المُكون الدولي المرتفع) والأجور (ذات الأساس المحلي المنخفض)، خصوصًا مع ما تعانيه الأخيرة من جمود في مواجهة ارتفاع الأسعار عمومًا (نتيجة وضعية فائض العمل الهائل والتركيب الاحتكاري للاقتصاد)، وشمول الأولى لنسبة من التضخّم المُستورد؛ كانت النتيجة المنطقية لكل ذلك انخفاض الدخول الحقيقية كصافي قوة شرائية؛ وبالتالي زيادة معدلات الفقر، علاوةً على ارتفاع درجة الانكشاف على التأثيرات الخارجية، ما ظهر بشكل خاص في آثار أزمات الغذاء على أوضاع المعيشة والاستقرار السياسي، بما تجلّى في التزامن المدهش بين ارتفاع أسعار الغذاء (وارتفاع معدلات الفقر بخمس وثلاثة درجات مئوية على التوالي) في ربيع 2008م وشتاء 2011م من جهة، والاضطرابات السياسية في 6 أبريل 2008م و25 يناير 2011م من جهة أخرى!
وبصفة عامة، لم تنعكس مُعدلات النمو العالية قُبيل الثورة– التي يتشدّق بها الاقتصاديون الشكليون قصيرو النظر!- إيجابًا على أوضاع المعيشة أو سلبًا على مدى انتشار الفقر، فتذكر دراسة عن البنك الدولي أنه خلال الفترة 2005-2008م، لم يبق بعيدًا– ولو بالكاد- عن خط الفقر سوى 45% من السكان، فيما هبط الـ55% الباقون تحته لفترة ما على الأقل؛ فلم يكن نموًا احتوائيًا داعمًا للفقراء والطبقة الوسطى، فزادت نسبة الفقراء إلى إجمالي السكان بمعيار فقر الدخل من 3.6 إلى 4.8% وفقًا لخط الفقر المُدقع، ومن 19.6 إلى 25.2% وفقًا لخط الفقر الأدنى، ومن 40.5 إلى 48.2% وفقًا لخط الفقر الأعلى، بين عاميّ 2004 و2011م فقط!
لا عجب أن عزّز هذا النمو الريعي/اللااحتوائي سوء توزيع الدخل، فانخفض نصيب حقوق الأجور في الناتج المحلي الإجمالي، لصالح حقوق الملكية (الأقلّوية بطبيعتها) من 40% أوائل الثمانينيات إلى 26% عام 2011م، وأن تتسبّب اللامساواة وحدها في خسارة مؤشر التنمية البشرية لمصر عام 2010م لفارق نسبي بمقدار 24%، من 0.644 للمؤشر العادي إلى 0.489 للمؤشر المُعدل بدرجة اللامساواة (وذلك مقارنة بخسارة 6% فقط في الدول ذات درجات اللامساواة المنخفضة)، ما ظهر في توزيع معدلات الرضا عن الحياة، حيث اتجهت على مستوى فئاتها الثلاثة للتدهور، فانخفضت نسبة من «ازدهروا» وإن بشكل طفيف، ومن «يكافحون» بنسبة معتبرة، لصالح زيادة نسبة من «يعانون» بما يقرب من الضعف!
لماذا تتعثّر اللبرلة الاقتصادية في مصر؟
عندما يطرح صندوق النقد ورديفه البنك الدولي، مشروعاتهما للبرلة اقتصادات العالم الثالث، فإنهما يقدمان «شَرْبة» شبه ثابتة من مجموعة سياسات لا تتغيّر تقريبًا، تتحدد خطوطها العريضة فيما يُعرف بالمشروطية المُتمحورة حول مجموعة من التوازنات المالية والنقدية والسوقية الداخلية والخارجية من دون مراعاة لاختلافات الأوضاع الواقعية والخلفيات التاريخية.
فالرأسماليات التابعة المتخلفة كحالنا تعاني– وفق ما سبق بيانه- عددًا من الاختلالات الهيكلية التاريخية التى لا تتواءم بسهولة مع النموذج النيوليبرالي؛ ما يجعل تطبيقه لا ينجح محليًا (على افتراض صحته النظرية)، وهو ثانيًا أشد ضررًا في سياقات بلداننا مما هو عليه في سياقات البلدان الرأسمالية المتقدمة.
وبالتأكيد لا يسمح لنا المجال هنا ببيان شامل لتناقضات الواقع والنموذج عمومًا وخصوصًا، لهذا سنكتفي بعرض مُوجز للتناقضات الهيكلية العامة لهذه الرأسمالية التابعة، وما يتصل منها خصوصًا بمسألتنا المتعلقة بملاءمتها لتطبيق ذلك النموذج في نقاط مركّزة:
1. الاختلال «السوقي» بين العرض والطلب
نتيجة لضعف القدرات الإنتاجية، ينشأ عجز مزمن في الاكتفاء الذاتي من معظم السلع الزراعية والصناعية، ويؤدي التقيّد بسلّة محدودة من هذه السلع لتكلفة اجتماعية مرتفعة تأتي على حساب غيرها من السلع، ما ينعكس «بالسلب» على العلاقة بين الأجور والأسعار والضرائب، ومن ثمّ الموازنة العامة، وكذلك على العلاقة بين الصادرات والواردات، ومن ثَمّ موازين المدفوعات وأسعار الصرف،
وبالطبع يتعارض هذا كله مع سياسات التحرير السوقي محليًّا (الاعتماد فقط على القطاع الخاص وتحرير الأسعار) وخارجيًّا (تحرير التجارة الخارجية)، ويجعلها سياسات دافعة لتفاقم هذه الاختلالات الخطرة، لا علاجها كما يعدنا النموذج الليبرالي النظري وكما قد يحدث بالفعل حينما يُطبّق الرأسماليات التي لا تعاني هذا الاختلال الهيكلي.
2. الاختلال «المؤسسي» بين المنظومة والحوافز
بينما تروّج المنظومة السياسية للمنافسة الحرة المدفوعة بحافز الربح، فإن سياساتها الواقعية يعتريها الفساد على كافة المستويات، لنرى أن عمل أي مؤسسة اقتصادية يعتمد على علاقاتها بالمؤسسات السياسية، كما تسود «الزبونية» و«المحاسيبية»، حيث يحصل المقربون من السلطة على امتيازات غير سوقية
وهكذا تتقيّد المنافسة الحرة بهذه السمات غير النزيهة، وتضع تلك المنظومة مصالح حلف البيروقراطية- المحاسيب فوق الصالح العام، فتتشوّه الأسواق وتتوزّع الموارد والفرص الاستثمارية وفقًا لاعتبارات لا علاقة لها بالحوافز المُعلنة، وتكتسب الممارسات الليبرالية المُعلنة صبغة بيروقراطية محاسيبية، فتأخذ ممارسات كالخصخصة وما شابه صيغًا توزيعية خاضعة لعلاقات واعتبارات القوة السلطوية، لا علاقات السوق واعتبارات الكفاءة الاقتصادية؛ لينتهي تحرير السوق بدعوى رفع كفاءته إلى أوضاع تكون أحيانًا أسوأ مما كان عليه الحال عندما كانت الدولة تتدخل بشكل قانوني لضبط السوق.
3. الاختلال «الإنتاجي» بين قوى الإنتاج وعلاقات الإنتاج
هذا الاختلال هو الاختلال الأساسي الذي تنبثق عنه كافة الاختلالات الأخرى، فهو أساس اختلال العرض والطلب، ومُنطلق اختلال المنظومة والحوافز، فضلًا عن دوره في اختلال السكان والموارد المذكور لاحقًا، إنه الاختلال الناتج عن حالة «التخلّف الهيكلي» التي أنتجها الاستتباع الاستعماري التاريخي، وهو الاختلال الأشمل بين علاقات إنتاج القيمة وتداولها من جهة، والتكنولوجيا الإنتاجية والتنظيمية التي تحقّق تلك القيمة من جهة أخرى،
ويؤدي هذا الاختلال لعرقلة تطوّر القطاعات الإنتاجية، فتتعثّر عملية «التحوّل الهيكلي» الاقتصادي والاجتماعي بمجملها؛ فلا تتكوّن الرأسمالية في تبلّورها اقتصاديًّا بالتصنيع، واجتماعيًّا بالتحضّر، وسياسيًّا بالتحول الديمقراطي، وثقافيًّا بالعلمنة، وهي التحوّلات التي تمثّل الأرضية الضرورية للنموذج الليبرالي، والمُحتجزة مع ذلك في الدول التابعة كمصر، «فتصنيعها هشّ، وتحضّرها رثّ، وتسيّسها تبقرُط، وعلمنتها تثاقف»؛ ما يجعل لبرلتها عشوائيًا مُفاقمةً لكل ذلك، لا علاجًا له.
4. الاختلال «التكنولوجي» بين السكان والموارد
نتيجة الانفصام بين علاقات الإنتاج وقوى الإنتاج؛ انفصمت العلاقة المُحرّكة لنمو السكان بالتوازي مع ما ينتجونه من قيمة، حيث أطلق الاستتباع الاستعماري علاقات رأسمالية حفّزت نموًا سكانيًّا سريعًا مع ما قدمته من مزايا الرعاية الصحية الأفضل ونحوها من الخدمات، بينما كبح تخلّف قوى الإنتاج، وكبت تطوّرها بعلاقات التبعية، نمو الإنتاج الصناعي بما يفي باحتياجات هذا النمو السكاني؛ فتفاقمت المشكلة السكانية، لدرجة تجعل أي لبرلة مُعجلة من دون سياسات حماية اجتماعية واسعة ومناسبة، إفقارًا واسع النطاق!
إذن أين المفرّ؟!
قد يتساءل القارئ الآن، إذا كانت الاشتراكية قد تعثّرت، والليبرالية محل تساؤل، فأين نذهب؟ والحق أن سؤالاً كهذا أكبر من إجابته في محل واحد أو باجتهاد فردي مهما كان، وكل ما سعينا إليه هنا هو استكمال الصورة التفصيلية التي قدمها الكتاب بمنهجيته الاقتصادية التقليدية، بعرض وتحليل بنيوي تاريخي أكثر بانورامية، يربط التفاصيل ويجمع الشظايا في صورة كلّية واحدة، كما يلفت النظر لأبعاد ومستويات أخرى للمشكلة التنموية المصرية، في محاولة لوضع أيدينا على المفاصل الأكثر تاريخية وإستراتيجية للاقتصاد المصري عمومًا.