الاقتصاد المصري في 2019: لماذا سترتفع الأسعار مجددًا؟
كان يعيش على حافة «مصيدة الفقر» دون أن تشعر به الحكومة، بشكل يجعله عُرضة للدخول في دائرة مفرغة من الفقر، إذا مر بأي صدمة غير متوقعة.
هذه قصة حقيقية درات أحداثها في إحدى القرى المصرية، نسرد من خلالها ما حدث لـ 5 ملايين فرد سقطوا تحت خط الفقر خلال أربع سنوات فقط (2015-2019)وفقًا لتقديرات أولية للجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء.
يعول عم سيد زوجة وأربعة أطفال، ولد وبنت من صلبه، وولد وبنت من صلب أخيه الذي توفي في حادث بالقاهرة، وكعادة الريف تزوج عم سيد أرملة أخيه وضم عيالها لعياله.
فقد عم سيد نور إحدى عينيه، وضَعُف نور الأخرى بشدة على يد طبيب وصف له جرعة كورتيزون زائدة كعلاج لخلل في الشبكية، وما زاد الطين بلة هو فقدانه مصدر دخله الوحيد بموت حماره الذي يعمل به أجيرًا في حقول الآخرين، يحرث به قطعة أرض أو يحمل عليه إردب ذرة وغيرها من الأعمال البسيطة التي يعيش عليها ويؤمِّن بها قوت عياله وعيال أخيه.
بموت الحمار كان على الابن الأصغر (بالمرحلة الإعدادية) الخروج من المدرسة والتوجه إلى العمل، أما الابن الأكبر فهو يعمل بجانب دراسته الجامعية في أحد مصانع مدينة السادات، وأما البنت الصغرى (بالمرحلة الإعدادية أيضًا) فقد تراكمت عليها مصاريف الدروس الخصوصية، واضطرت إلى أن تنقطع عنها، وهو ما يهدد حلمها بالالتحاق بالثانوية العامة ثم الجامعة.
يبدو أن عم سيد وأسرته انزلقوا لتوهم في مصيدة الفقر، تسرب من التعليم، أعمال هامشية، دخل ضعيف، وهكذا تستمر هذه الدائرة الخبيثة، كل ما كان يحتاجه عم سيد هو تأمين ما يكفي لتعليم أولاده، حتى ينتشلوه من هذه الدائرة المفرغة، ولكن جاء أجل الحمار!
كان تحرير سعر الصرف في نوفمبر/تشرين الثاني 2016، وتخفيض نسبة من دعم الوقود أكثر من مرة، صدمات مماثلة لموت حمار عم سيد، زجت بملايين المصريين تحت خط الفقر، هل كان ذلك متوقعًا؟ نعم بالتأكيد، هل كان من الممكن تفاديه؟ دعنا نجيب على ذلك السؤال باستشراف ما يمكن أن يحدث لأمثال عم سيد في 2019 نتيجة السياسات الاقتصادية للدولة.
كيف تُدير الدولة اقتصاد الفقراء؟
بدا واضحًا منذ 2014 أن الرئيس عبد الفتاح السيسي لديه طموحات استثمارية ضخمة، وأنه لا يؤمن بفقه الأولويات، فكل قطاعات الدولة تمثل أولوية على حد قوله في أحد مؤتمرات الشباب.
الاستثمارات الجديدة تحتاج إلى تمويل، ولا سبيل لتدبير موارد مالية إلا بفرض ضرائب جديدة أو الاقتراض في فترة نعاني فيها عجزًا في ميزان المدفوعات، اختارت الحكومة الخيار الثاني لتمويل مشروعات تنموية مهمة كالتعليم والصحة؛ حيث صدَّقت في نوفمبر/تشرين الثاني 2018 على قرض لتطوير الرعاية الصحية بقيمة 530 مليون دولار لتطوير الرعاية الصحية، و17 يناير/كانون الثاني 2019 صدَّق رئيس الجمهورية على قرض آخر بقيمة 500 مليون دولار لتطوير التعليم. كما اعتمدت على الاقتراض أيضًا لتمويل مشروعات أخرى أقل أهمية؛ كمشروع الضبعة النووي لتوليد الطاقة الكهربائية بقيمة 25 مليار دولار، وتفريعة قناة السويس الجديدة بقيمة 64 مليار جنيه تم اقتراضها من المصريين.
هنا تظهر مشكلتان أساسيتان:
1. أن هذا النهج في التمويل غير مستدام وذو مخاطر مرتفعة للغاية وذلك باعتراف البنك الدولي نفسه (الجهة المُقرِضة).ففي تقييمه لمشروع تمويل التعليم أكد البنك الدولي أن مخاطر المشروع مرتفعة، متسائلًا من أين ستوفر الحكومة المصرية الموارد المالية اللازمة لاستكمال المشروع بعد نفاد القرض؟ نفس الأمر بالنسبة لمشروع تطوير الرعاية الصحية.
2. أنه لا بد من سداد هذه القروض ولو بعد حين، وهنا نكون أمام نفس الخيارات من جديد: إما الاقتراض لسداد هذه القروض القديمة وهنا ندخل في دائرة مفرغة من الديون تذكرنا بأزمة الديون المكسيكية في الثمانينيات والأزمة اليونانية في 2015، وإما التوسع في فرض الضرائب وتقليص الدعم لحشد الأموال اللازمة لسداد القروض ودفع فوائدها.
تعتمد الحكومة المصرية على الخيارين في الوقت نفسه وبدرجة أكبر على الخيار الثاني وهو الضرائب. في يونيو/حزيران 2018 انتشرت أخبار مفادها أن هيئة قناة السويس تعتزم الاقتراض من البنوك لسداد شهادات الاستثمار التي أصدرتها عند بدء حفر التفريعة الجديدة، وهو ما نفته وزارة المالية وقتها، ليتردد نفس الخبر من جديد خلال الأيام القليلة الماضية، ولا يعلم أحد مدى صحته.
يبقى الخيار الثاني (الضرائب) هو المؤكد بالبيانات الرسمية والواقع المعيش حتى الآن، فقد ارتفعت الإيرادات الضريبية في الموازنة العامة من 306 مليارات جنيه في 2014 / 2015 أي 66% من إجمالي الإيرادات بالموازنة العامة، إلى 770 مليار جنيه أي 78% من إجمالي الإيرادات بالموازنة العامة في 2018 / 2019، يُوجه جزء كبير من هذه الضرائب إلى سداد مدفوعات الفائدة على القروض والتي ارتفعت من 26% من إجمالي المصروفات العامة إلى 38% خلال نفس الفترة موضع المقارنة.
عندما يُفلس الخواجة يبدأ البحث في دفاتره القديمة، وكذلك تفعل الدولة، مع كل قرض تحصل عليه الدولة لتدشين مشروع جديد لابد أن تدرك جيدًا بما لا يدع مجالًا للشك أن زيادة ضريبية جديدة أو تخفيضًا للدعم يلوح في الأفق، والفترة الأخيرة خير شاهد على ذلك بما شهدته من فرض رسوم على عربات الفول تُقدر بـ 20 ألف جنيه، وتخفيض دعم الطاقة أكثر من مرة منذ 2014، وكذلك فرض الضريبة العقارية وضريبة القيمة المضافة، ورفع رسوم جميع الخدمات التي تقدمها الدولة من مترو ومواصلات عامة وخدمات مرورية ومدنية وغيرها، كان أقربها فرض غرامة بقيمة 50 جنيهًا على التدخين في القطارات، وهي غرامة لم يُعلن عنها رسميًّا وفُوجئ بها الركاب، وهو ما يُوحي أن الغرض منها ليس محاربة التدخين وإنما تغريم المدخنين.
وقد تزامن توقيع الرئيس على قرض تطوير التعليم الذي أشرنا إليه أعلاه، مع موافقة البرلمان خلال الأسبوع الجاري على قرار يُلزم المقاهي بالحصول على ترخيص وسداد رسوم تقدر بـ 10 آلاف جنيه لتقديم الشيشة.
كم بائع فول وصاحب قهوة بلدي صغيرة سيتضرر من هذه القرارات ويدخل في مصيدة للفقر كما دخل عم سيد بعد موت حماره؟ لا نعلم، فلم تُعلن الحكومة عن أي دراسات جدوى تم الاستناد إليها عند اتخاذ مثل هذه القرارات.
الخلاصة هنا أنه عندما تقرأ في الصحف أن مصر قد وقَّعت على قرض ما لمشروع ما، توقع أن تقرأ قبله أو عقبه مباشرةً خبرًا آخرا يُنذر بضرائب ورسوم جديدة أو تخفيض للدعم، كما أعلنت الحكومة مؤخرًا عن رفع الدعم تمامًا عن بنزين 95 وربطه بالأسعار العالمية بدءًا من مارس/آذار 2019، على أن يتم فعل الشيء نفسه مع باقي أنواع البنزين بدءًا من سبتمبر/أيلول 2019، وهو ما يعني المزيد من ارتفاع أسعار الطاقة، وبالتالي أسعار جميع السلع والخدمات في الاقتصاد خلال 2019.
ربط أسعار البنزين بالأسعار العالمية يعني أن أي تغير في سعر البنزين عالميًّا سينتقل إلى المواطن مباشرةً وفقًا لأسعار الصرف السائدة، وهو ما سبقتنا إليه الأردن وتسبب في موجة غضب عارمة خلال الأشهر الماضية. وبناءً عليه، وإذا ما اتخذت الحكومة هذه الخطوة، فعليك أن تتابع جيدًا قرارات كبار مستوردي ومصدري النفط في العالم كالصين والولايات المتحدة وروسيا ومنظمة أوبك، وعليك أن تهتم بأخبار كخروج قطر من المنظمة، لأنها جميعًا ستؤثر بشكل مباشر على أسعار الطاقة في مصر، ومن ثَمَّ على قوتك الشرائية ومستوى معيشتك.
مزيد من التضخم وارتفاع الأسعار
في دولة تعتمد بشكل كبير على استيراد احتياجاتها الأساسية كالوقود والقمح، ومؤخرًا الأرز، ناهيك عن استيراد مدخلات إنتاج الصناعة المحلية، تحتل السياسة النقدية أهمية كبيرة، خاصة أسعار الصرف والفائدة ومعدل التضخم.
في نوفمبر/تشرين الثاني 2016 حرَّرت الحكومة سعر الصرف، وهو ما تسبب في موجة تضخمية وصلت إلى 32% عقب التحرير. عقب التعويم مباشرة قام البنك المركزي برفع سعر الفائدة حوالي 7% على ثلاث مراحل، لامتصاص الموجة التضخمية، وكانت النظرية خلف القرار وقتها أن التضخم يرجع في جزء منه إلى ارتفاع معدلات السيولة في الاقتصاد، أي أن هناك كميات كبيرة من النقود تُطارد كمية أقل من السلع، وهو ما يؤدي إلى ارتفاع الأسعار، وإذا ما تم رفع سعر الفائدة فستتجه هذه السيولة إلى النظام المصرفي للاستفادة من الفائدة المرتفعة، في الوقت نفسه سينخفض معدل الاقتراض من البنوك، وبالتالي مزيد من تجفيف السيولة في الاقتصاد.
لم تعمل النظرية على النحو المرجو منها، وما زال معدل التضخم مرتفعًا بالمعايير العالمية التي تعتبر معدل التضخم معقولًا ما دام في حدود 2-4%، فمعدل تضخم 32% يعنى أن الأسعار ترتفع بـ 32% سنويًّا، ومعدل تضخم 12% (وهو متوسط المعدل الحالي) يعنى أن معدل ارتفاع الأسعار قد تباطأ بعض الشيء لكنه لا يعنى تراجعها، وستظل الأسعار في الارتفاع.
لماذا لم تعمل النظرية؟
لأن الحكومة المصرية هي المقترض الأكبر من البنوك، 64% من قروض القطاع المصرفي ذهبت للحكومة في 2017، أي أنها تسحب السيولة من النظام المصرفي وتضخها في السوق مرة أخرى في شكل إنفاق على الأجور والمرتبات ومشتريات الأدوية والكتب المدرسية وغيرها من بنود الإنفاق الحكومي، وما دام عجز الموازنة قائمًا فسيظل التضخم مشكلة مزمنة في الاقتصاد المصري مهما تم رفع سعر الفائدة؛ لأن الحكومة تقترض على كل حال، فتكون النتيجة النهائية هي ارتفاع النسبة التي تخرج من الموازنة لسداد فوائد هذه القروض كل عام.
ما نود التأسيس له هنا هو: طالما أنك تسمع أخبارًا عن أن هناك عجزًا في الموازنة العامة للدولة فاعلم جيدًا أن التضخم مستمر، ومن المتوقع أن نعيش معدلات ارتفاع الأسعار الحالية خلال 2019.
والخلاصة هي أن طبيعة التغيرات التي يمر بها الاقتصاد المصري والعالمي تجعلنا نتوقع انخفاضًا جديدًا في سعر الجنيه أمام الدولار خلال الفترة القادمة، وهو ما يعنى ارتفاعًا في جميع أسعار السلع المستوردة، وفي اقتصاد يعاني من سوق داخلية غير منظمة كمصر، فإن ذلك يتبعه ارتفاع أسعار جميع السلع والخدمات غير المستوردة أيضًا، ولكنها لن تكون موجة تضخمية عنيفة كالتي شهدها الاقتصاد المصري عقب تحرير سعر الصرف في نوفمبر/تشرين الثاني 2016.