الدبلوماسية المصرية في الأزمة الخليجية «تحت الصفر»
بعد أن دخلت أسبوعها الثالث، لا تزال أزمةالحصارالخليجي الثلاثي على قطر، ومن تابعهم كمصر وبعض الدول الأفريقية، تتصدر اهتمام العالميْن الواقعي والاقتراضي، خصوصًا وأنه لا يبدو في الأفق اتجاه واضح لحلحلة الأزمة أو حتى تصعيدها. فالطرف المهاجم استنفد أكثرية أوراقه، ولم يبقَ معه أوراقٌ كبيرة يستخدمها إلا تلك عالية الخطورة وشديدة الصعوبة، كالتدخل العسكري أو محاولة القيام بانقلاب ناعم أو خشن في الإدارة القطرية.
الطرف الآخر كذلك لا يملك أن يذعن في ظل هذا التصعيد، وأن يرفع الراية البيضاء، أمام مطالب حتى لحظة كتابة المقال لميتمصياغتها في ورقة رسمية معلنة واحدة، خصوصًا وأن أغلب الأطراف المؤثرة إقليميًا كـ «تركيا و إيران» ودوليًا كـ «روسيا – الصين – ألمانيا – فرنسا – انجلترا – المؤسسات الأمريكية كوزارتيْ الدفاع و الخارجية .. » إما عبّرت عن انزعاجها من حصار قطر ودعت إلى رفعه أو تخفيفه، أو على الأقل أخذت جانب الحياد، وأعلنت رفضها للتصعيد.
على جانب آخر، كان الموقف المصري لافتًا في سوء الأداء، ومعبرًا بشدة عن حالة التردي السياسي التي أفقدت مصر الكثير من وزنها التأثيري، ودورها الإقليمي.
مصر تؤكد للمرة الثانية أنها قطعت العلاقات مع قطر!
وردت العبارة السابقة ضمن نكاتٍ ساخرةٍ كثيرة تمَّ تداولها على مواقع التواصل الاجتماعي منذ بداية الأزمة.تندَّر الكثيرون بإغفال قطر – الذي يبدو أنه متعمد – لذكر مصر في بياناتها الرسمية التي تستنكر فيها الحصار الذي فُرِضَ عليها، والتعامل معها على نفس مستوى موريشيوس وجزر القمر.
وزاد الطين بلة أن جهود الأطراف الفاعلة، والوساطات النشطة التي انطلقت لمحاولة رأب الصدع، قد تجاهلت جميعها مصر، اللهم إلا ما أُعلن بعد بداية الأزمة بحوالي 10 أيام من بدايتها، عن لقاءٍ في القاهرة بين السيسي ومدير المخابرات المركزية الأمريكية CIA، ضمن جدول أعماله تم بحث الأوضاع الراهنة في قطر. وكذلك زيارة ولي عهد أبو ظبي محمد بن زايد للقاهرة أمس 19-6-2017 مع مطلع الأسبوع الثالث من الأزمة، والتي يتوقع أن يناقش فيها مع السيسي ملفاتٍ تتعلق بالقضية.
زار أمير الكويت كلاً من قطر والإمارات والسعودية، و زار وزير خارجية تركيا كلاً من قطر والكويت والسعودية، و زار وزير الخارجية البحريني تركيا، وكان من أبرز عناوين هذه الجهود، الغياب المصري لدى كل هذه الأطراف، كطرف محوري في الأزمة يأمل الوسطاء أن يؤدي بذل الجهد السياسي والدبلوماسي معه إلى حلحلة الأزمة، أو موازنتها. وهكذا تعاملت الأطراف المؤثرة مع الموقف المصري باعتباره تابعًا للموقفيْن الإماراتي والسعودي، فإذا تمَّ حل الأمر من طرفيهما، انحلَّ في مصر بالضرورة!
مصر: هل تعاقب نفسها؟
جاءت المقاطعة الخليجية الثلاثية لقطر مؤثرة فعلًا، خاصة إغلاق الأجواء والمجال البحري أمام وسائل النقل القطرية، والذي اضطرها حصريًا للمجال الإيراني للخروج من عنق الزجاجة. ورغم أن التبادلالتجاري بين قطر والدول الخليجية الثلاثة يمثل 38 مليار ريال سنويًا (حوالي 12% فقط من مجمل التجارة الخارجية القطرية)، لكن اهتزت الأسواق القطرية في بداية الأزمة، لاعتمادها في حصةمؤثرة من الواردات الغذائية على السعودية تحديدًا.
المقصود أن الدول الثلاثة تملك أوراقًا اقتصادية حقيقية استخدمتها ضد قطر، رغم أن وزير المالية القطري أكد أن المقاطعين سيخسرون اقتصاديًا هم أيضًا، خاصة مع بدء قطر في توفير بدائلحقيقية لتزويد أسواقها بما تحتاج، خاصةً من تركيا، مرورًا بإيران وأذربيجان، وانتهاءً بالمغرب.
في المقابل، كانت المقاطعة المصرية الأغرب على الإطلاق، ليس فقط في انعدام تأثيرها على قطر، إنما لكونها تضر بمصر أكثر من خصمها بكثير.
1. كيف يمكن أن تتأثر قطر اقتصاديًا من المقاطعة المصرية، بينما الميزان التجاري بين الدولتين – في حدث نادر – إيجابيٌّ لصالح مصر. تذكر الإحصاءات أن مصر تصدّر لقطر بما يساوي حوالي 300 مليون دولار سنويًا، بينما تستورد منها بحوالي 40 مليونًا فقط. وفي الربع الأول من 2017، كانت صادرات مصر لقطر حوالي 110 مليون دولار، والواردات حوالي 10 مليون فقط؛ أي أنَّ الخاسر الأكبر هنا الطرف المقاطِعْ وليس المقاطَع.
2. الحظر الجوي، ووقف الرحلات بين الدوحة والمطارات المصرية، المتضرر الرئيس منه هو العمالة المصرية في قطر، خاصة إيقاف رحلات مصر للطيران، والتي كان يلجأ لها الكثيرون منهم لرخص ثمنها نسبيًا، والذي يعوض الفارق في الخدمة والجودة عن منافساتها كالخطوط القطرية.
كما أن سوء تعاطي مصر للطيران مع الأزمة الحالية سيهز سمعتها أكثر فأكثر، ويفاقم أزماتها وخسائرها التي تعد بالمليارات سنويًا. إذ تعنّتت الشركة في تعويض المسافرين، وتوفير البدائل لهم (خيَّرتهم في غالب الحالات بين إرجاع الثمن مع خصم غرامة، أو دفع نصف البديل الترانزيت، وعلى المسافر النصف!، كأن يدفع هو من الدوحة إلى الكويت مثلًا، بينما مصر للطيران تدفع من الكويت للقاهرة)، على نقيض الاحترافية التي تعاملت بها الخطوط القطرية مثلًا، والتي وفرت البديل كاملًا لزبائنها وتحملت فارق السعر، أو ردَّت ثمن التذكرة كاملًا.
3- رغم تأكيد الحكومة القطرية أنه لامساسبأوضاعالمقيمين من دول الحصار، وأنه لا ترحيل لهم، أو معاملة بالمثل. فإنه مما لا شك فيه أن وضع العمالة المصرية هناك أضحى أقل استقرارًا، وفرصهم في الأسواق القطرية في الفترات القادمة خاصة مع استمرار الأزمة وتطاولها، ستكون أضعف. فمن يضمن لصاحب العمل في قطر أن الحكومة المصرية لن تفعل مثلما فعلت دول الحصار الثلاثي، فتطلب ترحيل مواطنيها فجأة؟، مما سيهز بلا شك سوق العمل الذي يضم على الأقل 70 ألفمصري.
وفي ظل الأزمة الاقتصادية المصرية الحادة، والتي كان محورها النقص الشديد في العملة الأجنبية، فإن احتمال حدوث تأثر جديد في مصدر دولاري، ستكون له عواقب غير محمودة. فجدير بالذكر أن تحويلاتالمصريينفيقطر عام 2015 مثَّلت حوالي مليار دولار، من أصل حوالي 18 مليار دولار هي مجمل تحويلات المصريين بالخارج، بنسبة تُجاوِز الـ 5%؛ مما يضع المصريين في قطر في المرتبة الخامسة في تحويلات العملة الأجنبية. كما أن قرار البريد المصري بوقف التعامل مع قطر، سيؤثرولوطفيفًا على التحويلات، وعلى معاملات المصريين هناك. وعلى البريد نفسه بلا شك.
الأداء المصري المفقود
لأول مرة في التاريخ المصري الحديث ما بعد رحيل الاستعمار، يكون الموقف الرسمي المصري تابعًا بهذا الشكل لمواقف عربية إقليمية أخرى. دائمًا ما كان الموقف المصري -حتى في عهد مبارك الذي يُتهم دائمًا بإضعاف مكانة مصر ومقدراتها- إما متبوعًا، أو على الأقل مؤثرًا ومُنتَظَرًا.
كان مبارك يجيد لعب دور الوسيط لرفع مكانته، كالموقف إبان الغزو العراقي للكويت 1990- 1991، فرغم اشتراك مصر سياسيًا وعسكريًا في التحالف ضد العراق، إلا أنه كان لمبارك محاولاته المتعددة لدفع صدام للانسحاب قبل بدء العمليات العسكرية.
وهناك كذلك وساطةمباركبينتركياوسوريا في أواخر التسعينات والتي نزعت فتيل حرب واسعة كانت على وشك الاندلاع بين البلدين، وهناك أيضًا الوساطات المستمرة بين الفلسطينيين والإسرائيليين. كما نجحت سياسة التبريد الدبلوماسي – إن جاز التعبير – التي استخدمها مبارك، في إعادة علاقات مصر بمعظم الدول العربية التي قاطعتها بعد اتفاقية السلام مع إسرائيل 1979.
لم تكن مصر تميل طوال عهد مبارك للتصعيد السياسي – خاصة في العلن – في الملفات العربية الداخلية، والسماح للقوى الإقليمية غير العربية بالتدخل.فالخلافات بين مصر وقطر، وكذلك بين قطر وخصومها الحاليين في الخليج خاصة السعودية، مستمرة منذ 1995 عندما انقلب الأمير الوالد – كما يلقب في قطر – حمد بن خليفة، على أبيه أثناء زيارته للقاهرة.
ولم تنقطِع من حينها السجالات الإعلامية بين الجانبيْن، خاصة مع ظهور قناة الجزيرة وتركيزها على الشأن الداخلي المصري والخليجي أحيانًا. وصلت الأمور لتدبير محاولة انقلابية فاشلة عام 1996 برعاية السعودية، وما مصر منها ببعيد. لكن تختص الأزمة الحالية أنها المرة الأولى التي تصل فيها الخلافات لحد التأثير السلبي الفادح على الحياة اليومية للمواطنين والمقيمين في دول الخليج، وأن مصر طرف تحريضي رئيسي فيها، مما أدى إلى غياب مكابح إقليمية عربية حقيقية توقف انزلاق الأوضاع، فَفُتِحَ المجال واسعًا للدورَيْن التركي والإيراني للاستفادة اقتصاديًا وسياسيًا من هذه الأزمة، ولا يُلام كلاهُما في ذلك.
كان يمكن لمصر – سياسيًا واقتصاديًا لا أخلاقيًا – أن تأخذ موقفًا مخففًا كالموقفالأردني، والذي كان يتيح لها قدرًا أكبر من المرونة والمناورة. فقد أمسك الأردن العصا من المنتصف، فخفَّض التمثيل الدبلوماسي مع قطر. لكن لم يقطع العلاقات تمامًا معها، ودعا إلى عدم التصعيد. وذلك رغم مصالح الأردن الكثيرة مع دول الحصار. ولمصر في قطر مصالح أكبر من مصالح الأردن هناك.
وهناك نقطة أخيرة تتصل بشدة بالسمعة المصرية وموقفها من الأزمة. فقد جاء الأداء الإعلامي المصري – والذي لا يمكن فصله أبدًا عن رأي الدولة المصرية وجهاتها السيادية – كعادته في سنوات ما بعد 30 يونيو/حزيران، في منتهى الابتذال والسوء، وانتقل من التطاول المعتاد على حاكم قطر وأمه وأبيه وكيل الشتائم والإشاعات، إلى التطاول على الشعب القطري نفسه.
ويكفي مثالًا المقطعالكارثي الذي يشمت فيه الإعلامي أحمد موسى من مشهد الأرفف الفارغة في متاجر قطر في اليوم الأول للأزمة، فيتحدث موسى بجَذَلٍ عجيب عن أن المواطنين والمقيمين في قطر لا يجدون طعامًا للسحور اليوم!.
مثل هذه التطاولات غير الأخلاقية وغير المنطقية، ستترك شروخًا وندوبًا مستعصية في جبين الكرامة المصرية، وتنسف ما تبقى لمصر من قوة ناعمة أو مكانة نفسية كشقيقة كبرى ما زال البعض يحلمون بالتطلع إلى دورٍ يليق بها وتليق به.