اقتصاد التبعية: الريف المصري في مهب «الكساد العظيم»
على الرغم من كثرة الكتب العربية التي تتناول تاريخ المنطقة بالدراسة والتحليل، إلا أن المكتبة العربية تفتقر للكثير من الدراسات المختصة في تاريخ المنطقة الاقتصادي، خاصة في فترة الاستعمار الأوروبي للبلدان العربية وما قبلها، وهي الفترة التي شهدت التحول من العصر الزراعي إلى العصر الصناعي، وما صاحب ذلك من تغيرات جذرية في شكل المجتمع، وبنية الدولة، والعلاقات الدولية، ثم ما نتج عنه بعد ذلك من استعمار الدول الصناعية للدول التي لم تكن قد دخلت العصر الصناعي بعد، ما أدى لتعرض تلك المستعمرات، ومن بينها الأقطار العربية، إلى تحولات اجتماعية واقتصادية عديدة، منها ما جرى بفعل الاستعمار ولمصلحته، ومنها ما حدث بالضرورة نتيجة للتحول الجذري في العلاقات الاجتماعية والدولية.
من بين الكتب التي تسد هذا النقص كتاب «أزمة الكساد العالمي الكبير وانعكاسها على الريف المصري»، لكاتبه الدكتور علي شلبي، أستاذ التاريخ الحديث بجامعة المنصورة، وهو الكتاب الحادي عشر من سلسلة التاريخ: «الجانب الآخر: إعادة قراءة التاريخ المصري» التي أصدرتها دار الشروق. وتهدف السلسلة إلى إعادة النظر في تاريخ مصر الحديث، خاصة القضايا والمسائل الخلافية والمثيرة للجدل.
وتكمن أهمية الكتاب في أهمية أزمة الكساد العالمي الكبير نفسها التي امتدت بين عامي 1929 إلى 1934، وتأثيراتها الواسعة على التاريخ البشري برمته، إذ تمثل تلك الأزمة أحد الأسباب المباشرة لقيام الحرب العالمية الثانية، وما نتج عنها من تراجع القوتين العظمتين، بريطانيا وفرنسا، وقيام المعسكرين الرأسمالي والشيوعي، وانتهاء عهد الاستعمار القديم، وتغير النظام النقدي العالمي، والتخلي نهائيًا عن قاعدة الذهب، إلى غير ذلك من الآثار السياسية والاقتصادية التي نعايشها حتى اليوم.
يبدأ الكتاب بمقدمة جيدة في الفصل الأول عن الأوضاع الاقتصادية المصرية منذ الاحتلال البريطاني للبلاد عام 1882م، وكيف تحول الاقتصاد المصري إلى اقتصاد ريعي مرتبط بسلعة واحدة وهي القطن، وكيف أثر ذلك على الرخاء الاقتصادي في البلاد وتأثره سلبًا وإيجابًا بارتفاع سعر القطن أو انخفاضه، أو حركة التجارة الدولية وتقلباتها، وبالتالي عانت مصر من التبعية الاقتصادية في وقت كانت تتحول فيه من ولاية عثمانية إلى دولة تحت حماية بريطانية، ثم إلى دولة منقوصة السيادة.
بعد ذلك، ينقسم الكتاب إلى ثلاثة فصول، يعالج كل فصل فيها جانبًا مختلفًا لتأثيرات أزمة الكساد العالمي الكبير، حيث يتناول الفصل الثاني التداعيات الاقتصادية لأزمة الكساد العالمي على القطر المصري، والتدابير التي اتخذتها الحكومات المصرية المتعاقبة للحد منها ومعالجتها، وكيف أثرت الأزمة الاقتصادية على قدرة المصريين على الحفاظ على ممتلكاتهم العقارية، وتدخل المرابين الأجانب لاستغلال الموقف والاستحواذ على المزيد من الأراضي الزراعية المصرية، وكذلك كيف دفعت تلك الأزمة النخبة الوطنية المصرية إلى المطالبة بعدم الاقتصار على القطن وحده، وتنويع الاقتصاد المصري، والاتجاه نحو التصنيع.
ويتناول الفصل الثالث الآثار الاجتماعية للأزمة، وكيف أدى ارتفاع معدلات الفقر إلى مستويات قياسية بسبب الأزمة إلى انتشار البطالة والتسول، وارتفاع معدلات الجرائم، وتراجع مستويات الخدمات المقدمة للمواطنين، وانتشار المخدرات والبغاء، وارتفاع مستويات الطلاق والانتحار، بل ويتطرق كذلك إلى استغلال المستعمر لتلك الفوضى الاجتماعية بإرساله الحملات التبشيرية إلى البلاد، وكيف واجهت الحكومات المتعاقبة على مصر في تلك الفترة هذه الأزمات.
أما الفصلان الرابع والخامس، فيتناولان الأبعاد السياسية والأمنية للأزمة، وكيف دفعت الأزمة إلى حدوث تقلبات سياسية وتناوب خمس حكومات مختلفة على إدارة البلاد في ظل تلك الظروف العصيبة، خاصة وأن الأزمة تزامنت مع الانقلاب على دستور 1923 وإعلان دستور جديد للبلاد يوسع من سلطات الملك، ما أدى إلى قيام انتفاضة شعبية ضخمة عام 1935 للعودة بالعمل بدستور 1923.
يتمتع الكتاب بشموليته في دراسة الأبعاد المختلفة للأزمة، كما أنه لم يقتصر على دراسة البيانات الحكومية لتلك الفترة، إذ اعتمد على ما كانت تنشره الصحف المصرية المختلفة سواء تلك المؤيدة للحكومة القائمة وقتها أم المعارضة، ما أعطى صورة متبلورة للتفاعلات بين الأهالي والحكومة حول الأزمة، وهو ما يمكن الاعتماد عليه في تفسير التطورات السياسية والاقتصادية المصرية اللاحقة.
ومع ذلك، يعيب الكتاب ذكر الأبعاد السياسية للأزمة في آخره، ما دفع الكاتب إلى إحالة القارئ في عدة مناسبات إلى فصول متأخرة ليحيطه علمًا بالأبعاد السياسية للقضايا الاقتصادية والاجتماعية التي يناقشها في الفصلين الثاني والثالث، وهو أمر كان يمكن تجنبه لو بدأ الكاتب بذكر الأبعاد السياسية أولًا. أما بخلاف ذلك، فالكاتب يتمتع بأسلوب سلس ورصين، ويتعامل مع وجهات النظر المختلفة بقدر عالٍ من الاتزان والحيادية. ولذلك أنصح بشدة المهتمين بالتاريخ المصري عمومًا ومحبي التاريخ الاقتصادي خصوصًا باقتناء الكتاب.