مصر التي لم نرها: الآثار وبدايات التصوير الفوتوغرافي
إنها ليست بحادثةٍ تاريخية مهمة أثَّرت في تاريخ مصر الحديث فقط، بل هي أشبه بالحدوتة التي ما إن تُروى حتى يستمتع بها الصغير قبل الكبير، ومن الممكن حَكِيّها كإحدى حواديت قبل النوم فهي ملائمة جدًّا لذلك.
كان للتصوير الفوتوغرافي بداية مُشوقة منذ عام 1826، على يد الفرنسي «نيسيفور نيبس»، واستمر في محاولاته لاختراع الكاميرا الفوتوغرافية حتى عام 1833، حين تُوفي فجأةً دون استكمال ما بدأه، فقام «لويس داجير» (1787–1851) بتكملة هذا المشروع «العظيم»، رغبةً منه في الوصول إلى نتيجة حقيقية تُمكنه من تحقيق إنجاز كبير، وهو ما حدث بالفعل في 7 يناير/كانون الثاني 1839، حين أعلن العالم الفرنسي «فرانسوا أراجو» في أكاديمية العلوم بباريس عن هذا الاختراع، وسرعان ما أصدر الملك لويس فيليب أوامره بضرورة التنفيذ العملي لهذا الاختراع فسُميت الكاميرا المُصنعة بـ «الآلة الداجيرية»، وسُميت طريقة التصوير نفسها بـ «طريقة التصوير الداجيرية أو الداجيروتيب» تيمناً بداجير مخترع الآلة، وكان ذلك في أغسطس/آب من نفس العام.
بعدها بحوالي شهر فقط، قام «هوراس فيرنيه» (1789–1863)، الرسام العسكري الأشهر في فرنسا –في ذلك الوقت– بالسفر إلى مصر مُصطحبًا معه آلة داجير (مُعدلة تعديلًا بسيطًا في عدستها بواسطة عالم البصريات ليربورز)، واثنين من رفقاء السفر ابن شقيقه تشارلز بورتون، والرسام –صغير السن وقتها وتلميذ فيرنيه- «فريدريك جوبيل فيسكيه» (1817-1878)، الذي تعلم سريعًا طريقة التصوير الداجيرية، وكان مُصور الرحلة الأول.
لم يكن السبب الرئيس لرحلة الثلاثي لمصر تصوير الآثار التي حواها كتاب وصف مصر الشهير، بل كان ذلك بدعوة شخصية من محمد علي باشا إلى هوراس فيرنيه؛ لتصوير معركة «نزيب» أو «نصيبين بريشتة»، والتي دارت رُحاها بين محمد علي باشا والسلطان العثماني في يونيو/حزيران 1839، وانتهت بهزيمة ساحقة للسلطان.
وصل الثلاثي إلى الإسكندرية في 4 نوفمبر/تشرين الثاني 1839، وبعد يومين، استقبلهم محمد علي باشا في قصره برأس التين استقبالًا عسكريًّا رسميًّا يليق بضيفه ورفقائه، وفي يوم التالي –أي يوم 7 نوفمبر/تشرين الثاني- بادر فيسكيه وفيرنيه بالذهاب إلى قصر رأس التين في السابعة صباحًا؛ لتصوير حرملك محمد علي باشا –بعد أخذ موافقته بالطبع– وكان يأمل في إطلالة واحدة من الحريم من نافذتها، أو أنَّ إحداهن تقوم بالتمشية في حديقة القصر، إلا أن ذلك لم يحدث، فاكتفيا بما سمح لهما به محمد علي بتصويره، وهو الحرملك من الخارج والحارسان الواقفان على الباب، وكان ذلك بين العاشرة صباحًا والحادية عشرة، واستغرق التصوير دقيقتين ونصفًا، وكانت تلك أول صورة صُوِّرت في مصر وأفريقيا، وقال عنها محمد علي باشا عندما رآها «إنها من عمل الشيطان»، وتدخل فيرنيه في هذه الصورة التي صوَّرها فيسكيه، عندما قام بإبراز معالم الصورة على لوح النحاس المطلي بالفضة (ألواح التصوير الداجيرية).
بعد ذلك توالت الصور، فقام فيسكيه بتصوير عمود بومبي بالإسكندرية في 8 نوفمبر/تشرين الثاني، ثم سافر الثلاثي إلى القاهرة، فالتقط فيسكيه صورة هرم خوفو في 20 نوفمبر/تشرين الثاني في تسع دقائق ونصف؛ لأنها صُوِّرت في منتصف النهار (وكان عامل الضوء مهم في عملية التصوير الداجيرية، وهذا كان يومًا شتويًّا)، ثم مقابر سلاطين المماليك في المقطم (وهي المعروفة الآن بقرافة القاهرة)، في نوفمبر/تشرين الثاني أيضًا، وصوَّر فيسكيه بعدها صورة لأسوان الساحرة، التي اتفقت جميع المراجع الأجنبية على أنها للأقصر –وهو الأمر الخاطئ تمامًا– وذلك لوجود مئذنة بلال الشهيرة من العصر الفاطمي في الصورة، وتم التقاطها في ديسمبر/كانون الأول من نفس العام.
هناك من يقول: وماذا كان دور فيرنيه في التقاط كل هذه الصور، غير إبراز معالم صورة الحرملك؟
المفاجأة أنه كان له دور مؤثر جدًّا لم تتحدث عنه المراجع، وهو إدخال الرسم –الذي احترفه– في عملية التصوير، فجاءت الصور خليطًا بين الصورة الحقيقية في معالمها، وبين الرسم الذي أقحمه للأشخاص، وهو ما سيُلاحظه كل من يُشاهد هذه الصور أنه تدخل بالفعل وقام برسم هؤلاء الأشخاص؛ من منطلق إضفاء الحيوية على الصورة، حدث هذا الأمر في الصور التي تلت الحرملك جميعها.
التقى بفيرنيه وفيسكيه في الإسكندرية –قبل سفرهما إلى القاهرة– المصور الفرنسي ذو الأصول الكندية «جولي دي لوبينيير» (1798–1865)، فسافر معهما إلى القاهرة، وساعد فيسكيه على التقاط صورة هرم خوفو، وبعدها انفصل عنهما فقام بتصوير عدة صور بانورامية للقاهرة من فوق إحدى منارات المساجد في المقطم، انتقل بعدها إلى الجنوب في صعيد مصر؛ لالتقاط صور للآثار هناك، وبالفعل كانت له العديد منها لمعبد الكرنك، ومدينة هابو، ومواقع أخرى للآثار حول مدينة طيبة، ومعابد كوم أمبو، فيلة، وأبو سمبل، حتى أنه صوَّر تمثال رمسيس الثاني وهو مدفون جزء منه في الرمال.
وللأسف الشديد جميع الصور الأصلية لهؤلاء المصورين فُقدت ولم يُعرف حتى الآن سبب إضاعتها، لكن صور فيسكيه جميعها نُشرت في كتاب ليربورز «الرحلات الداجيرية: أبرز المعالم والآثار في العالم»، والذي نشره بعد عودتهم إلى فرنسا عام 1842. أما لوبينيير، فقد نشر صورة واحدة فقط عن مصر في هذا الكتاب وهي لـ «كشك تراجان في جزيرة فيلة بأسوان»، التقطها في الأول من يناير/كانون الثاني عام 1840، أما باقي صوره فقد نشرها في كتاب آخر بعنوان «بانوراما عن مصر والنوبة» للمهندس المعماري الفرنسي –عالم المصريات فيما بعد– «هيكتور هورو»، الذي مكث في مصر بين عامي 1837–1839، ونشر كتابه هذا عام 1841، وقد كان مهتمًّا اهتمامًا شديدًا بالاختراع الداجيري، الأمر الذي جعل لوبينيير يتحمس بنشر صوره معه، وكتابة فصل كامل في الكتاب عن هذه الطريقة الجديدة.
قَدَّم هؤلاء المصورون الأوائل مجموعة من الصور الفريدة لمصر، وهم بذلك قد عمَّقوا إحساس الجمهور الفرنسي –بشكلٍ خاص– والعالم بشكل عام بعظمة الحضارة المصرية القديمة، بما وَثقوه من تراثٍ، في لحظة بدأت فيها تلك الآثار وجدرانها بتقديم أدلة حديثة عن ثقافة مرت عليها آلاف السنين، وهم بهذا قد حَفزوا من سيأتون بعدهم لرؤية كل هذه الأماكن السياحية، والاهتمام بالمنطقة، والذي تزايد بالفعل مع التطور في عملية التصوير، الأمر الذي ساهم في زيادة الرغبة في رؤية تلك الأماكن والتقاط صور لها.