«قوم يا مصري»: العامية في مواجهة الاستعمار
إذا كان الطرحان الإسلامي والعروبي قد روَّجا على مدى عقود أن انتشار العامية على حساب الفصحى، خصوصًا العامية المكتوبة، قد جاء نتيجة جهود استعمارية، مباشرة أو غير مباشرة، استهدفت تقويض لغة القرآن ووحدة الأمة، فإنهما يَصدُران عن سردٍ خاطئ للوقائع التاريخية أو منقوص على أقل تقدير.
يتناول كتاب زياد فهمي «مصريون عاديون: تشكل الأمة الحديثة عبر الثقافة الشعبية 1870-1919»؛ ما أُنتج بالعامية المصرية من صحافة وإذاعة ومسرح، من عمل شفهي ومدوَّن، من زجل وأغنية ونكتة ورسم هزلي، ودوره في بلورة صورة المصريين عن أنفسهم بوصفهم أمة، منذ عهد «الخديوي إسماعيل» وحتى نهاية الحرب العالمية الأولى. ففي ظرف تاريخي تميز بسيطرة غير المصريين من أتراك وشراكسة على الجيش، ودخول البلاد تحت الاحتلال البريطاني ومعاناة عموم الشعب من الفقر والأمية، أتاح الإسهام الثقافي العامي للمصريين البسطاء، وفقًا لفهمي، الفرصة لإدانة المحتل والحاكم والإقطاعي والسخرية من ثلاثتهم.
يكتب فهمي:
هنا، الفصحى ليست مجرد شكل لغوي أو أسلوب في الكلام والكتابة. إنها طريقة تعبير الطبقة الحاكمة عن نفسها، وهي الطبقة التي كانت تتكون آنذاك من القصر والأحزاب الإقطاعية والمثقفين وعلماء الدين الرسميين. يُنظَر إلى العامية، بالتالي، بوصفها لغة الهيمنة المضادة، وإلى إنتاجها باعتباره محلَّ «التعبيرات الثقافية العلمانية الدارجة والمفهومة للعموم» (ص 12).
بالرغم من صدور «الوقائع المصرية»، أول صحيفة وطنية في تاريخ مصر، عام 1828، فإن المطبوعات الرسمية وشبه الرسمية والخاصة لم تنتشر بشكل واسع إلا في أواخر القرن، في خضم عملية التحديث التي قادها إسماعيل. فالخصخصة التي نالت كلًّا من الطباعة والصحافة أتاحت المزيد من الحريات التحريرية، والتنافسية المحتومة بين الدوريات والصحف قادت إلى تبسيط في اللغة وانسيابية في محتوى الجرائد والكتب من أجل اجتذاب عدد آخذ في التزايد من جمهور القراء غير المتخصصين (ص. 32).
على إثْر ذلك، انتشرت دوريات مكتوبة بشكل كامل أو جزئي بالعامية المصرية، مثل «الخلاعة المصرية» و«الأرنب» و«حمارة منيتي» و«الأرغول» و«الأستاذ»، وقد كانت تحتوي في معظمها على متابعات ساخرة وهزلية وفَكِهة لمستجدات الواقع السياسي-الاجتماعي.
وفي بلد لم تكن تتجاوز فيه نسبة من يعرفون القراءة والكتابة 11.8% حتى عام 1927، كان من الطبيعي أن تتحول قراءة الصحف والمجلات إلى طقس جماعي، حيث يقوم من لديه حظ من التعليم بقراءة بعض القصص الصحفية على مسامع الناس في هذا المقهى أو ذاك. وهو طقس لا شك كان أكثر متعة وإلحاحًا في حضور صحيفة صادرة بالعامية تتناول آخر أخبار الملكة فيكتوريا أو اللورد كرومر بجرأة وتهكُّم وهُزء، حيث تعلو الضحكات ويُطلَب من الأفندي المتعلم ذي الطربوش تكرار هذا السطر أو ذاك. وكان من بين أكثر الدوريات العامية الساخرة ذيوعًا وتوزيعًا «أبو نضارة زرقا» (بدأ صدورها عام 1877) لمحررها يعقوب صنُّوع و«التنكيت والتبكيت» (بدأ صدورها عام 1881) لعبد الله النديم، وقد لعبتا دورًا دعائيًّا مهمًّا في بعض الأحداث السياسية الكبرى، لا سيما ثورة عرابي (1979-1982)، كما تعرضتا للحظر وواجه المالكان الملاحقة والنفي.
لكن الأمر لم يتوقف البتة عند القمع الحكومي، فالنخبة المحافظة المصرية كانت تشعر بتهديد خاص من الانجذاب الجماهيري نحو الإنتاج الثقافي العامي، كما هاجمته مرارًا وتكرارًا باعتباره أدنى رتبة من الناحيتين الثقافية والأخلاقية (ص. 60). ولعل معركة الداعية الإصلاحي الشهير، الشيخ محمد عبده، مع الصحافة الساخرة المكتوبة بالعامية خير دليل على ذلك. ففي سنواته الأخيرة، تعرض عبده لنقد لاذع على يد الصحافة الوطنية المصرية، لا سيما «حمارة منيتي»، حيث اتُّهم بالعمالة للاستعمار وممالأة القصر وتقديم صورة مُهادِنة من الدين. وقد كانت الحملة التي تعرض لها مزعجة إلى حد أنه ذهب إلى «الخديوي عباس حلمي الثاني» وطلب منه استدعاء منتقديه أمام النيابة.
ومع ذلك، لا ينبغي اختصار الإنتاج الثقافي عمومًا، والعامي خصوصًا، في صورته المكتوبة عند مقاربة مسألة الأمة. وانطلاقًا من هذا التصور، يدعو فهمي إلى تجاوزٍ جزئي لأطروحة الأيرلندي «بنديكت أندرسون» كما ترد في كتابه الشهير «الجماعات المتخيلة: تأملات في أصل القومية وانتشارها» (1983)، حيث تُفرط بسبب مركزيتها الأوروبية في التأكيد على أهمية ما هو مكتوب ومطبوع على حساب ما هو مرئي ومسموع، في عملية تشكل القوميات.
لهذا الغرض، يستعمل فهمي مفهوم «رأسمالية الميديا»، عوضًا عن «رأسمالية الطباعة» الذي صاغه أندرسون؛ «لأنه رحْب كفاية بحيث يستدخل كافة أشكال الميديا الجماهيرية، بما في ذلك الطباعة والأداء والتسجيل وفي النهاية الإنترنت والإعلام المبثوث عبر الأقمار الصناعية» (ص. 96-97). وهكذا، ينتقل إلى استعراض وتحليل النكتة و«الطقطوقة»، وأغاني منيرة المهدية وسيد درويش، وسكيتشات ومسرحيات نجيب الريحاني وبديع خيري وعلي الكسار، وذلك في علاقتها بالتطورات الاجتماعية والاقتصادية آنذاك.
وعلاوة على ذلك، وعبر الاستفادة من إسهامات الألماني يورغن هابرماس في تحليل تطور المجال العام، يمنح فهمي أهمية بالغة المقاهي ودورها في استقبال كل هذا الإنتاج الثقافي العامي وفتح النقاش حوله (ص. 35)، بل إنه يصفها في سياق تحليله لثورة 1919 في الفصل الأخير من الكتاب بـ «مراكز النشاط الثوري» (ص. 145-147)، حيث تحولت المقاهي إلى منتديات للنشطاء السياسيين ومناضلي الحركة الوطنية. ويذكرنا في هذا الفصل المكتوب بحماسة خاصة، بالمداهمات المتكررة للمقاهي التي كان البريطانيون يقومون بها من أجل مصادرة بعض المطبوعات أو اعتقال بعض من كانوا بالنسبة إليهم في عداد مثيري الشغب.
يُفتَتح كتاب «مصريون عاديون» ويُختَتم باقتباسين من السوفيتي ذي الأهمية البالغة ميخائيل باختين المعني بـ «صوت الناس» و«الحياة الكرنفالية»، في دلالة على موقف نظري على مسافة من كل ما هو رسمي ونخبوي يصاحبنا من أول الكتاب إلى آخره. ومع ذلك، لا يقع الكتاب في هوى الشعبوية؛ ففي أكثر من موضع، يوضح فهمي ويوثِّق كيف استُخدِم المسرح والنكتة والرسم الهزلي الذين كانوا محكومين بالعامية القاهرية أساسًا في تنميط من يُطلِق عليهم «الآخر الداخلي» كالصعايدة والنوبيين والبدو، والحط من قدرهم، أو في التعبير عن موقف شوفيني من العرب غير المصريين كالمغاربة وسكان الجزيرة العربية. فالإنتاج الثقافي العامي الذي سخر من البيض المستعمرِين والأتراك أصحاب الامتيازات ومن طريقة نطقهم للعربية لا ينبغي أن يجعلنا ننسى كيف كانت له استخداماته الكارهة للأجانب والمتعصبة.
وإذا كان فهمي يشير إلى وقائع حاول فيها المستعمِر التعبير عن حنقه من الفصحى واحتضانه للعامية، مثل واقعة مفتش الري الإنجليزي ويليام ويلكوكس الذي دعا في إحدى خطبه إلى إبطال العمل بالفصحى وتبني العامية بالكامل (ص. 88)، فإن تحقيقه المعمق في العامية والإنتاج الثقافي الذي نشأ حولها يشير بقوة إلى أنها كانت أداة مقاومة أزعجت ولا شك النخب السياسية والاجتماعية، والدينية ووفرت للمصريين العاديين مساحة للتعبير عن أنفسهم بحذاقة وعفوية، فكانت أَمثال:
بيانات الكتاب:
Fahmy, Ziad. Ordinary Egyptians: Creating the Modern Nation through Popular Culture (Cairo: The American University in Cairo Press, 2011)