«ليس لدى مصر تعليم جيد»: الأرقام تقول أكثر من ذلك
أحمد، شاب في منتصف عقده الثالث، كان يصب على نفسه مئات اللعنات يوميا، فقد أجبره ضيق ذات اليد على قبول تلك الوظيفة المؤقتة، وظيفة كتلك تحتاج إلى قلوب صماء كالحجارة وعيون لا يعرف الدمع إليها سبيلا، ومشاعر متبلدة لا تتأثر بشكوى العجائز ممن جار عليهم الزمن وهضمتهم الحياة، خاصة إن كنت تعيش في إحدى قرى الصعيد الفقيرة.
إلا أن صاحبنا لم يكن كذلك، قسوة الحياة لم تنل قلبه وإن كانت قد عبثت بعض الشيء بمظهره، كانت دموعه حاضرة باستمرار كلما سمع حكاية من هنا أو هناك، لم يكن يقتصر على تلك الأسئلة التي يقرؤها على سكان قريته من خلال الهاتف اللوحي الذي تسلمه من مكتب التعبئة العامة والإحصاء التابع لمركزه، كان عنده شغف بسماع الناس، يسمع بإطراق بينما خواطره تُحدّثه، كيف تعيش أسرة بأكملها بدون مرحاض، وبأي منطق في العالم يتم تدمير هؤلاء الأطفال نفسيا وجسديا بإرسالهم للعمل بدلا من المدرسة، بأي ضمير تُركت هذه السيدة حتى أكل الجذام أطرافها.
بعد أن خرجت نتائج التعداد للنور، اكتشف أحمد أن ثمة قرى أخرى غير قريته تكابد الفقر وتكافح من أجل العيش، وأن نساء أخريات في محافظات مختلفة يتغذى الجذام على أطرافهن الهزيلة، وأن أطفالا آخرين يذهبون للعمل بدلا من المدرسة كل صباح، حين ألقى نظرة سريعة على نتائج التعداد، تذكر كلمة الرئيس التي سخر منها الجميع، وتأكد أن الرجل لم يكن يكذب، وأننا بالفعل «فقرا أوي»، وأننا لا نمتلك تعليما جيدا، وليس لدينا خدمات صحية ولا تشغيل ولا توظيف ولا إسكان جيد في مصر، كما أن وعينا لا يرتقي لوعي الأوروبيين، وليس لدينا حضارة تناظر حضارتهم، ببساطة شديدة نحن نعيش في منطقة أخرى من العالم.
التعليم بعيون التعداد
حال التعليم في مصر يُرثى له، لن نغوص في التفاصيل، يكفينا أن نري الصورة من الخارج، وما خفي كان أعظم، الشكل (1) الذي تم رسمه اعتمادا على بيانات التعداد التي جمعها أحمد وزملاؤه، يقول إن ربع سكان مصر أميون، لا يجيدون القراءة ولا الكتابة.
وبإلقاء نظرة سريعة على الصفحة التالية في التعداد، نجد بيانات أكثر تفصيلا عن طبيعة الالتحاق بالتعليم في مصر، فحوالي 27% ممن هم فوق أربع السنوات لم يلتحقوا بالتعليم أصلا، وأن 7% آخرين قد التحقوا بالتعليم ثم تركوه لأسباب مادية، أو بسبب عدم اقتناع الفرد والأسرة بجدوى التعليم في مصر، بالإضافة إلى صعوبة الوصول للمدارس كما يوضح شكل (3).
التعليم والقفز على الحجارة
دعك من التعداد الآن، ولنذهب سريعا إلى الجزء الخاص بالتعليم في كتاب «مصر في أرقام»، الصادر عن الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، وتحديدا صفحة 116، وبإجراء بعض الحسابات البسيطة سنجد أن الفصل الواحد في مرحلة التعليم قبل الجامعي كان يحتوي على 43 طالبا في المتوسط عام 2015-2016، يرتفع هذا الرقم إلى 45 طالبا لكل فصل في المرحلة الابتدائية على وجه التحديد، وينخفض إلى 35 طالبا لكل فصل في مرحلة التعليم الفني الصناعي.
كيف للطالب أن يحافظ على تركيزه في ظل هذا الازدحام؟ أتذكر وجوه زملائي عندما كنا في المرحلة الابتدائية، قطرات العرق تعلو الجبين، الجسد هزيل، والعين تحاول أن تدفع عنها جفونها في يأس، الرأس يتمايل ببطء شديد ناحية الكتف، والجفون تدلي بستائرها على العين شيئا فشيئا. هذه الأيام علاوة على أني لم أستفد منها شيئا فقد أورثتني أمراضا مازات أعاني تبعاتها إلى الآن.
أتذكر وأنا في المرحلة الابتدائية، كان علينا أن نضع الحجارة واحدا تلو الآخر في بركة ماء الصرف الصحي التي تحول بيننا وبين باب المدرسة، كنا نتمايل على الحجارة كالبهلوانات، عليك أن تفرد ذراعيك في الهواء لتحقق نوعا من التوازن، صغر حجم الحجر يحتم عليك أن تقف عليه بقدم واحدة، والأخرى معلقة في الهواء تنتظر أن تهبط بسلام على الحجر الذي يليه.
مصر والعالم
الأرقام في ثوبها المطلق قد تكون ظالمة في كثيرٍ من الأحيان، فعندما تضع الرقم بجوار نظيره والنسبة بجوار أختها وتقارن دولة بأخرى قد تكتشف أنك لست الأسوأ على الإطلاق، وأنك في كل الأحوال أفضل من سوريا والعراق!
تقرير التنافسية العالمي هو تقرير يصدر عن المنتدى الاقتصادي العالمي سنويا، ويعنى بترتيب الدول وفقا لمدى جودة قطاعات معينة كالصحة والتعليم وكفاءة الحكومة ومدى تفشى الفساد وكذلك جاذبية الدولة للاستثمار وغيرها من المؤشرات الفرعية.
ما يهمنا هنا هو وضع قطاع التعليم مقارنة بالدول الأخرى في عام 2017-2018، يبدو الأمر مبشرا، فلسنا الأسوأ على الإطلاق،يوجد 4 دول أسوأ من مصر فيما يتعلق بجودة التعليم الأساسي، فقد احتلت مصر في هذا المؤشر المرتبة 133 من بين 137 دولة شملها تقرير التنافسية، أما عن جودة التعليم العالي فقد جئنا في المرتبة الـ 130 والحمد لله!
عفواً، التعليم في مصر خارج نطاق الخدمة.. لكن ما السبب؟ الموازنة العامـة للدولة قد توضح جزءا من الإجابة على هذا السؤال.
التعليم والموازنة
موازنة عام 2016-2017 خصصت للتعليم ما قيمته 3% من الناتج المحلي الإجمالي، في حين أن النسبة التي خصصها الدستور للإنفاق على التعليم سنويا هي 6% (4% للتعليم قبل الجامعي، و2% للتعليم الجامعي).
معنى ذلك أننا ننفق على التعليم نصف النسبة المقررة في الدستور، مع العلم أن نسبة الـ 6% ما هي إلا نقطة البداية،وقد نصّ الدستور على ضرورة رفع تلك النسبة تدريجيا حتى نصل بها إلى المستويات العالمية! يبدو أن السيد عمرو موسى ولجنته كانوا متفائلين جدا عندما وضعوا هذه المادة، ولم يتخيلوا حينها أننا لن نحقق نصف تلك النسبة، ناهيك عن الوصول إلى النسب العالمية!
يتم تقسيم إجمالي الإنفاق على التعليم إلى أربعة أجزاء؛ جزء لدفع الأجور والمرتبات، وآخر لشراء السلع والخدمات من كتب وأدوات، وجزء ثالث لتسديد مديونية الوزارة، أما الجزء الأخير الذي يهمنا فيتم تخصيصه لبناء المدارس وتجديد المعامل وغيرها من عمليات الاستثمار، هذا الجزء لم يتعد الـ 11% من إجمالي الإنفاق على التعليم في موازنة 2016-2017، أي بما لا يتجاوز الـ 11 مليار جنيه.
هل يكفي هذا الرقم الضئيل وتلك النسبة الضعيفة لإقامة مدارس جديدة بالمناطق المحرومة وتطوير المدارس القائمة بالفعل؟ بالطبع لا، وإلا لما ضاقت الفصول على سكانها على نحو ما ذكرنا، ولما اضطررتُ إلى القفز على الحجارة في برك الصرف الصحي كالبهلوان حتى أستطيع دخول المدرسة، هذا على فرضية أن ذلك المبلغ سيخصص بأكمله للاستثمار في التعليم، ولن يكون ضحية الفساد الحكومي.
نعود الآن إلى لعبة المقارنة من جديد، كما يتضح من الشكل التالي، فإن بند الفوائد وتسديد أقساط القروض يلتهم حوالي 549 مليار جنيه من موازنة عام 2016-2017، أي بما يفوق نصف إجمالي مصروفات مصر خلال ذلك العام. الآن بدأت تتضح الصورة أكثر، ارتفاع الدين العام خلال الفترة الأخيرة بوتيرة سريعة جعل أكثر من نصف المصروفات المصرية تدخل جيوب الدائنين كل عام في هيئة فوائد وأقساط قروض، أما النصف الآخر فيتم توجيهه إلى قطاعات الدولة المختلفة، ومنها التعليم، ذلك المهضوم حقه.
بالتأكيد كان الرئيس صادقا عندما صرّح للإعلام الفرنسي بأننا لا نمتلك تعليما، لكنه لم يقل الحقيقة كاملة، كان حريا به أن يقول إننا همّشنا التعليم، جعلناه آخر أولوياتنا، خصصنا له فتات إنفاقنا، وأنهكنا الدولة بديون تلتهم نصف الموازنة سنويا!
وبينما كان يتحدث الرئيس عن انهيار التعليم عقد صفقات أسلحة مع فرنسا بمبالغ تتجاوز الـ 10 مليارات يورو منذ 2015 وحتى الآن، اليورو الآن يعادل عشرين جنيها، أي أن السيد الرئيس أنفق على الطائرات الفرنسية فقط ضعف ما نستثمره في التعليم سنويا!
باتباع نفس المنهجية في التحليل يمكننا أن نمر على قطاعات الدولة واحدا تلو الآخر، نُفنّد أوضاعه، نقارنه بدول أخرى، ونحاول تقصي أسباب تدهوره أو ربما ازدهاره حسبما تقودنا الأرقام، وقد نُفرد لذلك مقالات أخرى، وإن كان هذا المقال قد زوّد القارئ بأدوات للبحث، فبإمكانك تتبع المصادر والمنهجية التي استخدمناها في عرض الموضوع، وحينها ستكون قادرا على تقصي الحقائق بعد ذلك بنفسك، فنحن نؤمن أن المعرفة ليست حكرا على أحد، ومن حقك أن تمتلك الأدوات التي تمكنك من تقييم سياسة حكومتك.