إن قرض صندوق النقد الدولي سيكون كارثة اقتصادية، وشروط القرض ستكون مجحفة.
الدكتور مصطفي النشرتي، أستاذ اقتصاد

بدعوى الإصلاح الاقتصادي والتكيف الهيكلي تعرض العمال في مصر في التسعينيات لإجراءاتٍ تعسفية منها الإجبار على الاستقالة والفصل من العمل والتقاعد المبكر وخفض الحوافز والعلاوات التي تمثل نسبة كبيرة من الأجور الرسمية المنخفضة أساسًا؛ الأمر الذي صاحبه سلسلة من الإضرابات العمالية، ففي سبتمبر/أيلول عام 1994 منعت قوات الأمن سبعة آلاف عامل في شركة كفر الدوار للغزل والنسيج (أحد معاقل صناعة المنسوجات) من دخول المصنع، فاقتحم العمال المصنع ونظموا اعتصامًا، بينما استمروا في الإنتاج. وفي الثاني من أكتوبر/تشرين الأول اقتحمت قوات الأمن مباني المصنع وأطلقت الغاز المسيل للدموع والذخيرة الحية على المعتصمين. وفي هذه الأحداث قُتل أربعة أشخاص وجرح 120 شخصًا، وتم القبض على 90 آخرين.

كانت تلك الأحداث الشرارة الأولى لموجات الغضب التي أعقبت حصول مصر على قرض صندوق النقد الدولي في التسعينيات. وما أشبه اليوم بالبارحة إذ ينتظر اقتصاديو وسياسيو مصر زيارة وفد من صندوق النقد الدولي لمصر يوم السبت القادم ليُملي عليهم سياسات إصلاحية في ظاهرها إلا أن نتائجها الحتمية تسهم في تعميق جراح المواطن المصري.


ما أشبه اليوم بالبارحة !

قد لا نشعر حاليًا بخطورة هذه الديون، لكن عندما يحل وقت سدادها والفوائد المترتبة عليها، ستكون هناك أزمة، خاصة أن القطاعات الاقتصادية المصرية لا يمكنها توليد كل الدولارات اللازمة لسداد هذه الديون.
عمرو عادلي، الباحث بمركز كارنيجي

بحلول أوائل التسعينيات كان من الواضح أن الاقتصاد المصري يمر بأزمة كبيرة. فإجمالي الدين الخارجي بلغ 49 مليار دولار، بينما بلغت نسبة إجمالي الدين الخارجي إلى معدل الناتج المحلي الإجمالي 150%. وبلغ العجز في الميزانية 20% من الناتج المحلي الإجمالي، وتجاوزت نسبة التضخم السنوية 20%. ثم جاءت حرب الخليج 1991 لتزيد الأزمة سوءًا. فقد عاد أكثر من مليون عامل إلى مصر بعد الحرب، وهو ما أثر بالسلب على تحويلات العاملين، كما تراجعت السياحة بشكل ملحوظ، وهي أحد المصادر الرئيسية للعملات الأجبنية.

ومن أجل علاج الموقف توجهت مصر إلى صندوق النقد الدولي والبنك الدولي طلبًا للمساعدة، وعقدت اتفاقية مع صندوق النقد الدولي في مايو 1991 والبنك الدولي في نوفمبر 1991. ركز صندوق النقد الدولي على الإصلاحات النقدية والمالية وإصلاح أسعار الصرف. بينما ركز البنك الدولي على إصلاح الاقتصاد المصري من خلال الاستثمارات والتحرير والخصخصة. وهكذا وضع لمصر برنامج شامل لتحقيق الاستقرار والإصلاح الاقتصادي عُرف باسم برنامج الإصلاح الاقتصادي والتكيف الهيكلي ERSAP.

أما اليوم فقد اقترب إجمالي الدين الخارجي لمصر من حاجز الــ 54 مليار دولار، وارتفع الدين العام المحلي إلى 2.496 تريليون جنيه بنهاية مارس/آذار 2016م، وأشارت بيانات البنك المركزي، إلى أن ديون مصر لدول نادي باريس زادت 17.3% في الربع الثالث من السنة المالية 2015-2016، لتسجل 3.553 مليار دولار في نهاية مارس/آذار 2016. كما أن ديون مصر لصالح مؤسسات التمويل الدولية والإقليمية سجلت نحو 13.8 مليار دولار، إضافة إلى ديون تم إصدارها عبر السندات والصكوك وتبلغ 3.5 مليار دولار، ونحو 14.9 مليار دولار ودائع طويلة الأجل لدول أجنبية. وبذلك يكون نصيب كل مواطن من الدين الخارجي لمصر أكثر من 4360 جنيه. ومن أجل علاج الموقف لجأت مصر إلى صندوق النقد الدولي لتحصل على قرض تبلغ دفعته الأولى 4 مليارات دولار لدعم الاحتياطي النقدي في مصر. فما جدوى ذلك القرض؟


زيادة عبء المواطن.. الشرط الأساسي لقرض الصندوق

كانت الدفعة الأولية لنتائج الحصول على قرض صندوق النقد الدولي في التسعينيات هي سحق الفلاح المصري البسيط وذلك بقانون رقم 96 لسنة 1992 لتنظيم العلاقة بين المالك والمستأجر وكان مبرر الحكومة في إصدار مثل هذا القانون هو تحرير القطاع الزراعي فكان الخراب هو النتيجة الحتمية. فوفقًا لقانون 1992 تم رفع إيجار الأرض ثلاثة أضعاف، وهو مستوى يبلغ 25 ضعف ضريبة الأرض، على مدى فترة انتقالية مدتها خمس سنوات وبعد الخمس سنوات يتحدد الإيجار وفقًا لآليات السوق. إضافةً إلى إبطال توريث عقود الإيجار، الذي كان عنصرًا أساسيًا في قانون الإصلاح الزراعي. الأمر الذي أدى إلى تشريد ما يقرب من 905 ألف مستأجرًا يعولون على الأقل خمسة ملايين فرد. فقبل عام 1992 كان متوسط إيجار الأرض الزراعية يبلغ 200جنيه للفدان في السنة، زادت إلى 600 جنيه في الفترة الانتقالية بين 1992-1997، ثم زادت ثانيةً إلى متوسط 3000-4000 جنيه في عام 1997. وقد وقعت أعمال احتجاج وعنف من جانب الفلاحين كرد فعل على الإجراءات الحكومية. ففي عام 1997 قُتل 49 شخصًا وجرح 956 شخصًا وأُلقي القبض على 2785 في منازعات ناتجة عن القانون الجديد.

لم يكن الفلاح المتضرر الوحيد بل وصل الضرر للموظف الحكومي وذلك من إجراءات إلغاء القيود التنظيمية على الأسعار الأمر الذي صاحبه موجة تضخمية كبيرة في الاقتصاد المحلي. فوفقًا للبيانات المقدمة من وزارة الاقتصاد والتجارة الخارجية حينئذ بلغ مؤشر أسعار المواد الاستهلاكية 21% ما بين عامي 1991-1992، لينخفض إلى متوسط 10% ما بين 1992-1995، ليعود في تضخم كبير في عام 2003 ليسجل 21.7% بعد اتباع سياسات تعويم سعر الصرف. مع العلم أن المؤشر الذي تناولته الحكومة في بياناتها هو مؤشر أسعار المواد الاستهلاكية الذي يضم (سلة سلع تميل بشدة لصالح السلع المدعومة مثبتة الأسعار) والتي من شأنها التقليل من معدل التضخم الحقيقي. والمقياس الأفضل هو مؤشر سعر الجملة والذي سجل تضخمًا مقداره 18%. إضافةً إلى خفض الدخل الحقيقي في المناطق الحضرية بنسبة 14% و20% في المناطق الريفية. وبالتالي وصلت نسبة المصريين الذين يعيشون تحت خط الفقر الأدنى إلى 20%(أي أن هناك 20% من المصريين لا يستطيعون الحصول على احتياجاتهم الضرورية).

ورغم كل ما سبق ذكره من إجراءات، إلا أن صندوق النقد الدولي دفع الحكومة المصرية آنذاك لخفض الدعم المقدم للشعب فزادت أسعار النفط والبنزين. وبغرض إلغاء الدعم على المواد الاستهلاكية تدريجيًا، أنشأت حكومة نظيف الثانية وزارة جديدة، هي الضمان الاجتماعي. فكانت خطوات الحكومة آنذاك تضغط على المواطن البسيط فحسب حيث تم رفع أسعار المواصلات والكهرباء والاتصالات في محاولة منها لتقريب الأسعار المحلية من الأسعار الدولية. وهي بذلك تجاهلت حقائق مستويات الأجور المنخفضة جدًا ومستويات الدخل الحقيقي المتدنية للفرد.

وإذا نظرنا إلى مصر اليوم سوف نجد أن وزارة شريف إسماعيل يدفعون عملية تصفية ما تبقى من الحقوق الاقتصادية للمواطن البسيط، وتجرى عملية تصفية القطاع العام على قدم وساق. فاليوم ينتشر الحديث على إقبال الحكومة المصرية على خصخصة بعض البنوك المصرية وفقًا لنظام (IPO) وهو نظام لطرح أسهم البنوك في البورصة المصرية والذي يترتب عليه تحويل ملكية البنوك من ملكية الدولة إلى ملكية بعض الأفراد والشركات الخاصة والاتجاه العام نحو تبني أسعار صرف مرنة وهو ما يعيد إلى الأذهان تجربة التسعينيات والتي أدت إلى ارتفاع سعر الصرف من 3.5 جنيه في مقابل الدولار في الثمانينات إلى 7.15 جنيه في مقابل الدولار في عام 2004 مرورًا بسلسلة ارتفاعات متتالية وصولًا إلى أزمة الدولار اليوم وهو ما يشير إلى اتجاه أزمة الدولار في اتباع منحنى طردي خلال الأيام القادمة.


انعدام الأمن الوظيفي

صندوق النقد لن يتهاون في شرط تعويم الجنيه المصري، فمن غير المقبول بالنسبة للصندوق أن يحصل على دولارات لينفقها في الدفاع عن سعر وهمي للجنيه.
لقد كانت المحصلة النهائية لسياسات إجماع واشنطن التي اتبعتها الحكومة في أعقاب قبول قرض صندوق النقد الدولي في التسعينيات؛ هي تعميق الفقر في مصر.
د. نادية رمسيس، أستاذة الاقتصاد السياسي

كان تأثير برنامج الإصلاح الاقتصادي والتكيف الهيكلي على نمو العمل والوظائف في التسعينيات مخيبًا للآمال في أحسن الأحوال. فقد أدى تطبيق البرنامج إلى هبوط حاد في استثمارات القطاع العام، وبالتالي التشغيل. ولم يزد نصيب القطاع الخاص في التشغيل إلا بدرجة هامشية، رغم الأولوية التي أعطيت للاستثمارات الخاصة. وعلى ذلك فقد عجز القطاع الخاص عن التعويض عن تناقص التشغيل العام، في الوقت الذي تخلت فيه الحكومة عن سياسة تعيين الداخلين الجدد لسوق العمل. وفضلًا عن ذلك بدد القطاع الخاص قدرًا كبيرًا من رأس المال على مشروعات غير إنتاجية مرتفعة وسريعة العائد وتتميز باستيعاب منخفض للعمالة مثل الصناعات الخاصة بالنفط والخدمات الاجتماعية، بينما لم تخصص استثمارات كبيرة للقطاعات التي تولد تشغيلًا عاليًا مثل البناء والتجارة.

واليوم نجد أن معدل البطالة في مصر يتخطى حاجز الــ 25% وفقًا لتقديرات المدير السابق لإدارة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بالبنك الدولي خالد إكرام. يأتي هذا بينما تظهر التقديرات الرسمية أن نسبة البطالة عند حدود الــ 13% فقط. وبعد كل ذلك مصر إلى أين؟

المراجع
  1. الاقتصاد السياسي لمصر: دور علاقات القوة في التنمية
  2. اقتصاديات الفساد في مصر: كيف جرى إفساد مصر والمصريين
  3. الدين الخارجي لمصر يصل إلى 53.44 مليار دولار
  4. إضراب عمال النسيج آخر محطات التحركات العمالية بمصر
  5. فيديو..محافظ البنك المركزي يكشف حقيقة خصخصة البنوك
  6. مصر: الأجانب يستحوذن على البنوك والمواطنون غائبون
  7. فيديو.. أستاذ اقتصاد: قرض صندوق النقد كارثة على مصر
  8. ارتفاع الدين الخارجي لمصر