إدوارد ودرويش: ثنائي استعادة الهوية
لا يتم تناول القضية الفلسطينية شعبياً أو إعلامياً في أي مكان في العالم دون الإتيان على ذكر إدوارد سعيد ومحمود درويش، رغم العدد الكبير من الأكاديميين والأدباء الذين قدموا كثيراً للقضية الفلسطينية فإن شهرتهم وتقدير عطائهم يتضاءل ما إذ قورن فوراً بعطاء إدوارد ودرويش.
مُنظِّر القضية الفلسطينية في كتاباته، ومخلدها في أشعاره، لم يتبوآ تلك المكانة عن غير استحقاق، ولكثرة التقاطعات الفكرية التي تجعمها، وتدخل في صميم العمل من أجل فلسطين، أصبح إدوارد ودرويش مرجعين للقضية أكثر من كونهما شخصين، ليس لأنهما صديقان، ولكن لأرضية مشتركة جمعت بينهما في الإنتاج الفكري، والموقف السياسي، ظل إدوارد ودرويش دائماً يتقاطعان حتى في تناقضاتهما الذاتية، ويحتل كل منهما قراءة واسعة لقطاع من الجمهور الذي يرى القضية الفلسطينية من خلالهما، فمحمود درويش ربما يعد الشاعر الأكثر مبيعاً في الوطن العربي، أما إدوارد وإن كانت قراءته محدودة في الوطن العربي، إلا أن شهرته تتجاوز كثيراً من المفكرين العرب إن لم يكن أشهرهم في الغرب.
الهويات المتصارعة
الذي جمع بين إدوارد سعيد ومحمود درويش كنموذج للمثقف الفلسطيني، أنهما عبّرا عن جيل من الفلسطينيين يبحث عن هويته الضائعة والمشتتة في المنفى، حيث إن كليهما كان طفلاً حين سقط وطنه، وتشكل وعيه بكيانه وذاته بينما كان وطنه محتلاً، وكان شعبه يبحث عن وطنه الضائع والمحتل في المنفى من الولايات المتحدة إلى تونس، لذلك تركت ثنائية «الذات-المكان» أثرها في أعمال درويش الشعرية، وأعمال سعيد النقدية الأكاديمية.
لقد تركت إشكالية تهجير سعيد إلى القاهرة بعد النكبة تأثيراتها النفسية والفكرية عليه، وأسهمت في تشكيل رؤيته لطبيعة القضية الفلسطينية، والصراع العربي الإسرائيلي، وكان من الطبيعي أن تتولد في وجدان سعيد مشاعر متباينة، تتناقض مع قوميته العربية، التي عمق من إحساسه بها تردده الدائم على القاهرة وبيروت خلال مرحلة المد الناصري في الخمسينيات والستينيات، مع جنسيته الأمريكية التي اكتسبها من تجنس والده بها، والذي كان محارباً في الحرب العالمية الأولى.
بالنظر إلى كل هذا ندرك إلى أي مدى تعمق لسعيد الإحساس بالعيش «خارج المكان» حيث إن والده لم يكن حريصاً على غرس بذور الانتماء العربي عنده، فلذلك عانى سعيد طفلاً وشاباً وكهلاً من مشكلة التداخل والتزاحم والتقاطع بين الهويات، ومع ذلك فإن الاحساس الدائم بالعيش خارج المكان لم يحل بينه وبين اختياره الواعي، بكامل إرادته لهويته العربية والفلسطينية، بخاصة في مرحلة تبلور الحركة الفلسطينية بعد هزيمة 1967م وهو الأمر الذي ساعد على تنمية وتعميق انتمائه الفكري، حيث قرر سعيد أنه عربي بالاختيار، أي من خلال عملية فكرية إرادية واعية عميقة الانتماء.
وتلك الإشكالية الهويتية، تنعكس في تعريف سعيد للفلسطيني حين يقول:
إن تلك الرحلة والنظرة يشاطره فيها محمود درويش الذي بدوره عاشَ في العديد من البلدان العربية، غير أنه حمل المواطنة الإسرائيلية الإجبارية وتعلم العبرية إلى جوار العربية، وعاش في فرنسا وبلاد الغرب ردحاً من الوقت، فأصبحت هويتهما تغذيها روافد أربع فلسطينية وعربية وكونية وفردية.
الطباق والهوية
يستلهم درويش في قصيدته الشهيرة «طباق» عنوانها من فكر إدوارد سعيد الذي رأى في عمله الأشهر «الاستشراق»، يقول:
حيث يرى إدوارد استحالة النظر في الثقافات باعتبارها تناحرية تضادية، إنما تتكامل فيما بينها، فيستحيل التفريق بين الشعوب، بمعايير عرقية، عنصرية فصلية مطلقة، إنما تاريخية نسبية، ويستحيل النظر إلى الكائن باعتباره مجرداً من أصول بيئية وثقافية مؤثرة فيه، وبإطلاق، إنما قابليته للأخذ من بيئات وثقافات مختلفه داخل مفهوم التنوع، وهكذا لا يكون الآخر إلا صفة لذات ما، وليس لغريب خارج عنها، فيكون الآخر مكملها، وليس المعادي لها، كما كان سعيد فلسطينياً أمريكياً، في المجتمع الأمريكي الأشبه بطبق السلطة لتنوعه.
تتجلى ثنائية «الذات-المكان» عند محمود درويش في رثائه لإدوارد سعيد في قصيدة طباق، لم يكن استحضار إدوارد سعيد عبثياً في تلك القصيدة، ولم يكن محاولة لرثاء من نوع جديد على الرثاء، كأغلب رثائيات محمود درويش الغريبة عمَّا شاع في الشعر العربي.
كان إدوارد سعيد واقعاً تحت وطأة الثنائية التي عانى منها درويش في سنواته الأخيرة، وهي ثنائية الوطن-المنفى أو (هنا-هناك) التي تتجلى في كلام إدوارد سعيد في القصيدة، وتظهر في كتابه «خارج المكان»، ويختتم درويش قصيدته لسعيد بما أراد اقتباسه حقاً من منهج سعيد وهو الغاية النهائية من النص الذي رثاه به، إنه البحث عن الجوهر البشري، عن الإنسان الكامن خلف كل الصراعات البشرية القديمة والحديثة:
ولكن هذا الانفتاح نحو الآخر العالمي، والإيمان بالتعدد الثقافي، لا يعني بأي حال من الأحوال التنازل عن الخصوصية والهوية والفردية المعبرة عن الفلسطينيين، وهكذا يقول محمود درويش موجهاً خطابه إلى سعيد:
ونراها تلك الهوية تؤكد ذاتها وخصوصيتها مرة أخرى في قصيدة «سجل أنا عربي» حيث يقول درويش:
بينما تتكرر عبارة سجل أنا عربي في القصيدة، فإن درويش يتحرر من أي عقدة خوف على هذه الهوية، لأن المرأة الفلسطينية ولادة، والفلسطيني لا يخشى عليهم الفاقة، فكل شيء من رغيف خبز، وأثواب سيأتي لهم وإن من الصخر، وأن هذا الشعب يعيش ثورة غضب، والأرض الفلسطينية مليئة بالزيتون والعشب الذي لا يترك لفلسطيني أن يخاف من جوع، فتلك قصيدته التي تكشف عن أدق تفاصيل الملامح الفلسطينية، وعن الزمان والمكان الفلسطينيين.
وفي قصيدة أخرى، يورد درويش ما آمن به سعيد بالتعدد في الهوية، ويحول إشكالية الهوية إلى معركة في داخل ذات العدو الصهيوني نفسه، وعند رمز قوته الباطشة، الجندي الصهيوني، في قصيدته «حالة حصار»، حيث يوجه خطابه الشعري الإنساني نحو جندي إسرائيلي قاتل، في محاولة منه لعل هذا الجندي القاتل يستعيد بعضاً من إنسانيته المفقودة، فهو يذكره بغرف الغاز والنازيين، لو أن أمه بهذه الغرفة، ربما أعاد النظر في قتله للأبرياء، ولكن عودة الماضي للأذهان لم تغير من وحشية الجندي الصهيوني الذي أصبح القتل هويته الشخصية:
قتل الأب عرفات
تحفل فلسطين بالعديد من الرموز الأدبية والسياسية منذ النكبة، وإن كان إدوارد ودرويش وكنفاني هم الذين صاغوا لفلسطين المُحتلة هويتها الثقافية، فبالتأكيد ياسر عرفات في مضمار السياسة هو الذي صاغ لفلسطين هويتها السياسية، وقد كان عرفات بشخصيته الحركية الكاريزمية التي تتواءم مع كل الطيف السياسي من يمينه إلى يساره، قادراً على استقطاب وتوحيد رموز الكفاح الفلسطيني حوله.
آمن سعيد أنه لا نضال يكتمل لفلسطين، دون نقد حقيقي لحركة المقاومة نفسها، أي قتل الأب- ياسر عرفات- والتحرر من سلطته، وكانت تلك هي بذور الشقاق في رحلة سياسية موازية لرحلة أدبية ثقافية خاضها سعيد ودرويش.
كان محمود درويش وسعيد أهم الشخصيات الأدبية التي تحلقت حول عرفات حتى أوسلو 1993م، ويصف سعيد دور درويش في تلك الفترة أنه طيلة فترة نشاطه السياسي في منظمة التحرير الفلسطيني، كان يلعب دوراً سياسياً «على مضض» رغم أنه كان شديد القرب من عرفات ومستشاراً وعضواً في اللجنة التنفيذية، وقد أكد درويش حقيقة تلك المقولة فقال إنه لم يرغب بينه وبين نفسه أن يكون عضواً في القيادة، فإن ذلك يتعارض مع نزعات الشاعر الخاصة، ويتسبب في تأويلات مبالغ فيها لما يقول أو يكتب، وقد شعر بسهولة التنفس مثل شخص أطلق سراحه حين خرج من المنظمة.
وبدوره، في عام 1977م كان إدوارد سعيد قد انضم إلى المجلس الوطني الفلسطيني الذي يمثل الهيئة التشريعية العليا للشعب الفلسطيني بأسره، وأصبح من أهم مستشاري القيادة الفلسطينية في تلك الفترة، وأحد أبرز الوجوه التي سعت منظومة التحرير الفلسطيني لإبرازها في حوارها مع الآخر، حيث كان قد اشتهر في الأوساط الغربية بشدة بعد نشر دراسته المهمة عن الاستشراق عام 1978م.
وحين خاطب ياسر عرفات العالم باسم الشعب الفلسطيني للمرة الأولى في الأمم المتحدة عام 1974م، وأخبرهم أنهم قد جاءهم بغصن الزيتون في يده، وبندقية الثائر في يده الأخرى، وناشدهم ألا يسقطوا الغصن الأخضر من يده، كانت تلك الكلمات التاريخية لفلسطين في مخاطبة العالم للمرة الأولى، هي ثمار التعاون الأول بين درويش وسعيد، حيث كتب درويش الخطاب، وترجمه سعيد إلى الإنجليزية.
وجمع الاثنين كتابة وثيقة إعلان دولة فلسطين والتي تم إقرارها في نوفمبر 1988م في الجزائر، وكانت الدولة التي تدعو لها الوثيقة تقوم على حدود 1967، إلا أن الأمور لم تسر كما أرادها سعيد ودرويش حين ذهبت منظمة التحرير إلى مدريد وظهرت إرهاصات أوسلو، التي عارضها سعيد بضراوة.
استقال إدوارد من المجلس الوطني الفلسطيني لأنه استشرف أن اتفاقاً كارثياً يلوح في الأفق، وقد تمثل في النهاية في اتفاقية أوسلو، التي سماها إدوارد اتفاقية العار، وكانت إتفاقية أوسلو أيضاً هي التي رسمت خط النهاية بين درويش ومنظمة التحرير الفلسطينية وعرفات، حيث استقال في اليوم الذي تلى توقيع الإتفاقية.
ولكن، كان لكل منهما طريقته في قتل الأب، فقد كان إدوارد في نقد عرفات رجلاً ذا نبرة غاضبة وساخطة حتى اتّهم في أحيان كثيرة من الصحف أن هجومه على عرفات تحول إلى هجوم شخصي، حيث كان يصف رجال منظمة التحرير بالعصابة الإجرامية، والجيش الجرار الحامي لإسرائيل، واللصوص الذين كدسوا الثروة على حساب إفقار الشعب.
أما درويش فاختار الانسحاب بهدوء، والصمت القاسي اللائم وبسلاح الشاعر، اكتفى برمزيات يعبر من خلالها عن آرائه، ولم تنقطع علاقته الشخصية بعرفات، فقد كتب درويش لعرفات خطاباً ألقاه في مؤتمر لليونيسكو عام 1996م كان عرفات طلب كتابته شخصياً من محمود درويش.
تناقضات ومآخذ
كان الشقاق مع عرفات يدور حول مسألة كرامة وشروط أفضل وليس فكرة الاتفاق مع إسرائيل في حد ذاته، فإدوارد سعيد الذي شعر بالمهانة من خطاب منظمة التحرير إلى إسرائيل الذي بلغ صفحة ونصف ولم يُرد عليه من إسرائيل سوى بسطر ونصف، ودرويش الذي رأى في أوسلو أنها شروط متسرعة كان يمكن الحصول على أفضل منها بكثير واستغلال أن إسرائيل تريد أن تدخل إلى العالم العربي، وكان يمكن للفلسطينيين أن يصبحوا حراس تلك البوابة التي تلج منها إسرائيل إلى العالم العربي لو أنهم صبروا قليلاً، لم يكونا معارضان بالأساس لفكرة التقارب مع إسرائيل.
وهذا الأمر ما يؤخذ عليهم أحياناً لكونهم ليسوا أصحاب مواقف راديكالية في النضال، فإدوارد كان يؤمن بعدم إمكان زوال إسرائيل، بل إنه كان يؤمن بلا أخلاقية طرد أي شعب، وكان يحرص على أن يؤكد أن كفاح الفلسطينيين لا يعني الهدف إلى طرد الإسرائيليين من الشرق الأوسط، ولكنه كفاح مانديلي-نسبة إلى مانديلا- يدعو إلى البقاء والمشاركة في الأرض على أساس المساواة، فإسرائيل واقعاً، كما أنها نتيجة للتاريخ المأساوي جداً للشعب اليهودي، أما شكل الدولتين الذي ارتآه سعيد فهو أن تكون كانتونات سويسرية قائمة في الشرق الأوسط، حيث يصبح لكل شعب ثقافته ولغته، ويتشاركا في دولة واحد على أساس المواطنة.
لهذا كان رفض سعيد لأوسلو حيث رأى أن حل الدولتين انتهى عملياً بسبب توغل الحركة الاستيطانية والحكومة الإسرائيلية والجيش الإسرائيلي في الحياة الفلسطينية، إلى درجة استحالة الفصل بين الفلسطينيين والإسرائيليين، لذلك ألح على ضرورة أن يجد الشعبان معاً وسيلة للعيش لا كأسياد وعبيد، وإنما كمواطنين من درجة واحدة، لأن إقامة دولة فلسطينية مستقلة لن تقوم في النهاية سوى على نتاتيف صغيرة، كما أن الحل القائم على دولتين سيتجاهل حق الفلسطينيين في إسرائيل «عرب الداخل» حيث سيجعلهم مواطنين من الدرجة الثانية في دولة إسرائيل.
جاءت قصيدة درويش «أحد عشر كوكباً على آخر المشهد الأندلسي» لتعبر عن الروح التي سادت بعد أوسلو، وهي روح انتقدها إدوارد سعيد حين وصفها بأنها تنطوي على نغمة الكلل وهبوط الروح والتسليم بالقدر، والتي تلتقط عند العديد من الفلسطينيين مؤشر الانحدار في أقدار فلسطين، التي مثل الأندلس، هبطت من ذروة ثقافية كبرى إلى حضيض فظيع من الفقد، على صعيد الواقعة والاستعارة معاً.
الغريب أن تلك الروح كانت تجد صداها في فكر إدوارد السياسي نفسه الذي سلم بإسرائيل كواقع لا يمكن زواله، وتجد تلك المقولة التي وجهها إدوارد إلى قصيدة درويش متجلية في مسيرة درويش التي توازت طردياً بين أشعاره وحركة المقاومة الفلسطينية، صعوداً وهبوطاً، قوةً وضعفاً، حتى وصلت إلى حركة الإسترخاء في نهاية التسعينيات التي عبرت عنه قصيدته.
في النهاية إن رؤية ثنائية القومية التي اعتنقها كلٌّ من محمود درويش وسعيد قد تحمل عليهما ما تحمله من ألسنة النقد واتهامات التخوين والتفريط، إلا أنها لا يمكن بأي شكل من الأشكال أن تمحو ما تركه وراءه كل منهما في مجاله من بروج مشيدة تلونت بلون العالم الفلسطيني، فأصبحت كل الطرق التي تؤدي إلى قضية فلسطين، تمر حتماً من بوابة أحدهما أو كليهما.
- أدب المقاومة من تفاؤل البدايات إلى خيبة النهايات: عادل الأسطة
- غواية سيدورى قراءات في شعر محمود درويش: خالد عبد الرؤوف
- التجليات الفنية لعلاقة الأنا بالآخر في الشعر العربي المعاصر: أحمد ياسين
- محمود درويش الغريب يقع على نفسه قراءة في أعماله الجديدة: عبده وازن
- إدوارد سعيد ناقد الإستشراق قراءة في فكره وتراثه: خالد سعيد
- غربة الكاتب العربي: حليم بركات
- الكفاح المسلح والبحث عن الدولة: يزيد يوسف صايغ
- الإستشراق: إدوارد سعيد