إدجار دافيدز: الرجل الذي قادته نظارته إلى الجنون
يقضي البعض عمرًا كاملًا في عمل شاق دائم دون أن يلاحظه أحد، إنه نقص الكاريزما الذي يعاني منه كثيرون دون حلول. تلك الكلمة التي لا ينطبق عليها وصف دقيق، أن تتمتع بهالة ما تجعلك في منتصف بقعة الضوء دون أن تبذل نفس الجهد الذي يبذله الآخرون.
حسنًا نبدو أننا على وشك قصة معتادة عن أحدهم الذي ظل يعمل في الظل دون أن ينال التقدير المستحق. قبل أن يصيبك الملل وتتركني أتحدث وحيدًا دعني أعدك أننا على مشارف قصة أخري على النقيض تمامًا عما يدور في ذهنك.
إنها قصة رجل امتلك من الكاريزما ما جعل البعض ينسى أن عمله الشاق هو رأسماله، عن رجل ربما تسببت الكاريزما في أنه أصبح أقل شهرة مع الوقت.
رجل اسمر مفتول العضلات يختفي نصف وجهه تحت نظارة طبية رياضية تحمل اسمه من فرط ارتباطه بها مع جدائل شعر على طريقة الراستا المميزة. لا يمكن أن تخطيء التنبؤ طبقًا لهذا الوصف أبدًا، إنه إدجار دافيدز بالطبع، لكن هل تذكر شيئًا آخر عن دافيدز؟
نعم إنه كلب البيتبول الذي لا يتوقف عن مطاردة الكرة، الرجل الذي اعتاد دهس منتصف الملعب جيئة وذهابًا لسنوات مفعمًا بطاقة لم يعرفها أحد من قبله. يعزو إليه البعض صناعة أسطورة زيدان نفسه كأفضل صناعة في تاريخ كرة القدم.
تتوقف دومًا الذكريات عن دافيدز عند هذا الحد ثم البقية ذكريات مشوهة يقف فيها دافيدز بقميص السبيرز تارة وقميص ناد مغمور لا يعرفه أحد تارة أخرى، حتى أن من بين أبناء جيله جميعهم هو الأقل ظهورًا بعد الاعتزال.
ربما سيطرت كاريزما نظارات دافيدز على دافيدز نفسه وربما كان دافيدز نفسه صاحب مستوى متوسط استفاد من تلك الهالة المفترضة. دعنا نقرر إلى أي جانب ينتمي الرجل لكن بعد أن نقترب منه أكثر، دعنا نبدأ رفقة إدجار الصبي حليق الرأس ذي النظر الصحيح.
أكاديمية أياكس: هنا تُصنع الأساطير
يبدو أن صناعة جيل من الأساطير عمل هولندي خالص، لكن تبقى التجربة الأبرز هي تجربة أياكس 95. الجيل الذي حقق بطولة دوري أبطال أوروبا بأسماء أصبح معظمها من أساطير اللعبة. لكن المميز أن تلك الأسماء كانت في مقتبل عمرها الكروي كمنتج طازج قدمته أكاديمية أياكس.
باتريك كلويفرت وكلارنس سيدورف في عامهم الثامن عشر، بينما إدجار دافيدز ومارك أوفرمارس لم يتخطوا عامهم الواحد والعشرين بعد. أعمار صغيرة تقدم نضجًا كرويًا غير مسبوق، والسبب قد يبدو واضحًا في قصة دافيدز كمثال جيد.
بدأ دافيدز لاعب كرة القدم في شوارع هولندا مثل بقية اللاعبين ثم التقطته أعين كشافة أياكس الخبيرة. يتضمن نظام أكاديمية أياكس طريقة بسيطة لتعظيم مهارات اللاعبين: لعب كرة القدم بلمستين فقط. توافر مدرب رياضي متخصص ومدرب مخصص للركض ومدرب مخصص للياقة البدنية.
لعب دافيدز رفقة باقي لاعبي الأكاديمية مباريات كثيرة في مراكز عديدة، حتى استقر به الأمر كجناح أيسر ثم صانع لعب. ونظرًا لتألق أوفرمارس في تلك المراكز وجد دافيدز نفسه يتقهقر نحو مركز خط الوسط المدافع.
أدرك دافيدز ببساطة أنه ينتمي إلى هذا المكان، التواجد في بؤرة الحدث. يبدو دومًا أقرب إلى الكرة والالتحام للحصول عليها أو تمريرها لصناعة هجمة. وجد أخيرًا مركزاً منطقياً لتلك القوة البدنية الهائلة وهذا الشعور الغريزي لمطاردة الكرة.
رأي فان جال مدرب أياكس حينئذ تلك المثالية ببساطة فقرر أن دافيدز لن يبرح خط الوسط أبدًا ثم أطلق عليه لقب «البيتبول» كناية عن شراسته أثناء مطاردة الكرة على الدوام والحصول عليها بأي ثمن.
في ميلان: حتى البيتبول لا يستطيع أن يحيا وحيدًا
انتقل دافيدز إلى ميلان كتطور منطقي في عالم كرة القدم حينئذ. لكن وبعد فترة وجيزة كسرت ساقه وكانت تلك من أسوأ الأوقات التي عاشها دافيدز
تمامًا مثل كلب بيتبول تركه صاحبه وحده في المنزل، جالسًا وحيدًا في المنزل مع تلفزيون لا يفقه منه شيئًا كونه لا يتحدث الإيطالية. أول أسبوعين لا يمكنه تحريك ساقه حتى لا يصاب بتجلط الدم. لم يجد دافيدز شيئًا لفعله إلا أن يقود سيارته إلى أمستردام حيث يستطيع أن يتعافى.
كانت قصة ميلان مع دافيدز قد كتبت نهايتها قبل أن تبدأ لكنها كانت بمثابة حلقة قدرية لتصل بدافيدز للحلقة الأهم حيث عرض يوفنتوس على ميلان خيار شراء عقد دافيدز، وافق ميلان على الفور وأدرك دافيدز أنها الخطوة الأهم نحو عودة البيتبول لمطاردة الكرة.
إدجار يوفنتوس: ماذا تعرف عن الين يانج؟
يروج البعض لفكرة زيدان الذي ولد في كأس العالم فرنسا 1998، قبل تلك البطولة لم يكن زيدان وبعدها أضحى زيدان عملاقًا لا يضاهيه أحد. لكن المتتبع الجيد لمسيرة زيدان يمكنه بسهولة ملاحظة الفارق الجوهري في مسيرة الرجل. هذا الفارق كان إدجار دافيدز.
لم يكن زيدان أول من يقدم بطولة استثنائية في التاريخ، فعلها البعض ثم ذهبوا أدراج الرياح .إلا أن عام 1998 نفسه شهد قدوم دافيدز إلى اليوفنتوس.
كان زيدان مفعمًا بالثقة واضعًا قدمه فوق قمة العالم الكروي، مستعدًا لتقديم كل فنون اللعبة ولا ينقصه سوى أن يكن مطمئنًا أن خلفه كلب بيتبول لا يخشى أن يتمزق إربًا بهدف حمايته، لم ينقصه سوى إدجار الشرس.
خمس سنوات من التناغم الكامل. الأمر أشبه بالين يانج، تلك الفلسفة الصينية التي يعبر عنها رمز الدائرة المتكونة من اللونين الأبيض والأسود. إنه التكامل الذي يحتاجه أي فرد أو منظومة، إذا كان زيدان الأبيض هو المهارة والفكر فإنه لن يجدي نفعًا دون دافيدز الشرس الذي يؤمن لزيدان المساحة والثقة اللازمة لنشر سحره.
ربما يجول ببالك أن دافيدز مجرد مدمر لهجمات الخصوم مستغلًا قدراته البدنية، لكن دعنا لا ننسى أن هذا الرجل الذي بدأ كجناح أيسر وصانع ألعاب لأفضل جيل ناشئين في العصر الحديث كان يملك مهارات متنوعة.
سرعة ملحوظة وقراءة مثالية كما أنه يجيد إرسال الكرة بين مدافعي الخصم كلما أتيحت الفرصة لذلك أو تسديد بعض الكرات من مسافات بعيدة لتسكن الشباك وسط ذهول الحراس والجماهير
النظارات: الجلوكوما التي زادت من شهرته
خلال عام 1999 عرف دافيدز أنه مصاب بالجلوكوما وهو مرض ناجم عن زيادة ضغط العين مما يؤثر على العصب البصري ورؤية الشخص. فكر إدجار في ترك كرة القدم تمامًا واعتزال الرياضة لأنه ببساطة لا يعرف كيف ستسير الأمور بعد خضوعه لعملية ضرورية لعلاج هذا المرض.
بفضل التشخيص المبكر لحالة دافيدز كانت النتائج مثالية، فقط يحتاج أن يرتدي نظارات طبية في قلب الملعب حتى لا تهتز رؤيته. لم يكن الأمر مستساغًا في البداية لكن دافيدز كان جريئًا بالشكل الكافي الذي يجعله يعتمد على تلك النظارات كجزء من ملابسه في الملعب. ارتدي دافيدز تلك النظارات بأشكال وألوان مختلفة صنعت له خصيصًا.
مع الوقت، أحب الناس النظارات كثيرًا بل وتم استغلال الأمر تسويقيًا بكل السبل. بدأت أسطورة دافيدز اللاعب صاحب النظارات تتوهج بشدة حتى أنها طغت على إمكانيات ومجهود الرجل.
تزامن الأمر مع توهج التسويق الإعلاني للاعبي كرة القدم حتى أن الصورة الذهنية لدى الكثيرين لدافيدز هي صورة إعلان نايكي حيث يرتدي دافيدز النظارات التي تمكنه من كشف أشعة الليزر.
توتنهام وأندية أخرى: صفقة الرجل صاحب النظارات
رحل زيدان عن اليوفنتوس تاركًا وراءه إدجار الذي اهتز بعض الشيء مع الوقت. لم يحافظ إدجار على نفس المستوى لكنه كان مفعمًا كعادته بروح قتالية وحب للتحدي، لذا بعد أن أدرك أن خطط السيدة العجوز لا تشمله قرر أن يخوض أكثر من تحدٍ دون ذرة تخطيط.
ستة أشهر رفقة برشلونة ثم عام مع الإنتر وعامان رفقة توتنهام في الدوري الأكثر خشونة في أوروبا رغم تقدم الرجل في السن. توقف عن لعب الكرة لعامين ثم العودة من بوابة نادي إنجليزي آخر هو كريستال بالاس، كل تلك كانت أعوام لا يذكرها أحد بالخير لدافيدز.
في المقابل تلك الأندية كانت تعقد صفقة مع الرجل صاحب النظارات، الرجل الذي لا يمل الجمهور من رؤيته أبدًا. تحول دافيدز لأيقونة تسويق وإعلانات. ولأن الرجل كان يثق لحد الانخداع في قدراته -التي كانت تقل تدريجًيا- كان يقدم مستويات لا تشفع لها نظاراته أبدًا.
نهاية مجنونة: لماذا لا يظهر الآن دافيدز بين الكبار؟
بحكم المنطق ومرور الزمن فزملاء دافيدز القدامى هم من يحتلون مراكز المدربين أو المديرين الرياضيين لعدد من الفرق الأوروبية الآن، إلا أن دافيدز غائب تمامًا عن تلك الصورة.
السبب أن دافيدز قرر أن ينهي حياته مع كرة القدم بأسوأ شكل ممكن مستنفدًا الوقت في مشاهد عبثية بدلًا من أخذ خطوات جادة نحو التدريب أو الإدارة.
بعد أن توقف دافيدز عن لعب كرة القدم رفقة ناديه الأخير كريستال بالاس عام 2010، قرر أن يعود ليخدم الكرة الإنجليزية باللعب دون أموال رفقة فريق الدرجة الثالثة المتواضع بارنت.
بدأ دافيدز كلاعب لمدة شهرين ثم أصبح لاعبًا ومدربًا للفريق في ذات الوقت، هبط الفريق للدرجة الأدني ولم يرحل دافيدز بل قرر أنه سيلعب الموسم المقبل بالقميص رقم 1. وخلال أول ثماني مباريات من الموسم الجديد تلقى ثلاث بطاقات حمراء. كما أنه أبرم صفقة مع النادي بأنه لن يسافر لمباريات في أماكن بعيدة رغم أنه كان يلعب في كل مراكز الفريق تقريبًا.
عامان من الجنون، تحولت خلالهما جماهير بارنت السعيدة بقدوم نجم عالمي لفريقهم للمرة الأولى لمثار سخرية إنجلترا بأكملها. كان المشهد سرياليًا بجدارة حيث عرف دافيدز بين الجماهير بالتواضع ومساعدة اللاعبين الشبان لكنه كان على أرض الملعب رجلًا مجنونًا يبعث بمقاليد نادٍ كامل طبقًا لمزاجه.
ربما تسأل الآن أين دافيدز؟ منذ ثلاثة أيام فقط تولى الرجل وظيفة مدرب مساعد في ناد يلعب بالدرجة الثانية من الدوري الهولندي، كما أنه يمتلك خط إنتاج لصناعة كرات وملابس وإكسسوارات مخصصة لكرة قدم الشوارع التي صنعت أسطورة إدجار. إدجار الحقيقي لا إدجار صاحب النظارات الخلابة.