اقتصاد الفقراء: تغيير جذري لمفاهيم محاربة الفقر
على الرغم من صدوره لأول المرة عام 2011 فإن قصة الكتاب الذي بين أيدينا تعود إلى عام 1995 عندما غادرت «إيستر دفلو» فرنسا متجهة إلى معهد ماساتشوستس للتقنية MIT بالولايات المتحدة الأمريكية لتحصل على شهادة الدكتوراه في الاقتصاد. راقت لدفلو أفكار البروفيسور أبهجيت بيرانجي ومنهجه العلمي في تناول قضايا الفقر والفقراء، فاختارته مشرفًا عليها، وتطورت علاقة الطرفين العلمية والإنسانية حتى انتهت بمولودين، أولهما كتاب «اقتصاد الفقراء» الذي صدر عام 2011، ووضعا فيه بنات أفكارهما ورؤيتهما تجاه كيفية محاربة الفقر والقضاء عليه، والثاني طفلهما الذي أنجباه عام 2012.
قد يتصور القارئ للوهلة الأولى أن الكتاب شأنه شأن أي كتاب في التنمية، معني بعرض أوضاع الفقر والعدالة الاجتماعية في العالم، وهو محق في ذلك، إلا أن ما يعطي الكتاب أهميته ويجعله متفردًا عن غيره من كتب هو تناوله لقضية مكافحة الفقر من منظورين جديدين:
أولًا: اتباع نهج جزئي وليس كليًّا في دراسة الفقر
بخلاف كل كتب التنمية الاقتصادية التي تجدها على أرفف المكتبات، لا يتعرض الكتاب إلى دراسة الفقر والتعليم والصحة وغيرها من القضايا التنموية كقضايا إجمالية عامة، ولكن ينزل الكتاب إلى أرض الواقع، ليعرض ظروف الفقراء، وأساليب معيشتهم، ثم يناقش كل حالة على حدة.
يخبرك الكتاب لماذا تنخفض مستويات تطعيم الأطفال في قرى نيجيريا رغم وجود الوحدات الصحية بالفعل، ثم يذهب بك في رحلة إلى الهند ليريك كيف ولماذا يقترض الفقراء عند معدل فائدة 5% يوميًّا، أي حوالي 54 مليون في المائة سنويًّا، كونها فائدة مركبة!
ثم يعرج بك إلى كينيا مرة أخرى، متعمقًا في نفوس الفقراء غائصًا في سرائرهم، لمعرفة أسباب عدم استخدامهم للناموسيات لمنع الإصابة بالملاريا، رغم فعاليتها الشديدة في الحماية من المرض.
في تفنيده للنهج الكلي، يعرض الكتاب وجهتي نظر اثنين من أهم منظري التنمية الاقتصادية في العالم، جيفري ساكس وويليام إيسترلي، بخصوص المساعدات الإنمائية.
يؤمن ساكس بشدة بأهمية المعونة الخارجية، مؤكدًا في كتابه «نهاية الفقر»، أنه يمكن القضاء على الفقر تمامًا إذا ما تم تخصيص 195 مليار دولار كمساعدات أجنبية للدول النامية بين 2005 و2025.
في المقابل يرى إيسترلي العكس تمامًا، للدرجة التي دفعته إلى تقديم رد مفصل على ساكس في كتابه «عبء الرجل الأبيض»، مؤكدًا أن المساعدات الخارجية تضر أكثر مما تنفع، وأنها تعيق الدول النامية عن تطوير حلولها الخاصة بها، بالإضافة إلى أنها تؤدي إلى تكوين شبكات مصالح وبؤر فساد تحول دون الاستغلال الأمثل لهذه الأموال.
أيهما يجب أن نصدق؟
يؤكد المؤلفان أن النظر إلى الدول التي تلقت مساعدات خارجية ومقارنتها بغيرها من الدول النامية التي لم تتلقَ، أو تلقت قدرًا أقل من المساعدات، مُضلل في حد ذاته، نظرًا لاختلاف البنى الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والجغرافية من دولة لأخرى.
الأمر لا يعدو أن يكون مقارنة بين التفاح والطماطم! نحتاج أن نقارن التفاح بالتفاح، بمعنى أن تكون الدول موضع المقارنة متماثلة في كل شيء، سوى أن بعضها حصل على المساعدات وبعضها لا، حينها فقط يمكننا أن نرد أي اختلافات بينها إلى المساعدات الخارجية، وهو مستحيل عمليًّا!
ما الحل إذن؟
يرى المؤلفان أن التعميم خطأ فادح، ليست كل المساعدات مضرة، وبالتأكيد ليس جميعها فعالًا، الأمر يتوقف على السياق المحلي لكل دولة، بل لكل مشروع تنموي على حدة داخل الدولة نفسها.
بالعودة إلى مثال القرى الكينية والبعوض، هناك في العديد من القرى الساحلية حيث تنتشر الملاريا، يرى ساكس ضرورة توفير الناموسيات بالمجان، بينما يرى إستيرلي أن توزيعها مجانًا يفقدها قيمتها لدى الأسر لدرجة أنهم يستخدمونها كشباك لصيد الأسماك في بحيرة فيكتوريا.
اتجه الباحثان إلى كينيا لاختبار مدى صحة ادعاءات كل من ساكس وإيستيرلي على أرض الواقع، وجدا أن معدلات استخدام الناموسيات تنخفض بشدة كلما زادت نسبة ما يتحمله المستخدمون من سعرها، وأن من حصلوا عليها مجانًا لم يسيئوا استخدامها، بالعكس كانوا على استعداد أكبر لشرائها من أموالهم الخاصة فيما بعد؛ لأنهم جربوها وأدركوا فوائدها، يؤكد المؤلفان أن هذه النتائج لا تنطبق إلا على هؤلاء السكان في هذه المنطقة تحديدًا من كينيا، قد تختلف النتائج من منطقة لأخرى، ومن دولة لأخرى، ويحتاج الأمر إلى تقييم منفصل في كل مرة، فلا خير مطلق هنا ولا شر! وإنما بشر تتفاوت ردود أفعالهم بتفاوت الظروف والزمان والمكان.
ثانيًا: الإجابة على الأسئلة السببية لأول مرة في علم الاقتصاد
قبل مطلع الألفية كانت العلاقات الاقتصادية علاقات ارتباط في المقام الأول، الارتباط يعني أن متغيرين يتحركان بالتوازي، سواء إيجابًا أم سلبًا، دون أن ندري اتجاه العلاقة بينهما، وما إذا كان أحدهما يسبب الآخر أم لا؟
على سبيل المثال، تشير بيانات مسح الدخل والإنفاق في مصر إلى ارتفاع معدلات الفقر بين الأسر الأكبر حجمًا، مؤكدًا وجود ارتباط قوي بين الفقر والزيادة السكانية، ولكننا لا نعلم في أي اتجاه تسير العلاقة.
هل يدفع الفقر الأسر إلى إنجاب المزيد من الأطفال إما لمساعدة رب البيت في العمل على أمل أن ينتشل الأبناء أبويهم من مستنقع العوز، وإما لأسباب ثقافية تتعلق بالموروث الاجتماعي للفقراء. أم أن العلاقة تسير في الاتجاه الآخر؟ بمعنى أن إنجاب الكثير من الأطفال يزج بالأسرة تحت خط الفقر لارتفاع أعباء الحياة؟ أيهما يسبب الآخر؟ لا أحد يعلم على وجه التحديد، لكن المؤلفين قررا الإجابة على مثل هذه الأسئلة.
قرر المؤلفان وعدد آخر من زملائهم أشهرهم «مايكل كريمر» أستاذ هارفارد المرموق أن يثبتوا للمجتمع العلمي إمكانية الإجابة على الأسئلة السببية في الاقتصاد بنفس طريقة الإجابة عليها في الطب من خلال تأسيس مركز بحثي يسمى JPAL وهو أكبر مركز متخصص في إجراء التجارب العشوائية المحكمة «Randomized Control Trials» في العالم.
في الطب، تقوم الفكرة ببساطة على سحب عينة من الأفراد وتقسيمهم عشوائيًّا إلى مجموعتين، يمنح الباحث أحد المجموعتين الدواء الحقيقي، ويمنح المجموعة الأخرى الدواء المزيف placebo، لما كان تقسيم المجموعتين عشوائيًّا ولما كان ذلك يتم في بيئة معملية شديدة الإحكام، فإن الباحث يضمن أن أي تغيرات تطرأ على المجموعة الأولى هي “بسبب” الدواء وليس أي مؤثر آخر، وهو نفس النهج الذي يتبعه الباحثان في معظم الدراسات التي اعتمدوا عليها في تأليف كتابهم، مع الأخذ في الاعتبار تشابك الواقع وتعقده.
حلول خارج الصندوق، ونتائج لم تكن يومًا في الحسبان
الميزة الكبرى في الكتاب وما احتواه من أبحاث تقييم الأثر المبنية على المنهجية المشار إليها أعلاه، أنها لا تفترض أي شروط أو نتائج مسبقة على الإطلاق، الواقع بتشابكاته وتفاعلاته أعقد من أن تفسره الفروض مهما كانت محكمة.
يضرب المؤلفان مثالًا على ذلك: عندما يتعلق الأمر بانخفاض معدلات حضور الطلاب إلى المدرسة، تقفز فورًا مواضيع مثل التغذية المدرسية، توفير الزي المدرسي والكتب مجانًا، وبرامج الدعم العيني المشروط، وغيرها من السياسات على موائد وزارات التعليم في معظم دول العالم، ولكن ماذا عن التطعيم ضد الديدان؟
يعرض المؤلفان لدراسة كان بطلها زميلهما مايكل كريمر، انتهت الدراسة إلى أن التطعيم ضد الديدان كان الأكثر كفاءة اقتصادية من حيث تخفيض معدلات التغيب المدرسي مقارنة بجميع السياسات الأخرى المشار إليها، أثارت هذه النتائج ضجة في الوسط العلمي وقت ظهورها لأول مرة. ففي عينة الدراسة كان الهزال وكثرة المرض سببًا رئيسيًّا في تغيب الأطفال عن المدارس. بعد ثبات نفس النتيجة في أكثر من دولة، تم تأسيس جمعية عالمية هدفها مكافحة ديدان الأطفال، اسمها «Deworm the World».
في الهند، جربت الحكومة المحلية جميع الحلول الممكنة لتحسين مستويات الطلاب التعليمية، بداية من تجديد البنية التحتية بالمدارس، وصولًا إلى تطوير المناهج الدراسية، والاعتماد على الإنترنت، إلا أن أيًّا منها لم يفلح على الإطلاق.
لجأت الحكومة إلى مؤلفي الكتاب، بعد جهد جهيد، ودارسة تفصيلية لجذور المشكلة، ووضع وتقييم الحلول المختلفة باستخدام التجارب العشوائية المحكمة، انتهى الباحثون إلى أن العلاج يكمن في إعادة تنظيم الفصول وتقسيمها بناء على مستوى الطلاب وليس سنهم، بمعنى إمكانية أن يجلس ذو الخمسة عشر عامًا بجانب ذي الست سنوات ما داما في نفس المستوى العلمي، بهذا الإجراء غير المكلف على الإطلاق، أصبح الطلبة الضعاف أكثر قدرة على الفهم، قبل ذلك كانوا يتلقون مناهج دراسية أعلى من مستواهم الحقيقي بخمس أو ست سنوات، وكانت هذه هي العقبة الأساسية أمامهم.
لا يقف الكتاب عند هذا الحد، ولكن يحاول تجزئة القضايا الكلية ليتمكن من الإجابة على أسئلة شديدة الصعوبة، أهمها: ما هي أسباب تقدم بعض الدول وتخلف بعضها الآخر؟ أسباب ضعف الحصيلة الضريبية لبعض الدول وكيفية مواجهة ذلك؟ أسباب الفساد الحكومي وسبل التعامل معه؟ هل يعد تمثيل المرأة في المجالس المحلية والنيابية ضمانة لتخصيص أكثر كفاءة للموارد الحكومية؟ وغيرها من الأسئلة التي يجيب المؤلفان عليها بدقة شديدة، تلك الدقة النابعة من توظيف علوم البيانات والدمج بينها وبين أحدث النظريات الاقتصادية والأساليب الإحصائية المتخصصة في الوقت نفسه.