كيف بدأ التطبيع الاقتصادي بين مصر وإسرائيل؟
الرئيس الراحل محمد أنور السادات في 9 نوفمبر/تشرين الثاني 1977
صعقت كلمات السادات آذان الجميع وأصابتهم بالذهول من هول الصدمة، لماذا وكيف وما السبب؟! لم تكن الكواليس واضحة حينئذٍ، لكن الداخل المصري والخارج العربي كانا في حالة من الضجر الشديد.
لم يتأخر مناحم بيجن، رئيس الحكومة الإسرائيلية حينذاك، في دعوة السادات رسميًا، وبالفعل وللمرة الأولى هبطت طائرة الرئيس المصري على أرض إسرائيل في العشرين من نوفمبر/تشرين الثاني 1977، ليقف أمام الكنيست الإسرائيلي معلنًا عن رغبته في أن يحل السلام بين البلدين قائلاً : «قد جئت إليكم اليوم على قَدَمَيْن ثابتَتَيْن، لكي نبني حياة جديدة، لكي نُقِيم السلام»، كان مشهدًا صادمًا غريبًا استعصى على الجميع استيعابه، ولكنه جاء ليُدشن عصر التطبيع بين مصر وإسرائيل.
جاء كتاب «العلاقات الاقتصادية بين مصر وإسرائيل» للباحث والكاتب المصري «عادل حسين» والمنشور عام 1984، ليشرح الخطة المُحكمة التي اتبعتها إسرائيل من أجل إقامة علاقات اقتصادية مع مصر.
كيف أعدت إسرائيل نفسها كي تتوسع اقتصاديًا؟ وكيف أضعفت الاقتصاد المصري بفضل علاقاتها بالولايات المتحدة وسياسة الخطوة خطوة، التي أرغمت مصر على التبعية والاعتماد على المعونات من الخارج، بشكل أجبرها على القيام بتطبيع اقتصادي مع إسرائيل وتوقيع معاهدة السلام، وما لحقها من اتفاقيات صاغتها بطريقة لم تُمكن مصر من الانسحاب منها كرد فعل على الغزو الإسرائيلي للبنان عام 1982؟
ساهم الانتصار الإسرائيلي في حرب 1967 في تحريك عجلة اقتصادها، فقد انقلب على إثر ذلك اتجاه مؤشرات الركود الاقتصادي الذي كانت تعاني منه سابقًا وذلك بفضل تدفق المعونات الاقتصادية إليها، كما زادت استثمارات أصحاب الملايين اليهود عن 3 مليارات دولار في المشاريع الصناعية فقط، الأمر الذي جعل الحكومة غير مضطرة لتحمل العبء الأكبر من الاستثمار.
لم يدفع فائض الإنتاج الذي تمتعت به إسرائيل آنذاك إلى الإسراع في طلب التوسع في الأسواق العربية، بل ركز صانع القرار الإسرائيلي أولاً على إعداد هيكل اقتصادي وصناعي ملائم للمهمة الجديدة وبأي تكلفة كانت. إلا أن هزيمتها في حرب أكتوبر 1973، غيرت مجريات الأحداث وأجبرت صانع القرار الإسرائيلي على الشروع في إنشاء علاقات عربية إسرائيلية.
وفي إطار رغبتها في استعادة هيبتها العسكرية سعت إلى توثيق علاقتها بالولايات المتحدة كقوة كبرى مهيمنة على المنطقة؛ وذلك بأسلوبين:
1. دعمت تحالفها الاستراتيجي مع الولايات المتحدة وحصلت جراء ذلك على معونات عسكرية مهولة كمًا ونوعًا حتى تضمن تعميق الفجوة العسكرية بينها وبين الدول العربية.
2. عملت من خلال علاقاتها بالولايات المتحدة على إضعاف مصر عسكريًا، بجعل الولايات المتحدة والدول الغربية هي المورد الوحيد للتسليح المصري. ذلك الأسلوب قد ضمن لها سيادة في ميدان الأسلحة التقليدية إلى جانب قوتها النووية.
علاوة على ذلك، فقد عمدت إلى عزل مصر خطوة خطوة حتى اضطرتها للخضوع وتوقيع معاهدة السلام. الأمر الذي أثر تأثيرًا جذريًا على التوازن الاستراتيجي بين العرب وإسرائيل.
سياسة «الخطوة خطوة»
منذ أن سلم السادات للولايات المتحدة توكيلاً لحل الصراع العربي الإسرائيلي، وقعت مصر رهينة هجوم مخطط عرف باسم «سياسة الخطوة خطوة» منذ عام 1974. ذلك الهجوم نجح في تحقيق أهدافه في منتصف عام 1977، إذ صاحب تلك الفترة تغيرات أصابت البنية الاقتصادية المصرية ودفعت السادات إلى الخضوع للشروط المفروضة عليه، ومن ثَمَّ التمهيد لعلاقات غير متكافئة مع الاقتصاد الاسرائيلي.
وتتجسد ملامح ذلك التغير في:
1. الاعتماد على الخارج لتغطية الفجوة الغذائية
خططت الجهات الخارجية لتنمية موارد الاقتصاد المصري الأساسية من نفط وسياحة وعمالة في الخارج، حتى أنها كانت تزعم أن الناتج المحلي والإجمالي المصري نمى بمعدلات ليس لها مثيل منذ أن تدخلت. بيد أن تلك الزيادة في الموارد لم تنتج عن جهد تنموي حقيقي، فلم تكن تلك الزيادات متولدة بالأساس بفعل قوى العمل بل كان استمرار تلك الأنشطة معتمدًا بالدرجة الأولى على القرارات الخارجية.
2. القروض الميسرة والمنح
قدمت الحكومة الأمريكية قروضًا ميسرة ومساعدات مشروطة لقطاعات النفط والقناة والسياحة والعاملين في الخارج. فبينما كانت المساعدات الأمريكية لإسرائيل تدعم القدرة الذاتية لها ولاقتصادها، فإنها على الجانب الآخر كانت تضعف الاقتصاد المصري، إذ مثّلت تلك المنح والقروض الاقتصادية أداة للتدخل المباشر في إدارة الاقتصاد المصري على المستوى الكلي والقطاعي والجزئي، وأداة لتحديد اتجاهات التنمية وفق المخططات الاستراتيجية الأمريكية والإسرائيلية.
3. الهيكل الهش والمكشوف للموارد
تم استغلال الزيادة التي حققتها مصر في مواردها -بفعل الدعم الخارجي- لضمان استمرارية الاعتماد المصري على الخارج وتكريس التبعية له. إذ تم تقليص سلطة الإدارة المركزية في رسم السياسات الاقتصادية الملائمة. وقد ساهم في ذلك انفتاح الاقتصاد المصري على الأسواق الغربية بشروط، قام صندوق النقد الدولي بإملائها عبر تعليماته التقليدية تحت مسمى «تحرير التجارة» و«إطلاق حركة الأسعار المحلية» كي يتناظر هيكلها مع الهيكل القائم في الأسواق الغربية.
وقد أدى قصور الصلاحيات المركزية في مجال التجارة الخارجية إلى عجز متفاقم ومزمن في ميزان المدفوعات. فعلى الرغم من الطفرة الهائلة في موارد النقد الأجنبي في القطاعات الأربعة (النفط والقناة والسياحة والعاملين في الخارج) بفضل المساعدات الأمريكية، إلا أن حجم الدين الخارجي على الجانب الآخر أخذ في التصاعد لأكثر من 30 مليار دولار آنذاك.
التنمية المفيدة لإسرائيل
وضع البنك الدولي بالتعاون مع وكالة التنمية الأمريكية استراتيجية التنمية في قطاعي الزراعة والصناعة بغية جعل هيكل الاقتصاد المصري متسقًا مع متطلبات السلام الأمريكي الإسرائيلي، وما يتضمنه من مشاريع مشتركة مع العدو الصهيوني في سبيل زيادة التبادل التجاري مع مصر.
فبالنسبة لقطاع الزراعة، تمثلت الاستراتيجية في تغيير الهيكل المحصولي بشروط تُزيد من فرص المؤسسات الأجنبية وبالأخص الإسرائيلية في السيطرة على مدخلات هذا القطاع، خصوصًا من زاوية الخبرة الفنية، وعلى مخرجاته من حيث التسويق الخارجي، وذلك في إطار دراسات مكثفة سُميت بـ«ترشيد استخدامات مياه الري» التي كانت تهدف إلى تصدير مياه النيل إلى إسرائيل في مرحلة ما.
أما قطاع الصناعة، فقد تشعب المخطط فيما يخصه، فمن ناحية صدرت التعليمات بوقف المشاريع العامة الجديدة، وفي الوقت نفسه قُدمت كل الحوافز لتنشيط القطاع الخاص في مجال الصناعة بهدف زيادة حجمه المطلق ووزنه النسبي، وذلك بواسطة المشاريع الصغيرة والمتوسطة بحيث يصلح كشريك محتمل للمستثمريين الأجانب.
وقد كانت إسرائيل موجودة وشريكة في كل ذلك، إذ شاركت في التخطيط والتنفيذ لخدمة مخططها الخاص في إطار المخطط العام. ما منحها حق المشاركة هو أن قواتها هي التي تحتل الأرض التي مثّل الانسحاب منها ورقة ضغط أساسية في المقايضة لانتزاع التنازلات الاقتصادية وغير الاقتصادية من الجانب المصري، علاوة على تعاظم النفوذ الصهيوني داخل المؤسسات الأمريكية والدولية.
وبالفعل أعقب توقيع معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية انسحابًا جزئيًا، وعلى فور ذلك تم توقيع عدد من اتفاقيات التطبيع، لعل أبرزها: الاتفاقية المتعلق بترتيبات النفط مارس/آذار 1980، والتي ضمنت لإسرائيل الحق في إجراء مشتريات تجارية عادية من النفط المصري، لكن إسرائيل خلال فترة الانسحاب الأول صعّدت مطالبها وهددت بعدم الانسحاب من منطقة النفط (شعاب علي) ما لم تنفذ مطالبها.
وبالفعل تم مرادها، فباتت إسرائيل تمتلك حصة منتظمة من النفط المصري وصلت لأكثر من مليوني طن سنويًا تحصل عليه بسعر يقل 5 دولارات في البرميل الواحد عن السعر السائد في السوق بالنسبة إلى النفط المصري، فضلاً عن اتفاقية النقل الجوي في مارس/آذار 1980، التي تشابهت في نفس المنطق الذي حكم ترتيبات النفط.
واتفاقية التجارة في أبريل/نيسان 1980، التي أكدت حق إسرائيل في استخدام أبواب مصر المفتوحة، وضمان عدم وقوع أي تحيزات ضد اشتراك الإسرائيليين في المعارض، بينما لم تخرج الاتفاقية الثقافية في مايو/آيار 1980 عن إطار التوجه العام لتنشيط التداول والتفاعل الثقافي في أشكاله المختلفة، الأمر نفسه انطبق على مذكرة التفاهم الخاصة بالنقل ومذكرة الترتيبات السياحية، أما مذكرة التفاهم المتعلقة بالزراعة فكانت أكثر اقتحامًا بالنسبة إلى المستوى العام لاتفاقيات عام 1980.
انكماش ظاهري للعلاقات الاقتصادية
في أعقاب الغزو بدت ملامح ذلك الانكماش في تراجع الصادرات الإسرائيلية إلى مصر وتوقفها، بعد أن وصلت إلى 12 مليون دولار عام 1980. كذلك انخفض عدد السائحين الإسرائيلين إلى النصف تقريباً في مرحلة ما بعد الغزو.
ولكن في المقابل، سعت إسرائيل إلى تحفيز التبادل التجاري واختراق الحصار الإعلامي والإعلاني، وذلك من خلال توزيع كتيبات دعائية لمنتجاتها في المعارض المقامة، كما افتتحت في القاهرة مكتبين أحدهما استشاري لشركة «إنترتريد»، والآخر مكتب اتصال لشركة «ألتاتريد» بهدف إقامة علاقات برجال الأعمال المصريين لدفع عجلة الصادرات مرة أخرى، وتقديم الاستشارات، والإعداد للتعاون بين الشركات المصرية والإسرائيلية وإقامة مشاريع مشتركة.
إلى جانب هذا، حرصت إسرائيل على المشاركة في معارض القاهرة الرئيسية السنوية؛ كمعرض الكتاب والمعرض الصناعي والمعارض الفنية والمشاريع البحثية المشتركة التي تتدخل المؤسسات البحثية الأمريكية بدور الممول والمنظم لها.
أما على مستوى قطاع الزراعة، فقد كانت هناك زيارات متبادلة بكثافة واجتماعات للجان الفنية وندوات علمية، لم تنقطع أبداً، وإن انخفض معدلها منذ منتصف عام 1982. فإسرائيل كانت تحسب خطواتها جيدًا، وأرادت أن تورط مصر بشكل لا يسمح لها بالتراجع عندما تُقدم إسرائيل على أي اعتداء على أي دولة عربية. إذ نجحت إسرائيل في انتزاع تعديلات وتنازلات جوهرية في نصوص الاتفاقيات التي وقعتها في مارس/آذار وأبريل/نيسان 1980، مرتكنة في ذلك إلى ورقة استكمال الانسحاب من الأراضي المصرية المحتلة.
بدا ذلك بالنص الصريح على ضرورة إدخال التعديلات في حيز التنفيذ قبل 25 أبريل/نيسان 1982، أي قبل الغزو الإسرائيلي للبنان بحوالي شهرين. وبالفعل تمت التعديلات بأدوات ذات كفاءة تنظيمية عالية جعلتها محصنة ضد النشر في الجريدة الرسمية وضد المراقبة والتصديق.
وقد تجاوزت إسرائيل حدود العلاقات الطبيعية في كل تلك التعديلات وأنشأت علاقة مؤسسية خاصة تخضع للمتابعة الدولية. وانتزعت إسرائيل بمقتضى التعديلات حقًا صريحًا في التعامل مع القطاع العام، وحصلت على التزام من الدولة المصرية بتسهيل تسجيل الشركات الإسرائيلية وفتح مكاتب لها، كما حصلت على تأشيرات دخول متعددة الاستعمال لرجال أعمالها وسائقي الشاحنات الإسرائيلية عبر الحدود، وذلك بموجب مذكرة التفاهم عن النقل وملحقاتها.
أطلق الكاتب المصري «عادل حسين» على السياسة الإسرائيلية الاقتصادية تجاه مصر مصطلح «التسلل المنظم»، هذا النمط من التسلل يتكامل مع دور آخر قامت به الصهيونية الدولية وهو السرية التامة لمساندة الجهود الإسرائيلية، إذ تسللت تحت غطاء مستثمريين ورجال أعمال من جنسيات مختلفة ومصريين من أمثال «عصمت السادات» و«عثمان أحمد عثمان»، مكناها من اختراق مجالات مشاريع إنتاج البيض والدواجن في الداخل إلى جانب مشاريع الاستيراد المختلفة .