الانفتاح الاقتصادي: نافذة للنهضة أم مقبرة للموارد؟
إن النماذج الاقتصادية التي تفترض المنافسة الكاملة تعتبر الانفتاح الاقتصادي بشكل عام عاملا مهما لتحسين توزيع عناصر الإنتاج بين القطاعات المختلفة، مما يزيد كمية الإنتاج وكفاءته. وفي أدبيات التنمية الاقتصادية، يساهم الانفتاح الاقتصادي في إمكان حدوث اقتصاديات الحجم الكبير في الإنتاج، لأن توسيع السوق من خلال التجارة لا بد من أن يؤدي إلى انخفاض التكاليف الحقيقية للإنتاج.
ويكتسب تيار الانفتاح الاقتصادي زخما هائلا في الفترة الراهنة، حيث تقوده وتسانده أكثر القوى السياسية والاقتصادية والمالية نفوذا في المراكز الرأسمالية الرئيسية؛ إذ يتركز النشاط الأساسي لهذه المؤسسات على إشاعة اقتصاد السوق وتنفيذ الخصخصة وتقليص دور الدولة في الحياة الاقتصادية، بهدف تحرير حركة السلع ورأس المال بما يؤدي إلى قيام سوق دولية واحدة.
وفي ظل طرح سياسات الانفتاح الاقتصادي يدور في عقول العديدين بعض التساؤلات عن:
- ماهية الانفتاح الاقتصادي عند الاقتصاديين؟
- هل الانفتاح الاقتصادي حتما متضمن في سياسات التبعية الاقتصادية والهيمنة الاقتصادية؟
- ما مدى علاقة الانفتاح الاقتصادي بنظرية التبعية المالية؟
- ماذا عن الانفتاح الاقتصادي والتبعية الاقتصادية في تاريخ الاقتصاد المصري؟
يجيب الجزء الأول من تقريرنا عن السؤالين الأول والثاني حيث نشرح ماهية الانفتاح الاقتصادي وعلاقته بالتبعية الاقتصادية. بينما يركز الجزء الثاني على أثر الانفتاح الاقتصادي في سقوط الدول العربية في مديونية مالية ضخمة وعلى تاريخ الانفتاح الاقتصادي تحديدا في مصر. فالجزء الأول يمثل الأسس النظرية بينما يناقش الجزء الثاني الحالة العربية تحديدا.
ما هو الانفتاح الاقتصادي؟
ومفهوم الانفتاح الاقتصادي كما عرفه جلال أمين يعني إزالة القيود القائمة في وجه رؤوس الأموال الأجنبية وفي وجه الاستثمارات المحلية الخاصة المدفوعة بدافع الربح وحده، والتخلي التدريجي عن الملكية العامة في الصناعة وعن تدخل الدولة في الاقتصاد، بل التخلي التدريجي عن الحماية الممنوحة لبعض الصناعات المحلية للمنافسة الأجنبية.
أما عن مفهوم الانفتاح الاقتصادي كما يحدده رضا علي العدل في كتابه التخطيط الاقتصادي فيعني تخفيف القيود التي يشتغل في ظلها الاقتصاد القومي مثل القيود على الاستيراد والصرف الأجنبي والاستثمارات الخارجية والأجور والضرائب.
ومن المفاهيم السابقة نستطيع صياغة مفهوم الانفتاح الاقتصادي بأنه مجموعة السياسات الاقتصادية التي تنظم حركة التجارة وتشجيع رؤوس الأموال الأجنبية والوطنية للمساهمة في تمويل المشروعات الاقتصادية واستخدام التكنولوجيا الحديثة للعمل على زيادة الناتج القومي، ويتم ذلك في إطار إستراتيجية حضارية شاملة تستهدف دعم القدرات الذاتية للاقتصاد القومي وتعمل من خلالها على تصحيح الاختلال الهيكلي في البناء الاقتصادي والاجتماعي.
وبالتالي يمكن القول بأن الانفتاح الاقتصادي عبارة عن مجموعة من السياسات الاقتصادية المتكاملة التي تهدف إلى الاعتماد الأكبر على تحرير قنوات التجارة بجميع أنواعها ومنح الملكية للقطاع الخاص، وهو وسيلة وليس هدفا لرفع كفاءة الأداء العام للاقتصاد القومي.
وتعتبر سياسة الانفتاح الاقتصادي نموذجا عاما نجد تطبيقا له في جميع دول العالم اليوم، سواء كانت دولا متقدمة أو متخلفة، رأسمالية أو اشتراكية. والانفتاح الاقتصادي كسياسة أو كمنهج للتنمية الاقتصادية له حدود وضوابط يجب أن تراعى عند وضع السياسة الاقتصادية العامة للدولة، حيث إنه يعد مفهوما نسبيا، بمعنى أن التطبيق العلمي له يأخذ درجات وأنماط ومستويات مختلفة حسب طبيعة الاقتصاد القومي: هل هو متقدم أم متخلف؟ وحسب طبيعة النظام الاقتصادي: هل هو اشتراكي أم رأسمالي؟
الانفتاح سياسة داعمة للتبعية الاقتصادية وترسيخ الهيمنة:
يعد المفهوم البسيط للتبعية الاقتصادية عبارة عن العلاقة بين اقتصادين، أحدهما يتوسع على حساب الآخر، ويكون تطور الثاني تابعا لتطور الاقتصاد الأول «الاقتصاد المسيطر أو المهيمن»، فيتوقف تطور التابع على توسع الآخر «الاقتصاد المسيطر».
وهي أيضا علاقة بين الاقتصادين المتخلف والرأسمالي المتقدم، لا ترجع فقط هذه العلاقة إلى علاقات الاستغلال والقهر الخارجية، بل أنها تنبع من توافق مصالح الطبقات الحاكمة ومصالح حلفائها الغربيين.
ظهر مفهوم التبعية الاقتصادية في البداية في دراسات بعض باحثي أمريكا اللاتينية كتفسير لظاهرة التخلف الاقتصادي في الدول النامية التي تربطها علاقات تبعية مع الدول المتقدمة. وينصرف مفهوم التبعية الاقتصادية إلى العلاقة غير المتكافئة بين الدول المتقدمة والدول النامية القائمة على الاستغلال والتبادل غير المتكافئ وأسلوب الاستثمارات والمعونات التي تشكل عودة للاستعمار الجديد.
والتبعية بصفتها العلمية هي خضوع وتأثر اقتصاد بلد ما بالتأثيرات والتغيرات في القوى الخارجية بفعل ما تملكه هذه القوى من إمكانات السيطرة على الاقتصاد التابع، بشكل يتيح للاقتصاد المسيطر جني أكبر نفع ممكن من موارد الاقتصاد التابع دون مراعاة مصلحة الاقتصاد الأخير، بحيث تصبح علاقات التبعية في النهاية لصالح الاقتصاد المسيطر. وقد يقصد بها تخصص الدول النامية في تصدير المواد الأولية تلبية لاحتياجات الاقتصاديات المتقدمة، وقد يشار إليها بأنها التجزئة وربط اقتصاديات الدول كلا على حده بالسوق الرأسمالي العالمي.
ترجع بداية هذه المدرسة التي تفسر تخلف دول العالم الثالث بالتبعية الاقتصادية إلى نهاية الستينيات، وقد نشأت كردة فعل لفشل وقصور النظريات الاجتماعية والاقتصادية الأخرى التي حاولت تفسير التخلف لدول العالم الثالث.
وقد نشأت أساسا في أمريكا اللاتينية، بصفتها أقرب الشعوب التي عانت من محاولات النمو الاقتصادي القائم على التكامل الاقتصادي الذي كان يصب في مصلحة الدول الرأسمالية المهيمنة على الاقتصاديات الناشئة كـ الولايات المتحدة الأمريكية وقد كان للأزمة الاقتصادية الكبرى التي حدثت في أوائل الثلاثينيات، تأثيرا مباشرا على الدول اللاتينية نظرا لارتباط اقتصادها وبقوة بالدول المهيمنة على الاقتصاد العالمي آنذاك، مما جعل المفكرين الاقتصاديين يعيدون النظر مرة أخرى في توجيه التنمية إلى الخارج، والعلاقة القائمة على التبادل بين الدول الإمبريالية والدول التابعة أو المتخلفة اقتصاديا
وقد أسهمت اللجنة الاقتصادية لأمريكا الجنوبية ECLA التابعة للأمم المتحدة في بلورة هذا الإدراك من خلال النقد الذي وجهته لـنظرية التبادل الدولي التي تقوم على أساس أن كل دولة لها ميزة نسبية ومن الأفضل لها أن تتخصص فيما تتميز به؛ فمثلا السعودية لديها ميزة في إنتاج النفط الخام، فمن الأفضل لها لتحقيق أكبر مكاسب اقتصادية في تجارتها الدولية أن تتخصص في إنتاج النفط وتصديره، وتكتفي باستيراد ما تحتاجه من الدول الأخرى ذات الميزة النسبية في إنتاج أشياء أخرى، مثل استيراد السيارات من اليابان وأمريكا وغيرها.
ومن الواضح أن هذه النظرية التي ما زالت تدرس حتى الآن في مدارس الاقتصاد تقوم على أساس تكريس التبعية الاقتصادية!
لذلك وجهت تلك اللجنة اقتراحاتها نحو الاهتمام بالتنمية الداخلية لجميع القطاعات الاقتصادية وعدم ربط مصير الشعوب بمستقبل الدول الرأسمالية، فكل شعب قادر على تقرير مصيره الاقتصادي من خلال موارده المادية و المالية و البشرية.
ووفقا لما تم تناوله سابقا، نستخلص أن الانفتاح التجاري أحد مقاييس ظاهرة التبعية الاقتصادية التي تعد وثيقة الصلة بالتخلف في الإطار الرأسمالي.
والمقصود بالتبعية من هذا المنظور، تلك الحالة التي نشأت من عملية تاريخية تم بمقتضاها إلحاق دول العالم الثالث بالنظام الرأسمالي العالمي، وهيمنة دول المركز الرأسمالي ومعها الشركات المتعددة الجنسيات على مصير الدول النامية، من خلال تسخير موارد الدول التابعة لخدمة أغراض دول المركز أو الهيمنة وشركاته الاحتكارية الكبرى في إطار إستراتيجية عالمية للمحافظة على النظام الرأسمالي وتوسيع رقعته وتعظيم نفوذه، مع احتفاظ الدول التابعة بدور متدنٍ في التقسيم الدولي للعمل.
وبالتالي يرجع التخلف الاقتصادي لدول العالم النامي إلى انتزاع البلدان المتقدمة للفائض المتحقق في البلدان المتخلفة على أساس التبادل غير المتكافئ للمنتجات القائم على تخصص لا متكافئ للعمل.
وتفسير ذلك بصورة اقتصادوية*Economicstic، أي بصورة أكثر تبسيطا أكثر منها بصورة اقتصادية جدلية، تختزل التخلف الذي هو مسألة أعقد بكثير من أن تفسر بآلية اقتصادية محددة أو بآليات اقتصادية متعددة واعتبارها في معزل عن الآليات السياسية والثقافية والاجتماعية العامة.
فالاختزال الاقتصادي لمفهوم التبعية يعود إلى عدم الجدية في اعتبار حقيقة أن الإنتاج والتبادل ليسا هما المحدد العام لحلقات الدورة الاقتصادية الكلية، وذلك في ظل الهيمنة الاقتصادية من قبل الدول الرأسمالية الكبرى، وبالتالي فإن انتزاع الفائض والاستيلاء اللاحق عليه هو عبارة عن العلاقة بين الطبقات المنتجة والطبقات المستغلة والمهيمنة وليس بين البلدان المتبادلة.
وهنا تلوح حقيقة أن سياسة الانفتاح الاقتصادي لم تكن نافذة للدول النامية للتقدم بل كانت مقبرة لاستنفاذ مواردها لمصالح الدول المهيمنة على الاقتصاد العالمي. وهو ما سنتعرض له بشكل أكبر عمليا في الجزء الثاني من تقريرنا.
* الاقتصادوية: نزعة تميل إلى تبسيط الأمور واختزالها في البعد الاقتصادي. والاقتصادويَّة الماركسيَّة هي مذهب كارل ماركس القائل بأنَّ الأحداث والقُوَى الاقتصاديّة هي أساس جميع الظَّواهر التّاريخيّة والاجتماعيّة ومحرّكها الرّئيسيّ.
اقرأ المزيد:
بول كروجمان (نوبل الاقتصاد 2008) يكتب: صراع نخب الاقتصاديين في الولايات المتحدةالاغتيال الاقتصادي للأممكتاب رأس المال في القرن الـ 21: الأغنياء يزدادون غنى، والفقراء يزدادون فقرا!*