تبسيط علم الاقتصاد: كيف يتحدد سعر القهوة في «ستاربكس»؟
من يدفع ثمن قهوتك؟ ولماذا قد تدفع مقابلًا كبيرًا لمنتج هو أرخص من ذلك بكثير؟ ومن يتربح من خلفك ودون علمك؟ ولماذا قد تكون إجاباتك على هذه الأسئلة غير دقيقة؟
من المفترض أن يجيبنا على هذه الأسئلة المخبر الاقتصادي، وهو الشخص الذي يراقبك في المقهى، ويراك أنت والكابتشينو خاصتك كلاعبين في لعبة دقيقة ومعقدة ذات دلالات وصراعات قوة، تعتمد على الدهاء لا العنف، ويحصل الفائز في اللعبة على جائزته، فبعض من شاركوا في الجهد ليصل لك كوب القهوة قد يحصلون على الكثير من المال، في حين يحصل بعض آخر على أقل القليل، أما البعض الأخير فهو يتطلع للحصول على المال الذي تحمله في جيبك؛ وهنا يأتي دور مخبرنا الاقتصادي، والذي سيخبرك من يحصل على ماذا؟ وكيف؟ ولماذا؟
يمكننا التقرب أكثر للمخبر الاقتصادي من خلال كتاب «المخبر الاقتصادي: لماذا الأغنياء أغنياء والفقراء فقراء؟» لتيم هارفورد، والذي صدرت طبعته الأولى بالعربية عام 2017، عن مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة. وهارفورد هو صاحب عمود «عزيزي رجل الاقتصاد» في مجلة «فاينانشال تايمز» والذي يجيب فيه على أسئلة قرائه بطريقة مرحة ولطيفة.
كتب تيم هارفورد أول مسودة لكتابه هذا في شركة «شل» في وظيفة خبير اقتصادي، وفيها منحه مديره فرصة للعمل على مشروعه الخاص لبعض الوقت، والذي اهتم فيه بشرح الطريقة التي يرى بها خبراء الاقتصاد العالم، ولماذا يجب أن تعنينا معرفتها. فالمخبر الاقتصادي ليس شخصًا يعرف كل شيء؛ لأن هذا بالطبع أمر مستحيل، ولكنه يعكس الطموح الواضح لعلم الاقتصاد لفهم سلوك البشر كأفراد وشركاء ومنافسين وأعضاء في تنظيمات اجتماعية واسعة تسمى «الأنظمة الاقتصادية».
فقد لا يعرف الخبير الاقتصادي شيئًا عن صناعة القهوة، ولكنه يعرف كيف دخلت اليوم إلى المقهى وطلبت الكابتشينو دون تخطيط مسبق ودون أن تخطر أحدًا مسبقًا بأنك ستأتي وتطلبه. ومع ذلك قام العشرات بما يلزم من أجل تلبية رغبتك غير المتوقعة؛ بدءًا بزارعي البن، ومُربي الأبقار، ومُشكّلي اللدائن لصنع آلة تحضير القهوة، ثم الخزافين الذين صنعوا لك كوبًا جميلًا.
استغلال الروتين اليومي
نحن ركاب المواصلات العامة في مدن العالم الكبرى بمنزلة الفئران، كل واحد منا يدور في متاهته الخاصة، على نحو يُفقدنا حماستنا، فنحن نعرف ونفاضل ونسرع ونقيس الزمن، ومع ذلك فإن رحلاتنا اليومية ينتج عنها تأثيرات عامة تصب في مصلحة رجال الأعمال في جميع أنحاء العالم، ومهما كان مكان إقامتك؛ القاهرة أو دبي أو حتى نيويورك، فإن رحلاتنا عبر هذه المدن تظل مألوفة.
ففي كل صباح يخرج الموظفون من منازلهم مبكرين وغاضبين لأنهم لم يُكملوا نومهم، يصلون للمدينة في صفوف مكتظة، يرفضون تغيير طرقهم، يتجهون لأطراف معينة بالمدينة بها مبانٍ بطوابق تجمعهم، وأمام هذه المباني تجد ماكينات الخدمات البنكية والمقاهي ومطاعم الأكلات السريعة؛ مقهى «ستاربكس» على سبيل المثال، يقع تقريبًا عند كل مخرج لمحطة قطار أو مترو أو تجمع شركات، وعادة تقابله ماكينة صرافة أو قد تجد الاثنين داخل المحطة دون أن تضطر للخروج منها.
يأخذ موقع المقهى هذا أهميته بعدد الملايين الذين يمرون أمامه كل عام، ويُعد سعر كوب القهوة لديهم مناسبًا، لو لم يكن هناك الوقت للبحث عن مقهى آخر أرخص وبعيد نسبيًا في يوم مشحون بالعمل والمواعيد.
ثمن إزاحة المنافسين من الطاولة
يرى «براين ماكمانوس»، أستاذ الاقتصاد، أن هامش الربح في القهوة يقترب من 150%، فتكلفة إعداد القهوة التي تكلفنا 1 دولار تساوي في الحقيقة 40 سنتًا، فمن هذا الشخص الذي يجني كل هذه الأرباح؟
بالطبع هو ليس من لصق الأكواب الورقية، وليس من أضاف لقهوتك اللبن بمقدار متساوٍ، وليست المضيفة التي استضافتك بابتسامتها فور دخولك، حتى أنه ليس مالك سلسلة مقاهي «ستاربكس»، ولكنه صاحب العقار الذي أجّر فيه مالك السلسلة، سواء صاحب مجمع الشركات الذي تعمل به أو محطة القطار أو المترو.
فلو كان لشركة «ستاربكس» تأثير التنويم المغناطيسي على زبائنها ما كانت لتحتاج بذل كل هذا الجهد كي تجعلهم يرتادون المقهى، فهامش الربح العالي الذي تحققه الشركة ليس بسبب البن أو طاقم العمل، ولكنه بسبب الموقع ثم الموقع.
فالقيمة الإيجارية التي تدفعها شركة واحدة لتزيح بقية الشركات من منافستها لتقديم كوب القهوة، تستنزف تقريبًا كل ربحها المتوقع، فملاك المواقع لهم اليد العليا في تحديد اختياراتك ومفضلاتك.
معضلة الندرة والقوة الاقتصادية
بعد عمله كسمسار في سوق الأسواق المالية وجنيه ثروة هائلة، أصبح «ديفيد ريكاردو» عضوًا في البرلمان البريطاني، لكنه ظل خبيرًا اقتصاديًا يتوق لفهم ما حدث لاقتصاد بريطانيا خلال الحروب النابليونية، التي كانت قد انتهت قبل وقت قصير آنذاك، ومع أن تحليله منشور منذ عام 1817، إلا أنه يشرح وضع عالمنا في يوم قراءتك لهذا التقرير.
استخدم ريكاردو مثالاً تخيل فيه إحدى المناطق غير المزروعة ولكن أرضها خصبة وشاسعة، وبها عدد قليل من السكان، وفي يوم أراد شاب غريب أن يدفع إيجارًا مقابل زراعته للمحاصيل على فدان واحد. هنا حتى لو اتفق الجميع على مقدار الغلة التي ينتجها الفدان إلا أن أصحاب الأرض سيعجزون عن تحديد قيمة الإيجار، لقوة المنافسة ووفرة الأراضي غير المزروعة، ليفضل كل مالك أن يعرض إيجارًا زهيدًا بدلًا من عدم الحصول على إيجار من الأساس، وهذا ما تتطلبه المنافسة في هذه الحالة.
في هذه القصة لا يملك صاحب المورد المرغوب (الأرض) كثيرًا من القوة التفاوضية، والتي تنبع بالأساس من (الندرة)، فالمستأجرون نادرون بينما الأراضي الزراعية غير نادرة. معنى هذا أن الندرة النسبية إذا انتقلت من شخص إلى آخر تنتقل معها القدرة التفاوضية أيضًا.
فإذا حذا الشباب حذو المستأجر الشاب وأتوا للقرية واستأجروا كل الأراضي وزرعوها، ثم أتى شاب جديد ليكتشف عدم وجود أرض ليزرعها، فإنه إما سيرضى بقطعة صغيرة غير خصبة في أطراف القرية، أو يعرض مبلغًا كبيرًا لأي مالك أرض حتى يطرد المستأجر ويبدله، وهنا سيكون كل المزارعين على استعداد لأن يدفعوا حتى لا يُطردوا من الأرض، وهنا سيتغير كل شيء؛ سيرتفع الإيجار، وستنتقل القوة التفاوضية بسرعة لملاك الأراضي الأصليين، لأن المستأجرين أصبحوا متوفرين بكثرة، وأضحت الموارد (الأراضي) نادرة نسبيًا.
لا يجب أن تتوقف التغيرات في القدرة التفاوضية عند ذلك الحد. فبينما يمكن أن تتعقد قصتنا من مجرد نشاط الزراعة إلى أنشطة أخرى متعددة إلى ما لا نهاية، فإن القواعد الأساسية تظل هي دون تغيير. فمثلًا لو استمر المزارعون في الاستيطان بالمنطقة، فسينتهي بهم الأمر بأنهم لن يزرعوا الأرض الخصبة فحسب، بل والأرض المغطاة بالشجيرات القصيرة أيضًا.
فحينما يصل مستوطن جديد سيجد أن الأرض الوحيدة المتاحة أمامه هي الأرض العشبية الأقل إنتاجية حتى من الأرض المغطاة بالشجيرات القصيرة، وهنا نتوقع أن تحدث نفس عملية المفاوضات السابقة؛ حيث يعرض المستوطن الجديد المال على ملاك الأراضي في محاولة للحصول على قطعة أرض مغطاة بالشجيرات القصيرة ليزرعها، وسرعان ما سيرتفع إيجار الأراضي المغطاة بالشجيرات.
تبسيط النماذج الاقتصادية ليس مضللًا دومًا
يمكن أن يكون كوب الكابتشينو هو نقطة البدء، ولماذا يرتفع سعره في بعض المقاهي والمدن عن غيره؟ وقد تخبرنا فطرتنا أن القهوة غالية الثمن لأن أكشاك القهوة تضطر لدفع قيمة إيجارية عالية، أما نموذج ريكاردو الاقتصادي يبين لنا أن هذه الطريقة خاطئة في التفكير في تلك القضية؛ لأن القيمة الإيجارية العالية ليست حقيقة عشوائية من حقائق الحياة، ولكن لها ما يبررها. فهناك أمران يحددان القيمة الإيجارية للمواقع المتميزة مثلما يتحدد إيجار الأراضي الخصبة؛ وفقًا للفرق في الإنتاجية بين الأرض الخصبة والشجيرية، وأهمية ونوعية وجودة الحبوب التي تنتجها نفسها.
بتطبيق نظرية ريكاردو على المقاهي التي تحدثنا عنها في البداية، فمثلما تستحق الأرض الخصبة إيجارًا مرتفعًا إذا كانت الحبوب التي تنتجها مرتفعة القيمة، فإن المواقع المتميزة للمقاهي تستحق هي الأخرى إيجارًا مرتفعًا إذا كان الزبائن سيدفعون أسعارًا مرتفعة للقهوة. وبالطبع يكون زبائن ساعة الذروة في حاجة ماسة للكافيين، وفي عجالة من أمرهم بحيث إنهم لا يدققون إذا كانت الأسعار التي يدفعونها مرتفعة أم لا، لذلك فإن استعدادهم لدفع أعلى سعر مقابل كوب كابتشينو سهل المنال هو السبب في ارتفاع القيمة الإيجارية لمقهى مثل ستارباكس.
يصلح نموذج ريكاردو الاقتصادي لمناقشة العلاقة بين الندرة والقوة التفاوضية، حيث يأخذنا النموذج إلى ما هو أبعد من القهوة أو الزراعة، ويفسر لنا الكثير من أمور العالم التي تحدث من حولنا. فعندما ينظر خبراء الاقتصاد إلى العالم يرون أنماطًا اجتماعية مستترة، تصبح جلية فقط عندما نركز على العمليات الجوهرية غير الظاهرة، وكيف يمكن لتحليل مثال افتراضي عن نشاط الزراعة في القرن التاسع عشر أن يكشف حقيقة مقاهي القرن الحادي والعشرين.