الممر الاقتصادي: طوق الصين حول عنق العالم
في 2007 ألقى «جين تاو»،الرئيس الصيني آنذاك، خطابًا تحدث فيه عن ضرورة تجديد شباب الأمة الصينية، وأكدّ ضرورة أن تصبح الصين قادرةً على استخدام «القوة الناعمة»، لتصبح أمة صاعدة عالميًا، بدلًا من صعودها إقليميًا فقط، وألا تكتفي الصين بقوتها العسكرية فقط، بل عليها أن تركن إلى قوتها الناعمة في مواجهة القوة الأكبر؛ المتمثلة في الولايات المُتحدة.
وقع الاختيار الصيني على باكستان. تمارس فيها تدريبات الإحماء رغبة في الانطلاق نحو العالم بعد ذلك. الدولتان بينهما ودٌ قديم؛ باكستان اعترفت بالجمهورية الشعبية الصينية بعد عامين فقط من إعلانها عام 1951، وقبل ذلك فتحت لها ممرًا جويًا على العالم بعد ثورتها عام 1949.
كما ساندتها باكستان في الحصول على مقعدها في الأمم المُتحدة. ورغم أن نصف أسلحة باكستان تأتي من الصين، فإن باكستان هى التي أدخلت التكنولوجيا الغربية إلى الصين ابتداءً، كالصواريخ مثلًا.
ميناء «جوادر»: قِبلة العالم الجديدة
الأحد الـ14 من نوفمبر/ تشرين الثاني 2016 تغادر ثلاث حاويات عملاقة ميناء «جوادر» الاقتصادي متجهةً إلى بحر العرب، إعلانًا عن تدشين الممر الاقتصادي الصيني-الباكستاني. الممر يبلغ إجمالي استثماراته 46 مليار دولار. سيتم إنجازه على ثلاث مراحل متعاقبة.
بصورة عامة؛ سيكون الممر عبارة عن شبكة هائلة من الإنجازات في مجالات الطرق، والاتصالات، والطاقة. 51 اتفاقية تم توقيعها تحت مظلة المشروع،تأمل من ورائها باكستان أن يرتفع نموها بنسبة 5% سنويًا، خاصةً مع اكتمال المشروع بصورة نهائية عام 2030.
ميناء «جوادر» الواقع جنوبيّ باكستان، يطل على مضيق هرمز، حيث يمر ثلث نفط العالم. الميناء كان عُمانيًا حتى عام 1958، إذ اشترت باكستان منطقة الميناء من سلطنة عمان في ذلك العام، لكنّها لم تبدأ العمل فيه إلا في عام 2002.
الميناء أقرب إلى مدينة «شينجيانج» الصينية من موانئ شرقي الصين، مما يعني توفير المال والوقت. نائب رئيس مجلس الدولة الصينى «يو ياندونغ» أكد أنّ الممر سيسهم في تقليص الوقت المستغرق لنقل البضائع بنسبة 60 إلى 70%.
إضافةً إلى أن موقعه المتميز يجعله أداة دمج لجنوبي آسيا، والصين، وآسيا الوسطى معًا، لكل هذا قررت الصين أن تستثمر فيه وحده ما يُقارب 4.5 مليار دولار، على أن تحتفظ به الصين لمدة 43 عامًا.
اقرأ أيضًا:تمرد الصين وتفجر آسيا: سيناريوهات الصراع الأمريكي الصيني
لكن مشكلة بسيطة تسوّد صحيفة ميناء «جوادر»، ألا وهي أهله. الميناء يقع في منطقة «بلوشستان»، منطقة غنيّة إذا نظرت إليها من تحت الأرض، فقيرة للغاية إذا نظرت إلى ما فوق سطح الأرض. تستقر ثرواتها في باطنها، ويضطرب أهلها على سطحها. جعلتها الولايات المُتحدة تدفع ثمنًا باهظًا أثناء حربها ضد «طالبان». هجمات متتابعة عطلت خط سير المشروع، لكنّ الصين راهنت، وتراهن، على الجيش الباكستاني لحماية استثماراتها.
يضطلع الجيش بالمسئولية، ويزيد عدد جنوده على 15 ألف جندي. فلا تريد باكستان إضافة مشروع آخر إلى قائمة المشاريع التي أوقفتها الصين بسبب انعدام الأمن في يوليو/تموز 2016.
لا مكان للمصادفات
الهجمات الأمريكية التي شهدتها «بلوشستان» ربما تتجاوز الولايات المُتحدة بها الرغبة في محاربة الإرهاب، إلى الرغبة في محاربة المشروع ذاته. الولايات المُتحدة تضيف «جماعة المجاهدين الأحرار» إلى قائمة الإرهاب في سبتمبر/أيلول 2016، مما دفعهم إلى اللجوء إلى المناطق النائية من باكستان، ثم في نفس الشهر تُضاف باكستان إلى قائمة الدول الراعية للإرهاب. دخول باكستان القائمة يعني مزيدًا من التضييق الاقتصادي، والاستباحة المباشرة لأراضيها، وبهذا تكون الولايات المُتحدة قد وجدت بابًا خلفيًا للتأثير في هذا المشروع، بعد عامين من المراقبة الصامتة.
ليست الولايات المُتحدة وحدها القلقة من هذا المشروع، بل تشاطرها الهند قلقها. السبب الأول، هو العداء التاريخيّ بينها وبين باكستان. إضافةً إلى امتلاك الهند ميناء «تشابهار»، الواقع على بعد 72 كيلو مترًا فقط من «جوادر»، ولطالما حلمت كلٌ منهما بنسف الأخرى، وبالتأكيد إن حصول باكستان على المشروع الصيني يعني تهميشًا كارثيًا للهند.
المناوشات بين البلدين وصلت إلى حد تهديد الهند بتدمير ما يتم إنشاؤه من البُنى التحتية المُتعلقة بالمشروع. زادت حدة التهديدات حين علمت الهند أنه تم إقصاؤها من المشروع تمامًا، ولا أمل لدخولها إليه عبر «كشمير»؛ إذ سيمر الطريق من الجزء الباكستاني منها دون الهندي، مما يعني أن المنطقة ستصبح محميةً بالتنين الأصفر كونها النافذة الرئيسة لبضائعه نحو العالم.
الإمارات: تحب التوحيد، تكره الشرك
أما عن الإمارات؛ فلطالما أرادت أن تكون قوةً اقتصاديةً لا شريك لها. وتنمية ميناء «جوادر» سيجعله الممر الأسهل لتجارة آسيا والصين، مما يعني سحب البساط من تحت أقدام المولود الإماراتي الأعظم «ميناء علي»، الذي يستضيف حاليًا ما يقارب 5000 شركة من 120 دولة.
الضيق الإماراتي من المشروع وصل إلى حد دعم المعارضة الباكستانية للإطاحة برئيس الوزراء «نواز شريف» عبر اتهامه بالفساد اعتمادًا على وثائق مُسربة كانت الإمارات مصدرها.
اقرأ أيضًا:موانئ دبي:الاغتيال الإماراتي للأمم
كذلك لا يمكن القول إنّه من قبيل المصادفة أن تكون أول زيارة لرئيس وزراء هندي للإمارات منذ 37 عامًا في نفس توقيت توقيع الاتفاقية الصينية-الباكستانية. ليجمع المشروع الصيني الطَموح شتات العلاقات بين الهند والإمارات كونهما متضررتين منه، كما تظهر إيران على استحياء في المشهد عبر تعجيلها لتطوير ميناء «تشابهار» الهندي، ثم تسليمه كاملًا للهند مرةً أخرى دون حقوق امتياز واضحة، رغم أن المشروع تكلّف ما يقارب نصف مليار دولار.
إذا كان الممر الاقتصادي يزعج الإمارات، فلسنا بحاجة إلى القول إنّه يقع بردًا وسلامًا على قطر. قررت قطر الاستمثار فيما نسبته 15% من البني التحتية للممر. أما باقي دول الخليج كالكويت والمملكة السعودية لا يظهران قلقًا مبالغًا من الممر كما تفعل الإمارات، كما لا يُظهران نفس الحماسة تجاهه كما تفعل قطر. ربما لأن لكل منهما موارد نفطية وطبيعية، على النقيض من الإمارات التي تعتمد بشكلٍ كامل على الموانئ، والنقل.
إلا أن اعتبار الممر الاقتصادي بين الصين وباكستان واحدًا من عدة مشاريع ضمن نظرية «الحزام والطريق»، التي تهدف الصين من ورائها لأن تصبح أستاذ العالم الجديد والأوحد، سيحتم على دول الخليج القلق من مشاريع الصين المتتابعة أولًا، ثم سيتحتم عليها الاختيار بين الصين والولايات المُتحدة بعد ذلك.