المؤتمر الاقتصادي: بعد المليارات.. هل يجني المواطن الثمار؟
بدأت الجلسة الافتتاحية للمؤتمر الاقتصادي، المُنعقد الأسبوع الماضي، بإعلان قادة دول الخليج ممثلة في السعودية، الكويت، الإمارات، وعمان عن حزمة مساعدات لمصر بقيمة 12,5 مليار دولار، منها 3,25 ملياراً على شكل ودائع للبنك المركزي المصري، وبقية المبلغ عبارة عن استثمارات لم يعلن عن تخصيصها لمجالات بعينها أو الجدول الزمني لتنفيذها. وفي اليومين الثاني والثالث للمؤتمر، وقعت الحكومة المصرية ممثلة في عدد من الوزارات والهيئات الكثير من الاتفاقيات ومذكرات التعاون بخصوص مجموعة من المشروعات المتعددة.
الرسائل السياسية للمؤتمر
لا شك أن المؤتمر الاقتصادي لاقى نجاحاً سياسياً على نحو كبير، ويأتي نجاح المؤتمر سياسياً بحضور العديد من الحكومات الغربية في المؤتمر، وأبرزها الولايات المتحدة من خلال مشاركة وزير الخارجية «جون كيري»، التي تُعطي إشارة إلى تبني أمريكا استراتيجية محاباة جديدة للتعاون مع مصر.
وعلى النحو العربي والإفريقي، أعطى حضور رؤساء الصومال وغينيا والسودان، ورئيس وزراء إثيوبيا، وتنزانيا، وغيرهم من الوفود الإفريقية بالإضافة إلى الدول العربية والخليجية، عدة دلالات سياسية أيضاً، تمثلت في إعادة التواجد المصري على الساحة الإفريقية، وبداية جديدة لعلاقات مصرية – إفريقية قائمة على التعاون مثلما صرح بذلك ممثلو الوفود الإفريقية. ومثل الوجود الأوروبي والتعهدات الاستثمارية من شركاتها دعماً آخراً للنظام الحالي.
وثمة رسالة مهمة حرصت الحكومة المصرية على التأكيد عليها من خلال نجاح المؤتمر، مفادها أن الوضع السياسي في مصر مستقر بتلك الدرجة التي سمحت لقادة العالم العربي والأجنبي بالقدوم إلى مصر للاعتراف بشرعية النظام الحالي وقدرته على ممارسة الحياة السياسية والاقتصادية، ولن يُنكر أحد ما أن النظام الحالي قد نجح بالفعل في إيصال تلك الرسالة.
ولكن بعد انقضاء المؤتمر هل ستشرع كافة الحكومة بأجهزتها التنفيذية، في ضوء غياب السلطة التشريعية، في العمل بما تم الاتفاق عليه من مشروعات واستثمارات، وذلك في ضوء ما صرح به وزير التجارة والصناعة المصري، «منير فخري عبد النور»، بأنه ينبغي عدم المبالغة في مليارات المؤتمر حتى لا يطالب الأفراد بنصيبهم منها.
ورُبما يُعد مثل ذلك التصريح بمثابة مؤشر بأن الحكومة تنوي التعامل مع تلك الاستثمارات بمعزل تماماً عن إشراك المجتمع في أية قرارات وبخاصة في ضوء غياب الإطار التشريعي ممثلاً في وجود برلمان منتخباً وممثلاُ عن الشعب في اتخاذ مثل تلك القرارات.
كم جمعت مصر من المليارات؟
بعيداً عن الحكم المطلق على نجاح المؤتمر أو فشله، فهناك ضبابية وعدم دقة واضحة في الإعلان عن المليارات الناتجة عن الاتفاقيات والعقود الموقعة بين الحكومة والمستثمرين العرب والأجانب، فطبقاً لرئاسة الوزراء حصدت مصر من المؤتمر 72,5 مليار دولار، موزعه على عقود واتفاقيات موقعة بقيمة 36,2 مليار دولار، و5,2 مليار دولار اتفاقيات تمويل من صناديق ومؤسسات الدولية، و18,6 مليار دولار عقود لمشروعات ممولة من القطاع الخاص، فضلاً عن الدعم الخليجي المُقدر بـ 12,5 مليار دولار.
وصرح وزير الاستثمار المصري، «أشرف سالمان»، بأن ما جُمع من مليارات كان بحدود 130 مليار دولار، بخلاف عقد إنشاء العاصمة الجديدة الذي قدر بـ45 ملياراً. أما عن الاستثمارات الفعلية المُعلنة فلم تتجاوز 15 مليار دولار، بالإضافة إلى 18 ملياراً أخرى تخص تمويل وتركيب وتشغيل محطات للطاقة. أما مذكرات التفاهم فبلغت قيمتها 92 مليار دولار.
وبحسب المتابعة للمؤتمر على مدى الثلاثة أيام، ووفقاً لما رصدته الصُحف المحلية والأجنبية، بلغت حصيلة المليارات التي أُعلنت خلال المؤتمر، والتي تشمل الاتفاقيات النهائية، ومذكرات التفاهم، كالقروض والمنح، ما يتراوح بين 170 و195 مليار دولار، أي ما يتخطى حاجز التريليون جنيه مصري، أكثر من 90% منها مذكرات تفاهم وبالتحديد في قطاعات الكهرباء والنقل والإسكان.
وبما أن توقيع مذكرات التفاهم غير مُلزم للمستثمرين أو الحكومات، لأنه عبارة عن مجرد توقيع علي رؤية مقترحات الحكومة للاستثمار في عدد من المشروعات المختلفة وليس توقيع على تنفيذ تلك المشروعات، وتحويل تلك المذكرات إلى اتفاقيات استثمارية حقيقية، بحسب تصريحات الوزراء أنفسهم، يتطلب الانتهاء أولاً من الإجراءات القانونية والمالية والفنية والإجرائية المرتبطة بها، تمهيداً لعرضها على مجلس الوزراء لتصبح جاهزة للتوقيع والتنفيذ وفقاً لجداول زمنية محددة لبدأ العمل بها وكذلك الانتهاء منها.
مليارات الخليج تتراجع
يبدو أن الرفاهية الخليجية الناتجة عن زيادة الإيرادات النفطية على مدى السنوات الماضية بدأت تتضاءل مع التراجع الكبير في أسعار النفط بأكثر من 60% منذ يونيو/حزيران 2014، مما يُشكك حول قدرة الدول الخليجية على تحقيق فوائض مالية مرتفعة وبالتالي على استمرارية الدعم الخليجي المرتفع لمصر.
وظهر ذلك واضحاً خلال المؤتمر بعدما تراجع الدعم إلى 12,5 ملياراً فقط من الدول الأربع بعد أن أعلنت وزارة المالية في وقت سابق عن وصول الدعم الخليجي لمصر منذ يونيو/حزيران 2013 وحتى الآن إلى أكثر من 23 مليار جنيه. ولكن يظل إعلان الخليج لتقديم حزم نقدية واستثمارية لمصر دليلاً واضحاً على استمرار الدعم الخليجي للنظام الحالي والثقة في تحسن الوضع السياسي، بما جعلها تدفع تلك المليارات لمساندة الاقتصاد المصري.
إلى أين تتجه مليارات المؤتمر؟
كقاعدة عامة، لن يأتي مستثمر خاص ويضخ أمواله في مصر إلا وكان هدفه الأولي هو العمل بتلك القطاعات والمجالات التي تحقق له أكبر عائد استثماري ممكن وبأقل تكلفة ممكنة وفي أسرع وقت ممكن، وتلك الأهداف عادةً ما تتحقق في القطاعات المتعلقة بالتجارة السلعية أو تقديم الخدمات، وبخاصة السياحية، والاستثمار العقاري، والاستثمار في قطاع النفط والغاز، الذي يحقق وفرات عالية للشركات النفطية العالمية أمثال «بريتيش بيتروليوم».
وبالفعل أبرمت مصر العديد من الاتفاقيات في مجال الطاقة حيث جرى توقيع صفقات في مجال الغاز الطبيعي بأكثر من 20 مليار دولار، من بينها عقد لـ«بريتيش بيتروليوم» بنحو 12 مليار دولار، وإتفاقية مع شركة «إيني» النفطية بقيمة 5 مليارات دولار، وإتفاقية بـ 3 مليارات دولار مع مجموعة «البنك الإسلامي للتنمية» لتمويل إستيراد المنتجات البترولية التى تحتاجها السوق المصرية.
كما جرى توقيع مذكرات تفاهم في قطاع توليد الكهرباء بأكثر من 16 مليار دولار ومن أبرزها أربع مذكرات مع شركة «سيمنس» العالمية. أما قطاع العقارات فقد تم توقيع مذكرات تفاهم لأربعة مشاريع عقارية وسياحية بإجمالي 12,7 مليار دولار، بالإضافة للعاصمة الإدارية بتكلفة استثمارية تزيد عن 45 مليار دولار.
وقطاعي الطاقة والعقارات بصفة خاصة، هي من القطاعات الاقتصادية كثيفة استخدام رأس المال، ولن توفر مزيداً من فرص العمل التي تخفف من حدة مشكلة البطالة في المجتمع، فضلاً عن أن عوائد تلك المشروعات تأتي في صورة أرباح تعود بصورة رئيسة على أصحاب رؤوس الأموال، سواء محليين أو أجانب.
فمشروعات الطاقة هي بالطبع مشروعات مفيدة للاقتصاد المصري، ولكن استفادة الاقتصاد من عدمه يطرح عدداً من التساؤلات تتمثل في؛ ما هي نوعية الاتفاقات؟ ما هي الإنجازات التي يمكن أن تحققها الشركة طرف الاتفاقية في تطوير قطاع الطاقة؟ مع من توقع مصر الاتفاقية؟ وماذا ستستفيد مصر فعلياً من الاتفاقية؟
وللإجابة على تلك التساؤلات، ننظر إلى اتفاق مثل ما تم مع شركة «بريتيش بيتروليوم» البريطانية بقيمة 12 مليار دولار، للقيام بعدد من الاكتشافات الجديدة بشرق وغرب الدلتا لتطوير خمسة تريليونات قدم مكعب من موارد الغاز، ليعادل إنتاجها 25% من إنتاج مصر الحالي للغاز الطبيعي.
فتلك الشركة العاملة في مصر منذ عام 1972 أي أكثر من 40 عاماً، بحجم استثمارات مُعلنة بنحو 20 مليار دولار، تمتلك 100% من عمليات التطوير بمنطقة امتياز شمال الإسكندرية، و65% من مشروع غرب الدلتا لتطوير وانتاج الغاز الطبيعي، و33% من منطقة امتياز شمال دمياط لاكتشاف وانتاج الغاز، فضلاً عن حصص أخرى في عدد من مناطق الإمتياز للبحث والتنقيب عن الغاز الطبيعي.
وعلى الرغم من كل تلك الإمتيازات لم يتم الإعلان عن حفر بئر واحد، فكل عمليات الشركة حتى الآن محصورة في تطوير حقول قائمة ومجرد إعلانات عن إكتشافات جديدة دونما أن يتم حفر حقول فعلية، وتماطل الشركة على مدى السنوات الطويلة الماضي في تنمية تلك الحقول المكتشفة بدعوى ارتفاع التكاليف بالمياه العميقة بما يجعل الأمر غير اقتصادي.
ذلك فضلاً عن تاريخ طويل من المخالفات التي ارتكبتها الشركة سواء في تعاملاتها مع مصر أو دولاً اخرى مثل الأردن، وفرض عقوبات مالية عليها بعد الكارثة النفطية التي تسببت بها في خليج المكسيك. اذاً ما المميزات التي جعلت مصر توقع اتفاقية جديدة مع تلك الشركة؟ وبأي نفع ستعود على الاقتصاد المصري بعدما تخلفت طيلة السنوات الماضية عن تحقيق أي إنجاز يُذكر. ومن ثم تظل العديد من التساؤلات مثارة حول تلك الاتفاقية وما على شاكلتها مما خرج بها المؤتمر.
العاصمة الإدارية الجديدة.. للأغنياء فقط
كان عقد بناء العاصمة الإدارية الجديدة، غير المُسماة حتى الآن، من نصيب شركة «إيجل هيلز» الإماراتية، والمقرر تنفيذها في غضون 5 إلى 7 سنوات بتكلفة 45 مليار دولار. إذاً فتلك العاصمة لن تنفذها الحكومة بغرض إتاحة فرصة معيشية أكثر رفاهية للمواطن المصري محدود أو متوسط الدخل، فمن يقوم على تنفيذ العاصمة الجديدة هو شريك أجنبي وبالطبع سيكون الهدف الأول والأخير من المشروع هو الربح وسيتحول المشروع إلى مجرد مدينة سياحية بنكهة إدارية يستفيد منها الأغنياء ورجال الأعمال، أما المواطن محدود الدخل فلن تكون لديه القدرة على تَمَلُك وحدة سكنية بتلك المدينة.
وعلى نحو آخر نجد أن قانون الاستثمار الجديد يُعطي للشركات والمنشآت الأجنبية الحق في تملك الأراضي والعقارات اللازمة لمباشرة نشاطها أو التوسع أياً كانت جنسية الشركاء أو المساهمين أو محال إقامتهم أو نسب مشاركتهم أو مساهمتهم في رأس مالها، وذلك يُعني أن أي شركة عالمية يمكنها تملك المشروعات المساهمة بها في حال سمحت مواردها بشراء حصص الشريك المصري فضلاً عن شراء ما بدا لها من الأراضي المصرية، وذلك ما نخشاه أن تصبح العاصمة الإدارية جديدة بمشروعاتها الموجهة في الغالب لأغنياء الأمة، مدينة مصرية على أراضٍ أجنبية!.
القطاعات الغائبة عن المؤتمر
غاب القطاع الصناعي بشكل ملحوظ عن المؤتمر فلم يكن هناك تمثيل يُذكر لشركات قطاع الأعمال، خاصة شركات الغزل والنسيج المملوكة للدولة، ولم يكن هناك عرض لأية استراتيجيات من شأنها تطوير تلك الصناعة، أو غيرها من الصناعات الأخرى، التي أوشك على الاندثار في ضوء تحقيقها خسائر سنوية متزايدة بلغت 2,3 مليار جنيه بنهاية السنة المالية 2014، مقابل 1,8 مليار جنيه خلال عام 2013.
أما القطاع الزراعي، فلم يشهد سوى توقيع مجموعة من البروتوكولات، غير المُلزمة، مع مجموعة من الشركات لتطوير واستصلاح الأراضي في مناطق مثل «توشكى»، و«شرق العوينات»، و«الفرافرة»، أما تمويلات البنك الدولي للقطاع الزراعي المصر فيقتصر على تطوير البنية التحتية الخاصة بالقطاع، خاصة تطوير الترع في مناطق غرب الدلتا شمالي البلاد.
وكذلك لم يشتمل المؤتمر على عرض لمشروعات من شأنها حل قضايا هيكلية يعاني منها المجتمع المصري، كالبطالة مع تحديد جدول زمني لتشغيل الشباب في ضوء الزيادة المستمرة في الداخلين لسوق العمل سنوياً، فضلاً عن غياب الإعلان عن أية مشروعات في إطار خدمات الرعاية الصحية التي تعاني من تدنى واضح فى جودتها. وكذلك تطوير منظومة التعليم، والمشروعات التنموية الهادفة للسيطرة على معدلات الفقر المتزايدة، حيث أن ربع المصريون يعيشون تحت خط الفقر، وأن سكان العشوائيات يزيدون عن 20% من سكان مصر.
وعلى الرغم من الأهمية الكبيرة التي حاز بها مشروع قناة السويس الجديدة خلال الأشهر القليلة الماضية، وعلى الرغم من عرض فيلم وثائقي عن مشروع تنمية محور قناة السويس خلال المؤتمر، لم ينتج عن المؤتمر تحديد اتفاقيات واضحة بجداول أعمال محددة وفترات زمنية محددة للمشروعات التابعة لمحور تنمية قناة السويس والتي تصل إلى ١٨ مشروعاً بحجم استثمارات ٤٠ مليار دولار، مثلما صرح مهاب مميش، سوى اتفاقاً واحداً مع مجموعة «آل سويدان» الاماراتية للاستثمار في بناء مدينة التجارة والتسوق في إطار مشروع تنمية محور قناة السويس، في مدينة العين السخنة باستثمارات تبلغ 4 مليارات دولار.
بعد المليارات الضخمة والوعود المتزايدة.. هل سيتحقق مطلب المواطن؟
ربما كانت كلمة «كريستين لاجارد»، رئيسة صندوق النقد الدولي، خلال المؤتمر هي الأقرب إلى التحليل الموضوعي لما يمر به الاقتصاد المصري وما هو مطلوب من الحكومة في الفترة القادمة، بعيداً عن المحاباة والمجاملات التي ظهرت من بقية ممثلي الدول والمؤسسات والشراكات الأخرى، حيث قالت لاجارد أن مصر بحاجة إلى الوفاء بتطلعات شعبها للنمو، من خلال أنظمة صحية وتعليمية أفضل، ومستوى أعلى للمعيشة.
فعلى مدى السنوات الخمس المقبلة، سيكون هناك أكثر من 600 ألف من الداخلين الجدد إلى سوق العمل سنوياً. ومن ثم خلق فرص عمل جيدة للشباب في مصر هو من الأهمية الاقتصادية، والاجتماعية، والأولويات الإنسانية. ذلك فضلاً عن حاجة مصر بالسير جنباً إلى جنب لاستعادة الاستقرار الاقتصادي من خلال تقليص العجز المالي والحد من ارتفع الدين العام الداخلي والخارجي.
فالأمر لا يتوقف عند مجرد الإعلان عن حجم الاستثمارات الأجنبية في مصر، ولكن يجب الشفافية والوضوح والدقة في الإعلان عن تلك المجالات والمشاريع التي سيتم توظيف تلك الاستثمارات بها، فالمشاريع القومية الكبيرة مثل مشروع قناة السويس، إذا أجريت بكفاءة، يمكن أن تدعم النمو وخلق فرص العمل، وذلك أمر جيد، لكنها ليست هي السبيل الوحيد للمضي قدماً.
فالمشاريع الصغيرة والمتوسطة الحجم هي بنفس القدر إن لم يكن أكثر أهمية، وعلى الرغم من ذلك لم يُعطي المؤتمر دعماً كبيراً للمشروعات الصغيرة والمتوسطة حيث لم يتم توقيع اتفاقيات تذكر لضخ مزيد من الاستثمارات في هذا الجانب سوى اتفاق بين البنك الدولي والصندوق الاجتماعي للتنمية للحصول على قرض ميسر لتمويل المشروعات الصغيرة والمتوسطة بقيمة ٣٠٠ مليون دولار.
وتمويل تلك المشاريع لا يمكن أن تعتمد دائما على الخزانة العامة، خاصةً في دولة مثل مصر التي تعاني في الأساس من عجز في موازنتها العامة فضلاً عن زيادة ديونها المحلية والخارجية، وذلك هو المجال الذي لابد وأن يلعب كل من الاستثمار الخاص، المحلي والأجنبي، دوراً فيه. فالمشروعات الصغيرة والمتوسطة تشكل محور اهتمام السياسات التنموية الهادفة إلى تخفيض معدلات البطالة في الدول النامية والمتقدمة على حد سواء، فضلاً عما تملكه تلك المشروعات من قدره على الانتشار الجغرافي مما يساعد على تقليل التفاوتات الإقليمية، وتحقيق التنمية المكانية المتوازنة، وخدمة الأسواق المحدودة التي لا ترغب الكيانات الاستثمارية الكبيرة سواء المحلية أو الأجنبية في الدخول فيها.
واذا كان هناك شكوى من التكدس السكاني في العاصمة الإدارية القديمة، القاهرة، لذا نلجأ لعاصمة إدارية جديدة، فلما لا يتم الانتباه أولاً لحل مشكلات العاصمة القديمة والتي تتمثل في المركزية الكاملة لكافة المصالح الحكومة والخدمات على جميع أنواعها مع افتقار عدد كبير من المحافظات والمراكز على مستوى الجمهورية لنوعية الخدمات الموجودة في العاصمة، فالعاصمة الجديدة لن تكون أكثر من نقل المركزية من مكان ثري ومزدحم بطريقة عشوائية إلى مكان أكثر ثراءً ومنظم إلى حد كبير.
مصر تحتاج لـبنية اجتماعية لا مادية
أظهرت النتائج الأولية للمؤتمر أن مصر ليست فقط قادرة على جذب الاستثمارات، بل ربما تكون وجهة استثمارية مربحة للغاية للشركات العالمية في ضوء قانون الاستثمار الجديد، وجاءت الكثير من الشركات الكبرى في جميع أنحاء العالم يطالبون بالمشاركة في المشاريع الاستثمارية بالبلاد. وتلك الاستثمارات بالطبع سيتم ضخها في الاقتصاد المصري بما يرفع معدلات الناتج القومي ومن ثم معدلات النمو. ولكن النمو الاقتصادي شرطاً ضرورياً، ولكنه غير كافٍ لرفع مستوى حياة الأفراد المادية؛ فالشرط الأهم هو طريقة توزيع الزيادة المحققة على الأفراد.
فخلال الخمس سنوات السابقة لقيام الثورة في 25 يناير، كانت معدلات النمو مرتفعة ولكن لم يكن هناك توزيع عادل لنتائج ذلك النمو وذلك لأنه كان عبارة عن ضخ المستثمرين الكبار لأموال طائلة من خلال مشروعات قطاعية هادفة إلى الربح السريع بشكل كبير، ومن ثم لم ينتج عنها تنمية من شأنها خلق قيمة مضافة حقيقية بالمجتمع.
فالنمو المرتفع لا يمكن أن يكون هدفاً في حد ذاته، وينبغي أن يكون هناك نمو مستدام ولكي يكون النمو مستدام لابد وأن يكون شامل، والنمو لن يكون شامل إلا إذا توفرت الفرص لجميع أطراف المجتمع من شباب ونساء وعاطلين عن العمل وكذلك المعوقين. وهذا يعني أن فوائد النمو يتم تقاسمها على نطاق واسع يشعر بها المواطنين بكافة فئات المجتمع دونما تمركزه في فئة الأغنياء وأصحاب الثروة فقط.
ولتحقيق ذلك، يجب أن تقوم الحكومة بتعزيز البنية الاجتماعية وليس فقط البنية المادية، ولن تتحقق التنمية المجتمعية إلا من خلال التركيز على تلك المشروعات التنموية الهادفة إلى الوصول إلى حالة التشغيل الكامل وتحقيق الرفاه الاقتصادي على مستوى الفئات المختلفة عن طريق تقليل معدلات البطالة في المجتمع وزيادة الإنفاق الحقيقي على التعليم، فلا يمكن إنشاء وظائف جديدة إذا لم يتم تجهيز الخريجين بالمهارات اللازمة في سوق العمل الحديث. وإذا تم تجهيز البنية الاجتماعية بكفاءة، سيكون هناك مزيد من الإنفاق على الصحة والتعليم الأمر الذي يجعل النمو أعلى وأكثر شمولا، مع الحفاظ على الاستدامة المالية.
فأكبر دليل على أن مصر مفتقرة بشكل كبير إلى التنمية، هو غيابها عن تقرير “بي دبليو سي” عن المتغيرات المرتقبة بميزان القوة الاقتصادية العالمية، والذي يشترط تضمين الدول التي يوجد لديها خدمات تنمية عامة، وإعادة توزيع عادل للدخل فضلاً عن مستوى تعليمي وصحي جيد واستثمارات في البنية التحتية الهادفة لخلق بيئة صناعية واقتصادية جيدة بما يجعلها تحقق معدلات تنمية مرتفعة في الفترة الأخيرة، أما مصر فلم يكن بها معدلات تنمية حقيقية حتى يتم تضمينها في التقرير.
الخلاصة
ربما حققت مصر من خلال المؤتمر الاقتصادي مزيداً من الدعم الاقتصادي والسياسي بما يمثله ذلك من حجم الاستثمارات المُعلن عنها وكذلك حضور العديد من قادة العالم العربي والخارجي، ولكن من الخطأ أن نعتبر أن المؤتمر قد جنى ثماره عند ذلك الدعم، فتلك هي البداية وليست نقطة النهاية. فلازال أمام الحكومة الكثير والكثير من الخطوات الأكثر أهمية من مجرد الخروج من المؤتمر بعدد من الاتفاقات ومزيد من مذكرات التفاهم فضلاً عن الكثير من الوعود المُبهمة التي رُبما تصدق أو لا تصدق. فوضع مصر على الطريق الصحيح اقتصادياً سوف يتطلب استثمارات حقيقية لا مساعدات أو تبرعات.
فالعبرة ليست بحجم ما جمعته مصر من مليارات، وإنما بحجم ما سيتم تنفيذه على أرض الواقع من استثمارات حقيقة هادفة لتنمية الاقتصاد المصري بما يعود بالنفع على رفاهية المواطن، فسبق أن حصلت مصر على ما يفوق 20 مليار دولار، بحسب تصريحات الحكومة، عقب الإطاحة بالرئيس محمد مرسي في يوليو 2013، ولم يشعر معها المواطن بأي تحسن يُذكر في أحواله المعيشية بل ارتفعت أعبائة مع ارتفاع الأسعار، كما تفاقمت أزمات المياه والكهرباء والطاقة التي أصبح المواطن يخشى دائماً حلول موسم الصيف لما ينتظره من مصير دائم بقطع الكهرباء وأزمات الغاز المتكررة.