الاغتيال الاقتصادي للأمم
جون بركنز
عمل جون بركنز خبيراً اقتصادياً دولياً جاءت اعترافاته فى كتابه confessions of economic hit man -صدر الكتاب عام 2004م و تُرجم لثلاثين لغة من ضمنها اللغة العربية تحت عنوان “الاغتيال الاقتصادى للأمم”- لتلقي الضوء على ممارسات نخبة رجال الأعمال و السياسة فى الولايات المتحدة الأمريكية لتشييد إمبراطورية اقتصادية تسيطر عليها الكوربوقراطية؛ ويستمد الكاتب مصداقيته كونه أحد هؤلاء الذين عملوا كقراصنة اقتصاد Economic Hit Man في عديد من البلدان التي طالتها الشركات الاستشارية الأمريكية التي تروّج لمنظومة رجال الأعمال و الشركات عابرة القارات؛ من هذه البلدان المملكة العربية السعودية وفنزويلا والإكوادور وبنما.
أطروحة الكتاب
تتمحور الفكرة العامة للكتاب حول تزاوج المال والأعمال بالسلطة، وحكم رجال الأعمال المعروف اصطلاحياً بالكربروقراطية.
الكربروقراطية/حكم رجال الأعمال
هذا الاصطلاح يُطلق أيضاً مجازاً على الشركة الأمريكية Corporate America -المنظمة المشتركة للشركات الأمريكية الكبرى- والتى تُشكل عصب الاقتصاد الأمريكى وقاعدته الرئيسية لبناء مجتمع الرفاهة وفقاً للمفاهيم التي أصّلتها النُخبة في وجدان الشعب الأمريكي على امتداد قرنين من الزمن؛ ما دفع رئيس إحدى أكبر الشركات المُنتجة للسيارات لأن يقول: «ما هو فى صالح جنرال موتورز فهو فى صالح أمريكا»! ما جعل الفصل بين أهداف هذه المنظومة ومجريات الأمور في الولايات المتحدة الأمريكية أمراً في غاية الصعوبة، حيث بسطت المؤسسة الاقتصادية الأمريكية نفوذها على باقي المؤسسات وأنشأت للدفاع عن مصالحها في الداخل والخارج الأمريكي أذرعاً سياسية وعسكرية وإعلامية. فالانقلاب على محمد مصدق في إيران ما قبل الثورة الإسلامية وسلفادور ألندي في تشيلى ومحاولة الانقلاب على شافيز فينزويلا لا يمكن تفسيرها إلا في ضوء حرب المصالح الاقتصادية الأمريكية. فمصالح الشركات متعددة الجنسيات هى بالطبع بمثابة المصلحة الأمريكية العامة.
الأمر الذى جعل من قوة المال والأعمال سلطة فوق السلطة. وتحوّل النظام السياسى الأمريكى إلى نظام الحزب الواحد بجناحيه الجمهورى والديموقراطى، يسيطر على كلٍ منهما مجموعة متغيرة من قطاع الأعمال يشتركان فيما بينهما في التوجهات الرئيسية للأيديولوجيا التي أبرز توجهاتها: إسعاد وإرضاء من يملكون البلد -المستثمرين-. ودون تحقيق ذلك سينال البؤس من باقي أفراد الشعب. وعليه فإن أعظم تهديد قد يواجه النظام الأمريكى هو بروز بدائل لنماذج اجتماعية لا تتماشى مع أسس الأطروحة الأمريكية.
ولذلك رأت الإدارة الأمريكية فى ظهور تلك البدائل ذريعة للتدخل والردع للحفاظ على مصالحها وسيادتها بما في ذلك الحق في استخدام القوة العسكرية. ولتبرير ذلك داخلياً، اعتمدت آليات السوق لتوجيه وضبط وجدان وأفكار العامة من الأمريكيين وتقليص دور رجل الشارع الأمريكي إلى كونه مستهلكاً ومشاهداً بعيداً عن مسرح المشاركة الفعّالة.
فدائماً كانت غاية النظام الأمريكى ليس كما يظن البعض هي التجارة الحرة والأسواق المفتوحة؛ بل احتكار المستقبل لصالح منظمة الشركة الأمريكية Corporate America وضمان أحقيتها في دخول الأسواق العالمية واحتكار التكنولوجيا والاستثمار والإنتاج العالمى. فهي تطالب لشركاتها بحقوق الملكية في مجال الدواء والمستلزمات الزراعية -البذور والمبيدات والآلات- التي يدفع ثمنها فقط الفقراء في الدول النامية التي لا تطبق نُظم براءة الابتكار في المجالات المختلفة؛ متناسين أو متجاهلين أن الولايات المتحدة الأمريكية ذاتها رفضت في القرن الـ19 دعاوى حقوق الملكية بحجة أنها ستعوق التطور الاقتصادي!
عرض الكتاب
يغلب على الكتاب الطابع القصصي حين يتناول الكاتب تجاربه الشخصية التي عاشها في بعض البلدان كالمملكة العربية السعودية وبنما والإكوادور وفنزويلا. ويُقدم الكاتب رؤيته التحليلية في العديد من الحوادث التي شهدها العالم وغابت تفاصيلها عن رجل الشارع المتابع. ومن خلال هذا العرض سنحاول تقديم ثلاثة نماذج تختلف في الحيثية والمصير عن بعضها.
أولاً: المملكة العربية السعودية وغسيل الأموال
فى التاسع عشر من أكتوبر/تشرين الأول لعام 1973م، طلب الرئيس الأمريكى نيكسون من الكونجرس مبلغ 2.2 مليار دولار كمساعدات عاجلة للحليف الإسرائيلي في حربه مع الدول العربية؛ الأمر الذي دفع المملكة العربية السعودية وغيرها من البلاد العربية المنتجة للبترول لفرض حظر كامل على سفن البترول المتجهة للولايات المتحدة الأمريكية. انتهت فترة الحظر في الثامن عشر من شهر مارس/آذار لعام 1974م، ورغم قصر فترة الحظر، إلا أنها شكلت نقطة تحول في النظرة الأمريكية للمملكة.
اتضح فيما بعد أن حظر النفط العربي لم يكن شرا كله على الكربروقراطية بأعمدتها الثلاثة -الشركات الكبرى والبنوك الدولية والحكومية- بل أفضى لتقويتها كأن لم تقو من قبل، وكأن أمام الولايات المتحدة تجاه المملكة العربية مجموعة من التحديات، على رأسها استعادة الأموال التي تنفقها الولايات المتحدة نظير حصولها على نفط المملكة وتأمين مصادر إمدادات الولايات المتحدة من النفط العربي.
أدركت وول ستريت وواشنطن أنه من غير الممكن التسامح مع ما حدث، وأطلقت العنان لقيادات الكربروقراطية للبحث عن أقصر السبل وأيسرها لاستعادة الولايات المتحدة لأموالها المدفوعة في البترول واستغلال العجز الإدارى لدى المملكة العربية السعودية في استغلال مواردها الهائلة. ورغم امتلاء خزانة المملكة العربية بمليارات الدولارات من عائدات النفط إلا أن تلك العائدات كانت نعمة أكثر شبهاً بالنقمة؛ فقد دفعت أثرياء المملكة للتجوال حول العالم والالتحاق بالمدارس والجامعات الغربية، الأمر الذي حاد بهم عن أصولية الفكر المحافظ لمؤسسي المملكة وبدأت واشنطن مرحلة جديدة في التفاوض مع السعوديين وعرضت عليهم مقايضة المساعدات التقنية والتدريبات العسكرية ووضعهم على طريق النهوض مقابل ضمان عدم تكرار الحظر. أسفرت تلك المفاوضات عن إنشاء وكالة التنمية الأكثر غرابة في التاريخ، والتي عُرفت اختصاراً بـ JECOR، وابتدعت تلك اللجنة نظاماً جديداً هو الأكثر غرابة في برامج المساعدات الأجنبية المتعارف عليها، حيث اعتمدت على الأموال السعودية لتمويل الشركات الأمريكية في بناء المملكة العربية السعودية.
«لا يمكن لمواطن سعودي كريم الأصل أن يجمع القمامة» هذه الكلمة سمعها جون بركنز أحد قراصنة الاقتصاد الأمريكيين مباشرة من سائق التاكسي، وسمعها مرات متعددة بعد ذلك في سياقاتٍ كثيرة طوال فترة إقامته في المملكة العربية السعودية؛ وكانت الأكثر إلهاماً له ليقدّم مشاريع تخدم المصلحة الأمريكية وتُساعد ظاهرياً في إنماء المملكة؛ وهي إن جاز التعبير تُغرق المملكة في مستنقع من التبعية لا سبيل للخروج منه على مرّ العقود المتعاقبة.
شملت برامج التنمية التي قدّمتها الشركات الأمريكية مشاريع خلّاقة تشمل مصانع لإعادة تدوير القمامة وتكرير النفط وما يخدمها من شبكات للطرق والصرف الصحي ومحطات للكهرباء ومُدن بأكملها تُقام على خلفية تلك البرامج، يكون تمويلها سعودياً خالصاً والعمالة من البلدان المصدّرة لها من دول المنطقة. ومن المثير للعجب أن وكالة التنمية الـ JECOR لم تكن خاضعة لرقابة الكونجرس رغم دور وزارة الخزانة الأمريكية كوسيط. وذلك لأن الخزانة الأمريكية لم تنفق مليماً واحداً فى واحد من تلك المشاريع.
ابتكر أحد قراصنة الاقتصاد الذين عملوا في المملكة العربية عبارة لطالما استخدمها نُظراؤه بعد ذلك أشار فيها للمملكة العربية السعودية بأنها «البقرة التى يمكن أن نحلبها حتى بلوغ سن التقاعد». و لخّص توماس ويبمان -الصحفى السابق و لأستاذ المساعد في معهد الشرق الأوسط- نقاط الصفقة بين السعوديين والأمريكيين في قوله: «إن السعوديين قومٌ يسبحون في المال، و سيوردون مئات الملايين من الدولارات إلى وزراة الخزانة التي ستحتجز هذه الدولارات في البنوك لحين الحاجة إليها. سيضمن هذا النظام تدوير أموال السعوديين للعمل في الاقتصاد الأمريكي مرة أخرى».
ثانياً: اغتيالات اقتصادية
دائماً ما امتلأت جُعبة قراصنة الاقتصاد بالعديد من الأساليب، فهم أشبه بالسحرة يملكون العصا والجزرة معاً، يغدقون الأموال ويغرون رجال الدول بالمناصب لهم ولذويهم، يضمنون لهم ولعوائلهم عيشةً هنية؛ و إذا رضوا عنهم أرضوا عنهم شعوبهم وإذا غضبوا عليهم برزت العصا وحل العقاب محل الثواب حتى إذا استوجب الأمر اغتيالهم وتصفيتهم فعلوا، ولو شق ذلك عليهم وعلى أجهزة المخابرات من ورائهم، تدخلت القوة العسكرية لتؤمن مستقبل الإمبراطورية الاقتصادية الأمريكية وتضمن مصالحها ومصالح حلفائها.
مع مطلع ثمانينات القرن الماضى، قدّمت إدارة الرئيس الإكوادوري خايمى رولدوس -أول رئيس مُنتخب ديموقراطياً للإكوادور في العصر الحديث- قانون الهيدروكربون (قانون منظم لاستكشاف وبيع البترول والغاز الطبيعى). هذا القانون إذا طُبق كان سيُعيد تشكيل علاقة الحكومة بشركات النفط؛ وهو ما يُعد تغييرا ثوريا راديكاليا سيمتد تأثيره خارج حدود الإكوادور بما يضر بمصالح تلك الشركات ويهدد حصص الأرباح الخاصة بها.
فى القارة ذاتها كان عمر توريخوس (الحاكم الفعلي لبنما 1968 – 1981) يقف مدافعاً عن حقوق الإنسان. بسط ذراعيه للاجئين السياسيين ونادى بالعدالة الاجتماعية ووقف ضد سوء استغلال العمالة في أمريكا اللاتينية وأرغم الأمريكان على ترك قناة بنما لأصحابها، وكثر أعداؤه من أرباب الشركات عابرة القارات، ولم يكن بأقل صلابة من نظيره رولدوس ولذلك جمعهما مصير واحد في العام نفسه.
لقي الرئيس الإكوادوري مصرعه في حادث تحطم طائرته التي كان يستقلها في الرابع والعشرين من مايو/آيار 1981م. وكان اغتياله بمثابة إنذار لنظيره البنمى توريخوس الذي لقي هو الآخر مصرعه في حادثة مشابهة إثر تحطم طائرته الصغيرة في أغسطس/آب من العام ذاته. لجأت أجهزة المخابرات الأمريكية لذلك بعد ما صعب عليها التفاوض مع كلا الرجلين، ولم يكن أمامها خيارٌ سوى إنهاء حياة الرجلين واستبدالهما بآخرين تبدأ الولايات المتحدة التفاوض معهما من جديد.
يقول جون بركنز:
صدّام حسين ينقذ فنزويلا
في ديسمبر/كانون الأول 1922م حدث اندفاع فجائي ضخم للبترول من باطن الأرض حمل بُشرى الخير للشعب الفنزويلي الفقير، وتدفقت كمية من البترول على مدار ثلاثة أيام قُدرت بـ 100 ألف برميل لليوم الواحد، جعلت من فنزويلا البلد الغارقة في مستنقع الفقر واحدة من أكثر دول أمريكا اللاتينة ثراءً، واحتلّت المرتبة الرابعة من بين أكثر الدول المصدرة للنفط عام 2002م .
أثناء الحظر الذي فرضته مجموعة الأوبك عام 1973م على الولايات المتحدة الأمريكية وصلت أسعار البترول إلى معدلات خيالية تضاعفت خلالها ميزانية فنزويلا أربعة أمثال ما كانت عليه قبل هذا الحظر؛ الأمر الذي جعل من فنزيلا أرضاً خصبة لعمل قراصنة الاقتصاد والرغبة في السيطرة عليها في ظل الكربروقراطية وتدوير المال الأمريكي بداخلها. غمرت البنوك الدولية فنزويلا بالقروض بهدف تحسين البنية التحتية وبناء أعلى ناطحات سحاب في القارة وفتح القراصنة أحد أكبر الأسواق أمام الشركات الأمريكية الكبرى لتتسابق فيما بينها على المشاريع الأكثر نفعاً. ومع انهيار أسعار البترول غرقت فنزويلا في بحر ديونها ولم تستطع الوفاء وباتت الفرصة مثالية لانتزاع أسنان الفرخ الفنزويلى الصغير. وفرض صندوق النقد الدولي شروطاً صارمة على كاراكاس للخضوع والانصياع لما يمليه أصحاب الشركات والديون.
الانفجار الثانى حين بات المسرح الفنزويلي ملائماً لانتخاب الرئيس شافيز. ومع تزايد معدلات الفقر وكأي بلد يعتمد اقتصاده في الأساس على البترول سرعان ما تغيّرت الأمور بشكل جذري ولم تستطع فنزويلا الوفاء بديونها تبدد سراب البترول كطوق نجاة للأزمة الاقتصادية التي تمر بها البلاد.
مع قدوم الرئيس شافيز وتصاعُد السخط الشعبى في فنزويلا، قرر وقف نزيف الشعب الفنزويلي و تحدى الإمبراطورية الإقتصادية. ولم يكن أمام إدارة واشنطن برئاسة جورح بوش سوى خيار التخلص من شافيز بعد فشل قراصنة الاقتصاد مع إدارته للبلاد. في اللحظة التى بدت فيها الأمور في غاية التعقيد بين كراكاس وواشنطن، وقعت أحداث 11سبتمبر/أيلول وانصرف تركيز الرئيس الأمريكى ومستشاروه لحشد المجتمع الدولي لمحاربة الإرهاب في أفغانستان وغزو العراق لإرغام الرئيس الراحل صدّام حسين بعد فشل القراصنة معه هو الآخر. وانصرفت الأنظار قليلاً عن فنزويلا ورأت الإدارة الأمريكية أن يكون الحل الأفضل من داخل فنزويلا نفسها مستحضرةً ما حدث مع رئيس الوزراء الإيرانى د. محمد مصدّق 1953م.
امتلأت الشوارع في فنزويلا بأعداد من المتظاهرين قُدّرت بمئات الآلاف وأعلن أفراد من الشعب إضرابهم التام عن العمل لإزاحة هوجو شافيز من رأس السلطة. وبالفعل هدد الإضراب الذي شارك فيه ثلاثون ألفاً من عُمال شركة البترول الحكومية وعمّت الفوضى البلاد وأُطيح بالرئيس شافيز بالفعل من سُدة الحُكم.
وبينما كانت تحتفل إدارة بوش بالإطاحة بشافيز انفضّ السامر فجأة وحدث ما لم يكن فى حُسبان السادة في واشنطن؛ إذ استطاع شافيز الإفلات من مكيدة الإنقلاب عليه بفضل احتفاظه بالجيش إلى جانبه، ونحّت الشركة الوطنية للبترول آلاف العمال المضربين عن العمل، واستطاعت الوقوف على أقدامها وأحكم شافيز قبضته على كراكاس وأقر المسئولون في إدارة بوش بالفشل في هذا الملف. بدا الفضل في هذه النهاية للرئيس العراقي الراحل الذي صرف إليه أعين السادة في واشنطن التي لم تستطع أن تحارب على ثلاث جبهات في آنٍ واحد. ونجا من براثنهم هوجو شافيز ليقر لنا حقيقة أن السياسة الأمريكية لم تتغير خلال الخمسين سنة المُقضية؛ النتائج وحدها تختلف.