أصداء التيه والإيمان في سيرة «نجيب محفوظ»
في «معجم المعاني الجامع» تأتي كلمة «أصداء» كاسم جمع، والأصداء في أحد معانيها هي رجع الصوت حين يرده جسم عاكس كالجبل أو المغارة، أو بهو قصر واسع الأرجاء. لم يرغب «نجيب محفوظ» في كتابة سيرته، فنأى عن تمثيل دور البطولة، أو إغراقنا في تفاصيل طفولته وريعان شبابه وكيف تفادى الحوادث الجسام وكيف استقبل لحظات الظفر الكبرى.كان أديبًا متمكنًا يستطيع كتابة مجلد عن سيرته، مرضٍ لجميع القراء والنقاد ويحدث ضجة إعلامية في الصحف والمجلات. ولكن اهتم محفوظ بأصداء حياته، فأصداء الحياة تمنحنا المعنى الذي هو رجع الحياة حين ينتهي الحدث، المعنى الذي يظل الإنسان يعدو ليصل إليه وقد لا يصل بعد شقاء، أما الحياة ذاتها فهي المتن المليء بالأحداث، وفي الأحداث تفاصيل تحول بيننا وبين المعاني. في هذا المقال سنتحدث عن كتاب محفوظ «أصداء السيرة الذاتية»، وهو كتاب يحتوي على مجموعة من القصص القصيرة جدًا، التي يتراوح حجمها بين سطر وصفحة، هذه القصص القصيرة تدخلنا لعقل وقلب نجيب محفوظ، ما وصل إليه عجوز هرم في رحلة ثقلت بالهموم والآمال الضائعة وتساؤلات الوجود.
دعاء ورثاء: في حب الثورة وكره الموت
يستهل محفوظ بقصة الطفل الذي أحب الثورة، وللطفل أسبابه البسيطة التي يحب من أجلها الأشياء، فقد حصل على أجازة من الدراسة بسبب الثورة، على الرغم من بساطة السبب، ولكنها تعبر عن ما يكنه محفوظ لثورة 1919، الحدث الذي أثر عليه في طفولته وفي ثقافته وأدبه بشكل عام، فهو يرغب في أن تستمر الثورة للأبد. هذه هي التيمة التي أتبعها محفوظ في «أصداء السيرة الذاتية»، فهو يعبر عن مكنون قلبه على صورة أمنية طفل، أو ضجر عجوز، أو طرب محب.. إلخ.لذلك كانت الثورة هي الرجاء الأول الذي دعا له وأول ما أثر عليه، لذلك استهل به الأصداء. وقد ظهر تأثره بالثورة في أدبه بشكل عام، وخصوصًا في المرحلة الأولى والثانية من أوجه أدبه المتعاقبة، فالوجه الأول كان في ثلاثيته الفرعونية (عبث الأقدار، رادوبيس، كفاح طيبة)، وأظهر نجيب حبه لتاريخ مصر الممتد ونضال شعبها من أجل الحصول على الحرية والاستقلالية، ثم في الوجه الثاني لأدبه الذي ركز على هزيمة الثورة القاسية، وآثارها الواضحة على الطبقة الوسطى المصرية التي تعرضت لهزة ثقافية واقتصادية وأخلاقية وقد عبر عن ذلك بوضوح في روايات (القاهرة الجديدة، وزقاق المدق، وخان الخليلي وبداية ونهاية)، ثم أنهى هذه المرحلة بهمومها في ثلاثيته الشهيرة «بين القصرين، قصر الشوق، السكرية» لتبدأ مرحلة ووجه جديد من أدب محفوظ محمل بخيبات أمل جديدة في سلطة يوليو 52.
ويعقب الدعاء رثاء، فكان الموت هو الصدى الثاني في حياة محفوظ، وهو الزائر غير المرغوب فيه دائما، الذي يراه الجميع بعيدا، ولكن عندما يدرك أحبتهم يشعرون بضعفهم أمامه، عندها يعلم الإنسان كم أن الموت عملاق يحل في أي زمان وأي مكان، كما لا يجب الغفلة عن أن محفوظ كتب الأصداء وهو في مرحلة انتظار الموت، حيث لا مستقبل سواه، فكأن محفوظ يرثي ذاته.ثم ينهي محفوظ قصته عن ذكرى الموت بذات الضفيرة الطويلة والأحضان المتبادلة بينهما، وكأنه يريد القول أن الوحدة تتركنا فريسة للموت، وما يخفف عنا هو الشعور بالقرب والمشاركة والحنان، ثم يعقبها بمجموعة قصص يعبر فيها عن طيب الحنان، فالإنسان مع الكبر سيقع في بحر النسيان ولكنه لن ينسى النسمات الطيبة والعاطفة المتوهجة والحنين الأصيل، حتى أنه عبر عن امتنانه لمرضه في الصغر والذي جعل أسرته تصب عليه من حنانها فيقول: «هيهات أن يفوز مرض بجميل الذكر مثل مرضي».
الشيخ عبد ربه التائه:
وللشيخ «عبد ربه التائه» حظوة عند مريدي محفوظ، فحين تدخل لعالمه ستجد مواطن العشق في قلبك، حب الدنيا والزهد في أوهامها، فالأصداء تعطينا وجهًا لم نره للزهد، زهد التكلف والضجر والبحث عن المتاعب، والشيخ عبد ربه التائه يظهر في منتصف الأصداء، وهو مزيج عجيب من التقوى والإيمان والسكر وحب النساء، فهو يملك كل العقل ومنتهى الجنان.يجلس الشيخ عبد ربه التائه في كهفه هو والمريدون ليعبدوا الله ويشكروه على نعمه. يتحدث عن العاشقين بإجلال، فعبد ربه التائه يرى الصالحين هم الذين يسرفون حياتهم في العشق والوجد وحب النساء. ورغم تصوفه ولكنه يشرب ويسكر وينتظر صاحبة الكهف، وهي هدية لأكثرهم صبرًا وثباتًا على الحب. والصبر والثبات من شيم المخلصين في العبادة، والعابدون المخلصون هم الثابتون على الحب.أما المرأة فهي مركز كل حديث في الأصداء، فالحظي بقلبها أسمى الأهداف، والتجمع على ذكرها والغزل في جمالها من الأفعال الإيمانية، وكم وصف عبد ربه التائه العاشق بالعابد المخلص. والمرأة عند عبد ربه هي رمز البراءة والجمال والإيمان، استخدم محفوظ من حيث اللغة ما يعبر عن الغزل في الطبقات الشعبية، ويتحدث عن المرأة الحلوة التي تجذب الناظرين، وهي ليست امرأة ضعيفة مكسورة بل امرأة قوية تتحكم في الأفئدة.ومن اسم عبد ربه التائه، نرى الجمع العجيب بين العبادة والتيه، هذا المزيج الذي نراه كثيرا في أدب محفوظ الوجودي وفي أبطال رواياته، يتجلى في الشيخ عبد ربه، فهو يبحث عن الله في كل زاوية وركن، يريد الشفاء من التيه، لذلك هو يعبده عن إيمان، وتائه في البحث عنه والسؤال. ولذلك لا يتحلى الشيخ عبد ربه بالرؤية الدارجة للدين، بل يضع رؤيته الخاصة، الرؤية التي يتمنى الله عليها حيث يكرم المحبين أكثر من غيرهم ويظهر هذا جليًا في صدى «الاختيار» حين تختار امرأة طريقًا مغايرًا عن طريق العفة، وربطت بين طريق الحب غير العفيف وبين مشيئة الرحمن.
قطار المفاجآت
هل ركب محفوظ قطار المفاجآت حقا؟هناك وجهان لمحفوظ، وجه راكب القطار معلوم الوجهة ويتمثل في حياته العادية، حيث اختار محفوظ حياة قليلة التنقل، لم يسافر سوى ثلاث دول لوقت قصير، لم يترك مصر حتى لحصوله على جائزة نوبل حيث أوفد ابنتيه، أما في حياته الاجتماعية فتزوج السيدة عطية الله إبراهيم، زواجًا لم يحمل الكثير من أصداء الحب، أميل للزواج التقليدي، حيث اختار محفوظ تأسيس أسرة بسيطة سعيدة، وعمل موظفًا في وزارة الأوقاف ومؤسسة القرض الحسن.أما في أدبه فقد اختار محفوظ قطار المجهول، فلم يثبت محفوظ على شكل من الأدب يضمن به تمكن الاعتياد. فانتقل بين مدارس الأدب المختلفة، واختلفت رواياته من حيث الحجم والفلسفة، مع أدبه نرى مراحل تطور فكره، نرى تأثره بالفكر اليساري عقب «الثورة البلشفية» في رواياته الأولى وتركيزه على الرواية الاجتماعية ونقده للسلطة والفقر الذي يتعرض له أبناء الطبقة والوسطى والقادمين من الأرياف، ثم رأينا انتقاله للواقعية الرمزية، حيث يمزج بين الأدب الأجتماعي الواقعي، مع إسقاطات فلسفية ذات طابع أنطولوجي، وفي هذه المرحلة كان يعاني محفوظ من دوامة التساؤلات بعد انحدار مستوى الحرية وعدم تحقيق العدالة الاجتماعية بعد 52، فتتكرر تيمة البطل غير المؤمن الذي تصيبه العبثية أو الاكتئاب المزمن والقلق الوجودي بعد سيطرة الضباط على الحكم كما في روايات (الشحاذ وثرثرة فوق النيل والكرنك).ثم ينتهي أدبه بالمرحلة الأخيرة حيث ينتقل للأدب الفنتازي، مستلهمًا قصص التراث كما في (ليالي ألف ليلة، ورحلة ابن فطومة، والحرافيش، وأصداء السيرة الذاتية»، وفي هذه المرحلة ظهر رضا كبير عند محفوظ حيث كان أميل للإجابة أكثر من السؤال، وإجاباته كانت عن وجوب تحقيق العدل والحرية وأن لا بديل لأحدهما عن الآخر، أما الدين فهو ضروري للإنسان وجوهر الدين هو أن كل ما يسعد الإنسان ويلبي رغباته حلال، وكل ما يدخل الكدر على قلبه حرام، والحب والمشاركة أساس الحياة والسعادة. وخير ختام هذا الصدى الذي يعبر عن حياة الإنسان منذ ميلاده لوفاته.