زلزال في البيت الأبيض: إقالة بانون وإعادة ضبط البوصلة
برقبته القصيرة ووجه الممتلئ وشعره الفضي، دخل ستيف بانون البيت الأبيض برفقة دونالد ترامب، بعدما تولى إدارة حملته الانتخابية. الكثير من الانتقادات وُجهت لترامب، كون ستيف بانون أكبر المخططين الاستراتيجيين وأحد أعضاء مجلس الأمن القومي، المنوط بتقديم الاستشارات للرئيس ودعمه في اتخاذ القرار. الكثير من النقاد رأوا في بانون «جوزيف جوبلز» جديد – وزير دعاية هتلر النازي -.
فالرجل المنحدر من عائلة ديمقراطية كاثوليكية، بدا للكثيرين منتميًا لمعسكر اليمين المتطرف، يعادي السامية ويحتقر المهاجرين، أحد أبرز دعاة «اليمين البديل»، وهي حركة تؤمن بتفوق الجنس الأبيض، وتزدري الطبقة الحاكمة السابقة في البلاد.
وللرجل فضل كبير في فوز ترامب، خلافًا لكونه رئيسًا لحملته الانتخابية،خاض حربًا ضروسًا مع الطبقة الحاكمة في البلاد من خلال الموقع الإلكتروني «بريتبارت» الذي أداره منذ العام 2012، كذلك انضم لحزب الشاي في حربه على الطبقة السياسية الأمريكية، وكان بانون أيضًا وراء إنشاء معهد محاسبة الحكومة الذي نشر كتابًا يحمل عنوان «ثروة كلينتون»، الذي كشف جانبًا من ثروة المرشحة الديمقراطية (الخاسرة) هيلاري كلينتون.
لكن ومع هذا، ثمة زلزال ضرب البيت الأبيض، أمس الأربعاء، بإصدار الرئيس ترامب مذكرةً يقيل خلالها بانون من مجلس الأمن القومي، وهو هيئة استراتيجية في البيت الأبيض مكلفة بجمع المعلومات المتصلة بالأمن القومي وتقديم مشورة للرئيس حول قضايا الأمن والسياسة الخارجية.
خطة سكوكروفت
فبراير/ شباط الماضي، وبعد أقل من شهر على تولية دونالد ترامب مقاليد البيت الأبيض، ثمة فوضى عمّت البيت الأبيض من جراء إقالة مايكل فلين أو دفعه للاستقالة كما جاء في بيان البيت الأبيض، بعد تداول تقارير استخباراتية حول اتصالات جمعته بالسفير الروسي في واشنطن. وكان ذلك بمثابة أكبر حدث فوضوي في تاريخ الإدارات الأمريكية، أن يستقيل مستشار الأمن القومي للرئيس بعد أقل من أربع أسابيع!
ولأن فلين لم يتصرف بحكمة إزاء الأمر، وأخفى معلومات عن نائب الرئيس مايك بنس، ما دفع الإدارة الأمريكية للاصطفاف بجانبه ونفي أية اتصالات تمت بينه وبين السفير الروسي، اضطُر للتنحي لما أخذت التفاصيل في التكشّف، ليحفظ للإدارة ما بقي لها من ماء الوجه. ويخضع فلين للتحقيق اليوم أمام مكتب التحقيقات الفيدرالي FBI ولجنتي الاستخبارات في الكونجرس، وكما تناولت الصحف العالمية قبل أيام، نقلًا عن «وول ستريت جورنال»، طالب فلين بمنحه حصانة للإدلاء بشهادته في التحقيقات، ما اعتُبر نذير شؤم على الإدارة المتعثرة.
خلف مايكل فلين في رئاسة مجلس الأمن القومي الأمريكي، الجنرال هربرت ريموند ماكماستر، وهو «المحارب» كما يُلقب، والمختار ضمن أكثر الشخصيات تأثيرًا في العالم لعام 2014 عن مجلة التايم، كما شارك في خدمة الجيش الأمريكي في كل من العراق وأفغانستان.
الأسبوع الماضي، خرج ماكماستر مسرعًا من البيت الأبيض، ليحضر اجتماع رتبه مع أحد أسلافه القدامي، برنت سكوكروفت، 92 عامًا. وكان سكوكروفت في منصبه، مستشارًا للأمن القومي مع اثنين من الرؤساء الجمهوريين؛ جيرالد فورد وجورج واشنطن بوش. ويبدو المحارب عازمًا بجدية على الخروج جذريًا عن النهج الذي اتخذه سلفه فلين، وكبير المخططين ستيف بانون.
جاء ماكماستر في ظرف استثنائي، بدا فيه دونالد ترامب متوترًا، أولًا من جراء فضيحة فلين التي ما زالت تبعاتها مجهولة، وثانيًا لأنه جاء بعد رفض عدد من العسكريين تولي المنصب وهو ما جعل الصحافة الأمريكية تتهم ترامب بالعجز عن إدارة البيت الأبيض. هذه الظروف مكنت ماكماستر من فرضه لشخصيته، وتأمينه لصلاحياته، ومن ثم أعاد لمجلس الأمن القومي كلًا من الجنرال جوزيف دونفرد، والسيناتور دان كوتس، مدير الاستخبارات الوطنية، وهو أحد المعادين لروسيا.
ما يفعله ماكماستر يعيد إلى الأذهان «نموذج سكوكروفت»، والذي طبقًا له يتجنب مستشار الأمن القومي الدفع بأجندته السياسية، ويتركز دوره كونه حكمًا بين الجهات المنوطة بتقديم المشورة للرئيس فيما يخص صناعة السياسات، كموظفو مجلس الأمن القومي، ووكالات الأمن والسياسة الخارجية.
وجدير بالذكر، فيما يخص سكوكروفت، أنه وعلى الرغم من كونه خدم مع رئيسين جمهوريين، إلا أنه كان ضمن عدد من الجمهوريين الذين أعلنوا دعمهم لهيلاري، وقال إبان الانتخابات: «يتطلب تولي الرئاسة الحكمة والمعرفة اللازمة لاتخاذ إجراءات صعبة في ظل الضغوط.. أعتقد أن هيلاري تتحلى بالحكمة والخبرة اللازمين لقيادة بلادنا في هذا الوقت العصيب»، وها هو الآن يلقى مستشاره للأمن القومي، الراغب في استشارته وإحياء نهجه في المنصب.
بانون: خطوة للوراء
مايكل فلين في ثلاثة أسابيع قضاها مستشارًا للأمن القومي شكّل طبقة من مرؤوسيه، اختارهم على يده، للتعبير عن سياساته، وتوجيه البيت الأبيض نحوها، في حين تقلص دور مجلس الأمن القومي، حاول الظهور لوسائل الإعلام بما هو مخالفٌ للعُرف فالأفضل لمستشار الأمن القومي أن يهمس في أذن الرئيس ولا يهمس أمام كاميرات الإعلام كثيرًا.
أما ستيف بانون الذي أنشئ لأجله منصب كبير المخططين الاستراتيجيين في البيت الأبيض، وعين مستشارًا للرئيس في مجلس الأمن القومي بدايةً من 28 يناير/ كانون الثاني لـ 5 أبريل/ نيسان الحالي. قبل أن ينحيه ترامب ويمنعه من حضور اجتمعات لجنة مديري الأمن القومي، في خطة يفترض أن تضبط بوصلة الوكالة، لتعمل بشكل احترافي غير مؤدلج. الإصلاح كذلك عهد إلى تقليص الدور الذي الخاص بـ «توماس بوسرت» مستشار الأمن الداخلي، بعد أن جعله ترامب مساويًا في الدرجة لمايكل فلين، مسشتار الأمن القومي. وكان الرئيس السابق، قد دمج موظفي قطاعي الأمن الداخلي والأمن القومي فور توليه رئاسة البيت الأبيض، وكان قطاع الأمن الداخلي قد تأسس بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر/أيلول 2001، بأمر من الرئيس بوش الابن. وبهذا أحكم ماكماستر قبضته على كل من مجلس الأمن القومي وكذلك الأمن الداخلي.
وتجدر الإشارة في هذا السياق إلى أن القرار النهائي فيما يخص الأمن القومي الأمريكي بعد كل هذا ليس بيد ماكماستر وحده، إذ لا يزال جزء منه بيد بانون كونه كبير المخططين الاستراتيجيين في البيت الأبيض، وهو المنصب المصنوع له خصيصًا، كما أن كوشنر، صهر ترامب، يملك نفوذًا كبيرًا في هذا المجال.
وتثار في هذا الصدد العديد من التكهنات، يقول مقربون من البيت الأبيض أن جاريد كوشنر، أجرى استطلاعات للرأي بين مستشاري الرئيس حول الأداء الحكومي وما يحدث داخل البيت الأبيض، وتبين أن غير واحد يشتكي سياسة بانون في الإدارة، وكان ثمة صراع بين كوشنر وبانون، ما أدى لتخفيف مهام الثاني. الكثيرين كذلك رأوا أن ثمة دور لإيفانكا ابنة الرئيس لاسيما بعد أن تبوأت مكتبًا استشاريًا في الجناح الغربي.
صراع آخر كذلك افتعله الشعبوي بانون مع رئيس مجلس النواب الأمريكي، بول رايان، على خلفية فشل الأخير في تمرير قانون الرعاية الصحية البديل لأوباماكير، ما تسبب في الكثير من الحرج لترامب، وكان الصراع بينهما، والذي راح ضحيته ترامب، صراعًا بين أجنحة الحزب الجمهوري.
وعلى أيٍّ؛ كما هو الحال يحاول البيت الأبيض لملمة الجراح، لكن ما يشهده من فوضى عصية تمامًا على الفهم، وغير قابلة للتداوي في المستقبل القريب. وإن كان ثمة سبب منطقي لما يحد اليوم فهو أن ترامب جمع الفرقاء في إدارة واحدة، وذلك لأنه بدرجة كبيرة جديد على عالم السياسية، لا يحمل أيديولوجيا حدّية يمكنه الذود عنها، المصلحة فقط هي ما تحركه.