كانت النار هي الحل الوحيد الذي استطاع أن يفكر فيه. حوصر يوليوس قيصر حليف كليوباترا من قبل قوات بطليموس الثالث عشر، ولم يكن هناك بد من شق الطريق بالنار. أشعلت قوات يوليوس قيصر النار في سفن بطليموس وفُك الحصار لكن بتكلفة رهيبة، أحرقت مكتبة الأسكندرية وما تحويه من مخطوطات شديدة الأهمية للعالم المستنير آنذاك.

سواء صدق بلوتارخ وسترابو في روايتهما الدرامية عن حريق مكتبة الأسكندرية الكبرى القديمة أم لا، فإن الحقيقة التي لا جدال فيها هى أن مئات المخطوطات المحورية قد تحولت إلى رماد في آتون الحريق. من بين هذه المخطوطات، مخطوطة الفيلسوف والفلكي الكبير «أريستارخوس الساموسي» التي يشرح فيها وجهة نظره عن فرضية مركزية الشمس، والتي وضع فيها الشمس في المركز لتدور الكواكب المكتشفة آنذاك حولها.

احترقت المخطوطة ودفنت الفكرة في الحطام إلى أن بث رجل دين وفلكي بولندي الحياة فيها مرة أخرى. في مثل هذا اليوم، 26 أبريل/ نيسان في العام 1514 ميلادية، ألقى كوبرنيكوس نظرته الأولى على كوكب زحل متدبرًا في مداره. كان زحل هو الجرم السماوي الأبعد عن الشمس بالنسبة لكوبرنيكوس الذي وضع النظام الشمسي ذاته في مركز الكون. كانت تلك النظرة في الواقع هي نظرة على البوابة الخارجية للكون بالنسبة لكوبرنيكوس.


إلى شمس إيطاليا

ولد «نيكولاوس كوبرنيق» في مدينة تورون بمملكة بولندا عام 1473. سمي نيكولاوس على اسم والده تاجر النحاس الميسور الذي سيلقى منيته بعد بلوغ نيكولاوس الصغير العاشرة بقليل. منذ هذا الوقت، سيهتم خاله لوكاس فاتزينروده -الذي سيصبح أسقف منطقة فارميا بعد وقت قصير- بتعليمه وتأمين معيشته معدًا إياه ليصبح قسًا فيما بعد، وهو ما سيصبحه نيكولاوس طيلة حياته بالفعل.

تعددت دراسات نيكولاوس التي دارت به في أنحاء إيطاليا دون أن ينهي فيها شهادة جامعية. درس كوبرنيكوس الفلك وعلم التنجيم في كراكاو البولندية، ثم في جامعة بولونيا الإيطالية، حيث التقى الأستاذ – دومينيكو ماريا دي نوفارا الذي سيكون نافذة كوبرنيكوس الأولى على عالم بطليموس ونقده- صاحب التأثير الأبقى في نفس كوبرنيكوس، ثم بدأت مرحلة دراسة الطب والتشريح في جامعة بادوا، وبجانبها تلقى بعض التدريب في مهارات الرسم. بعد كل هذه التجارب الدراسية، تلقى كوبرنيكوس في النهاية شهادة الدكتوراة في القانون الكنسي من جامعة فيرارا التي لم يدرس بها قط، وانضم إلى الكنيسة لبقية حياته.

بالتزامن مع الدكتوراه، كانت أفكار نيكولاوس قد تبلورت إلى حد كبير في ذهنه وبقي عليه إتمام إثباتاتها الرياضية والبيانية. اعتمد نيكولاوس في أبحاثه لبقية حياته على عدة أفكار عامة وأساسية تؤكد عدم وجود مركز واحد لكل مدارات الأجرام السماوية، وأن الأرض لست مركز أي شيء عدا القمر، وأن الشمس هي مركز «الكون»، مع ملاحظات مهمة على أن الحركة الظاهرية للشمس تعود لحركة الأرض لا العكس. من هذه الأساسيات بدأت رحلة صناعة علم الفلك الحديث.


ثورة على استحياء

على الرغم من عمق ما أقدم كوبرنيكوس على نشره، لم يكن نيكولاس عقلية ثائرة في العموم. لم يتخل كوبرنيكوس عن فكرة المدارات كاملة الاستدارة. رغم نجاح النظرية في وضع تفسير أكثر عملية لحركات الكواكب سواء «التراجعية – Retrograde» أو «المتقدمة – Prograde»، إلا أن تنبؤاتها بأماكن الكواكب لم تكن دقيقة بسبب تمسك كوبرنيكوس بالمدارات مثالية الاستدارة على النقيض من حركة الكواكب الفعلية في مدارات بيضاوية.

لهذا، لم يتخلص نموذج كوبرنيكوس تمامًا من «الأفلاك الدوارة – Epicycles» (الدوائر التي تدور مراكزها على محيط دوائر أخرى) التي سخرها بطليموس لتفسير كل ما يمكن أن يدور في الكون. لم يستمر استخدام الأفلاك الدوارة لشرح حركة القمر فقط، بل لتوقع أماكن الكواكب في مداراتها أيضًا.

في محاولة ذكية أخرى للحفاظ على استدارة المدارات والوصول لتوافق أكبر بين المدارات المتنبأ بها والمدارات الملاحظة، وضع كوبرنيكوس الشمس في موقع قريب من المركز، وليس المركز نفسه.

إضافة إلى ذلك لم يكن كوبرنيكوس يشعر بثورة تضطرم بداخله. عاش كوبرنيكوس حياته في الكنيسة منذ أن أدخله خاله في خدمتها، وبالتالي فهو لم يكن يهدف إلى زعزعة الإيمان بأي شكل. لقد أهدى كوبرنيكوس كتابه «عن المدارات السماوية» إلى البابا شخصيًا -الذي كان الداعم المادي الفعلي لكوبرنيكوس وأعماله طوال حياته- بعد تردد طويل بشأن نشره.

علينا الإشارة هنا إلى أن التنويه الشهير الذي صاحب الكتاب بخصوص عدم ضرورة أن تكون النظرية حقيقية، وأنها فقط للتسهيل على الفلكيين، والذي- أي التنويه- يعتقد أنه وضع لاتقاء غضب الكنيسة، لم يكتبه كوبرنيكوس بنفسه، وسنعود إلى تفصيل هذه النقطة بعد قليل.

لم تكن حسابات كوبرنيكوس تعطي نتائج حاسمة أو شديدة الدقة. في الواقع، لم تكن نتائج نظامه بالضرورة أفضل من نظام بطليموس مركزي الأرض بسبب قابلية الأخير للتعديل المستمر حسب البيانات الملاحظة. ما مثّل فارقًا جوهريًا لصالح النظام الكوبرنيقي هو إمكانية استنتاج معلومات أخرى حاسمة منه، أهمها قياس المسافة بين الكواكب وبعضها وحساب زمن مدار كل منها[1].

لهذه الأسباب يصف أليكس فيليبينكو، أستاذ الفلك بجامعة كاليفورنيا بيركيلي، موقف كوبرنيكوس بأنه: «موقف فلسفي إلى حد كبير».


التلميذ ينشر قبل أستاذه

عُرفت أفكار كوبرنيكوس قبل زمن طويل من نشرها رسميًا في «عن المدارات السماوية». لم يمثل تداول هذه الأفكار خطورة حقيقية على حياة كوبرنيكوس أو حريته في ممارسة أعماله. كان هذا هو السبب في زيارة الأستاذ الشاب جورج «ريتيكوس – Rheticus» له في عام 1539. رغم كاثوليكية كوبرنيكوس وبروتستانتية ريتيكوس، فإن الأخير كان مأخوذًا تمامًا بأفكار كوبرنيكوس، مما جعله عازمًا كل العزم على دراستها ومناقشتها بشكل أعمق مع الرجل الذي اعتبره أعظم الأساتذة على الإطلاق.

استقبل كوبرنيكوس حماسة الشاب بترحاب كبير ومنحه نسخة من كتابه قبل أن ينشر بزمن. درس ريتيكوس النص مسلوب اللب وبتركيز عميق وفهم حقيقي. أدى ذلك لتكمنه من كتابة «ملخص» يشرح فيه أفكار كوبرنيكوس الأساسية ونظامه مركزي الشمس بدقة. نشر هذا النص عام 1540 تحت اسم «Narratio Prima» قبل أن تطبع أول نسخة من كتاب كوبرنيكوس نفسه بثلاث سنوات.

الصفحة الأولى من ناراتشيو بريما كما طبعت في دانزيج عام 1540

تظل البريما هي المقدمة الرسمية لمعظم الطبعات التي صدر فيها «عن المدارات السماوية» ولكن مع مشكلة محورية. كان تفاني كوبرنيكوس الديني واضحًا إلا أن تفاني الشباب كان أكثر حيوية في ملخصه. بينما تحاشى كوبرنيكوس الخوض في علم التنجيم، أدخل ريتيكوس الكثير من الأحدث التاريخية وربطها بحركة الكواكب مستنتجًا الكثير من الإيضاحات التي يمكن اعتبارها الآن مجرد خرافات، لكنها مثلت آنذاك إرادة الرب المتمثلة في مجريات الطبيعة.

نشرت البريما في طبعة ثانية بعد مرور عام واستقبلها العالم الأكاديمي بلطف، حيث لم يبدُ أنها تمثل أي خطر على العقيدة في هذه الصورة المختصرة. هنا قرر كوبرنيكوس المضي قدمًا في نشر كتابه في صورة كاملة وسط ترقب وحذر شديد، سواء منه أو من المحيطين والمشرفين على الطباعة. لقد احتوى الكتاب في صورته المتكاملة على تحديات حقيقية لم يكن يشار إليها في النقاشات العامة أو التعليقات الحوارية التي كانت قد نُشرت وقتها[2].


حذر أم جُبن

فلك, كوبرنيكوس, مركزية الشمس, مركزية الأرض
فلك, كوبرنيكوس, مركزية الشمس, مركزية الأرض

يتضح جانب مهم من جوانب شخصية نيكولاوس كوبرنيقوس في إيمانه بحرية التفكير العلمي (ولو بشكل محافظ بالمقارنة بجاليليو) في خلافه مع أوسياندر خلال عملية طبع الكتاب. كانت طباعة الكتاب مهمة ستقع منطقيًا على عاتق ريتيكوس الذي اضطر آسفًا للمغادرة إلى ليبزج. بدلًا من ريتيكوس، تولى صديقه، أندرياس «أوسياندر – Osiander»، مهمة الإشراف على الإنتاج النهائي للكتاب.

على الرغم من اعتراض كوبرنيكوس على موقف أوسياندر، نشر الأخير تصديرًا للكتاب يؤكد فيه أن النظام مركزي الشمس لا يتعدى كونه أداة لحسابات فلكية أكثر دقة، وأن النظرية لا تتعدى كونها مجرد فرضية مفيدة رغم عدم مقابلتها للواقع الفعلي (الإنجليزي الذي ينص على مركزية الأرض).

استغل أوسياندر فكرة «التصور» في تصدره للكتاب للتشديد على قضية أن البشر الفانين المحدودين لا يستطيعون بأي حال فهم الكون، وأن أقصى ما يستطيعون فعله هو التشبيه والمقاربة والتخيل للوصول إلى بيانات وأرقام مفيدة عمليًا ولا تعكس الواقع بالضرورة. وهكذا وصل إلينا من تصدير أوسياندر الانطباع «الافتراضي» بخصوص نظرية كوبرنيكوس، وهو انطباع لم يكن كوبرنيكوس يدعمه البتة.

اعترض كل من عاصر تبلور أفكار كوبرنيكوس على أسلوب هذا التصدير ومراوغته التي تناقض صدق كوبرنيكوس مع نفسه ومع إيمانه الذاتي. استودع كوبرنيكوس الكتاب في الأصل «تيدمان غيس – Tiedemann Geise» الذي أرسله إلى ريتيكوس الذي قام بدوره -بسبب السفر كما أسلفنا- بإسناد مهمة الإشراف على الطباعة إلى أوسياندر. أدى تصرف وتصدير أوسياندر إلى إشعال موجة غضب عارمة لدى غيس الذي أسند هذا الفعل لضيق أفق وتقليدية أوسياندر وعدم تقبله للعلم الجديد[3]. بهذا الشكل عاش كوبرنيكوس على حد سكين يقسم علم الفلك إلى قسمين، الفلك القديم والفلك الجديد، ويقسم أيضًا التاريخ إلى حقبتين:

حقبة سيطرة النصوص الدينية، وحقبة التحرر والالتزام بالملاحظة والتجريب. قد تصدق أو تكذب قصة رؤية كوبرنيكوس للنسخة المطبوعة الأولى من كتابه وهو على فراش الموت قبل أن تقضي عليه الجلطة في مشهد شبيه بموت القديسين، لكن الحقيقة تقول إن كوبرنيكوس عاش حياة أبعد ما تكون عن الهرطقة، الهرطقة العلمية على الأقل.

المراجع
  1. THE COSMOS: Astronomy in the New Millennium – Jay M. Pasachoff and Alex Filippenko. Chapter 5
  2. The Astronomical Revolution – Alexandre Korye. Part 1,chapter 2
  3. The Astronomical Revolution – Alexandre Korye. Part 1,chapter 3