كل نهر وله نبع ومجرى وحياة يا صديقي! أرضنا ليست بعاقر، كل أرض، ولها ميلادها، كل فجر وله موعد ثائر.. أيّها العابرون على الأرض في صحوها.. لن تمروا.
الشاعر الفلسطيني «محمود درويش»

من ركام اللجوء يستنفر الشتات كما الداخل الفلسطيني في مارس/آذار بإحياء يوم الأرض، ورغم مرور 42 عامًا على هذه الذكرى، لم يمل الفلسطينيون من الاحتفال بأبرز أيامهم النضالية، وانعطافاتهم التاريخية في مسيرة البقاء.في مثل هذا اليوم، يحمل الفلسطينيون أعلامهم الوطنية ويزرعون شجرة الزيتون في الأراضي التي جرفتها يد الاحتلال، مرددين أشعار محمود درويش وسميح القاسم وتوفيق زياد.


المسيرة الكبرى: من «الجليل» كانت البداية

قبل نحو 42 عامًا، كانت أراضي منطقة الجليل المُصادَرة إيذانًا بإشعال إضراب عام في أراضي 48،ومن مدينة «سخنين» المحتلة انطلقت أحداث «يوم الأرض»، ومنها أيضًا جابت، الجمعة، 30 مارس/آذار 2018، مسيرات حاشدة شوارع المدينة بمشاركة المئات، حيث التحمت مع المسيرة المركزية في مدينة عرابة.

في يوم الأرض، عشرات الآلاف من الفلسطينيين شدوا الرحال إلى المسجد الأقصى، استجابةً لدعوات النفير العام التي أطلقتها الهيئات والفصائل الفلسطينية.

وتدفق آلاف الفلسطينيين قرب الحدود بين غزة وإسرائيل في مسيرة احتجاجية أطلق عليها «مسيرة العودة»، فيما نصبت الهيئة الوطنية العليا للمسيرة الكبرى -التي تضم حركة حماس والفصائل وممثلي اللاجئين- عشرات الخيام على بعد مئات الأمتار عن الحدود بين قطاع غزة وإسرائيل.وتوجه عشرات الآلاف من الفلسطينيين لأداء صلاة الجمعة في المسجد الأقصى استجابةً لدعوات النفير، ردًّا على «جماعات الهيكل» المزعوم اليهودية والتي طالبت بإخلاء المسجد لها لتقديم القرابين.وقبيل ساعات من خروج المسيرة الكبرى، قتل مزارع فلسطيني، فيما أصيب شخص آخر في محافظة خان يونس فجر ًا، بقصف مدفعي إسرائيلي.ومن جهتها، كانت القوة الغاشمة إجابة إسرائيل الوحيدة على تلك المظاهرات، حيث استخدمت طائرات بدون طيار لإسقاط الغاز المسيل للدموع على المتظاهرين، وألقت القوات الإسرائيلية الرصاص الحي على المتظاهرين، ما أسفر عن مقتل 12 فلسطينيًا، وإصابة 1200 جريح. وعلى الجانب الآخر من الحدود مع القطاع نشرت القوات الإسرائيلية ثلاثة آلاف جندي، وتمركز أكثر من 100 قناص على سواتر ترابية، ومددت أسلاكاً شائكة، وأُعلن أن المنطقة المتاخمة لقطاع غزة منطقة عسكرية مغلقة، في المقابل، تمكّن عشرات الشبان من اجتياز السياج رغم مواجهتهم الرصاص الكثيف.


فصل آخر من فصول النكبة

بدأت الأحداث يوم 29 مارس/ آذار 1976 بمظاهرة شعبية في دير حنا شمالي البلاد، وهي الأولى من نوعها لعرب 48 بعد انتهاء الحكم العسكري عقب حرب يونيو/حزيران 1967، رفضًا لسياسة التهويد ومصادرة الأراضي الفلسطينية.

شهد 30 مارس/آذار 1976 هبة جماهيرية واستنفارًا للشعب الفلسطيني داخل الخط الأخضر، مما نجم عنه مقتل ستة أشخاص، رحلوا دفاعًا عن الكرامة الفلسطينية وصون الأرض العربية.

ويشير باحثون إلى أن مصادرة الأراضي الفلسطينية بهدف التهويد بلغت ذروتها مطلع 1976، حيث تمت مصادرة أراضي «المل» التي تبلغ مساحتها 60 ألف دونم، بالإضافة إلى صدور وثيقة سرية «كيننغ» في الأول من مارس/آذار 1976، والتي تستهدف إفراغ الجليل من أهله الفلسطينيين والاستيلاء على أراضيهم وتهويدها.

و استولت إسرائيل على مدى العقود الثلاثة الممتدة من قيام الدولة العبرية عام 48 وحتى عام 1967 على مليون ونصف المليون فدان من الأراضي المملوكة لفلسطينيين داخل الخط الأخضر، أي حوالي ثُلث أراضي الدولة التي تعود ملكيتها إلى فلسطينيين، طُردوا من أراضيهم عام 1948. ولكن قانون المصادرة الأول تحت اسم «تطوير الجليل» صودرت بموجبه أراضٍ لعرب الداخل في المناطق الإسرائيلية، بالإضافة إلى أراضي اللاجئين في عرابة وسخنين ودير حنا وعرب السواعد وغيرها، كانت «القشة التي قصمت ظهر البعير».

ومن هنا، جاء قرار «لجنة الدفاع عن الأراضي العربية» بإعلان الإضراب الشامل، ردًا مباشرًا على سياسة الاستيطان الإسرائيلي.

وبدورها، عقدت الحكومة الإسرائيلية اجتماعًا دام أربع ساعات، تقرر فيه تعزيز قوات الشرطة في القرى والمدن العربية للرد على المظاهرات، والدفع بالدبابات والمجنزرات إلى المدن والقرى الفلسطينية، لكي تثبت للجماهير الساخطة من هم «أسياد الأرض».

وأسفرت المواجهات الأولى عن سقوط الشاب «رأفت الزهيري» قتيلًا، الأمر الذي استنفر هبة الجماهير في اليوم التالي داخل الخط الأخضر في الجليل والمثلث والنقب للدفاع عن الأرض الفلسطينية، مما نجم عنه مقتل ستة أشخاص أطلق عليهم الفلسطينيون اسم «شهداء الأرض».

ومنذ العام 1976 أصبح 30 مارس/آذار «يوم الأرض» يومًا وطنيًا في حياة الشعب الفلسطيني، وفي هذه المناسبة تتنوع الفعاليات بين محاضرات توعوية للتعريف بالذكرى والمناسبات الوطنية، ومعارض فنية وأمسيات شعرية وثقافية توثق التاريخ وتؤكد حق الشعب الفلسطيني في تقرير المصير بالحرية والاستقلال.


«يوم الأرض» في الذاكرة الفلسطينية

تبقى ذكرى يوم «الأرض» محفورة في ذاكرة الأمة الفلسطينية، ففي كل عام تتجدد ذكريات هذا اليوم بأحداثه وتفاصيله وشهدائه الذين سقطوا على أيدي المحتل الغاصب. تحكي عوائلهم قصص استشهادهم وتطالب في الوقت نفسه ببذل الجهد والخروج في مسيرات حاشدة كيلا يضيع حق الشهداء.إذ يحكي شقيق الشهيد «خضر خلايلة» الذي كان يبلغ من العمر حينها 27 عامًا، عن تفاصيل استشهاد أخيه، مشيرًا إلى أنهما ما إن سمعا صوت صراخ امرأة في الشارع، خرجا سويًا، فإذا بامرأة ملقاة على الأرض بعد أن تلقت رصاصة في بطنها. أراد خضر وأخوه مساعدتها لكن جنديين من جنود الاحتلال صوبا سلاحهما نحوهما وسقط خضر صريعًا بعد إصابته برصاصة في رأسه.وعقب انتشار خبر استشهادخضر خلايلة في مدينة سخنين، انطلق الشهيد «رجا أبو ريا» وبصحبته عدد من الشبان نحو موقع النصب التذكاري، لكنهم اشتبكوا حينها مع قوات الاحتلال وأصيب رجا أبو ريا في «وجنته اليسرى». كان من الممكن إسعافه، إلا أن جنود الاحتلال أعاقت الطريق أمامهم نحو الوصول للمستشفى.كما تروي والدة الشهيد «رأفت الزهيري»، طالب الهندسة المعمارية في رام الله، أن ابنها «خرج من بيته في مخيم نور شمس قرب طولكرم متوجهًا لبيت أقاربه دون أن يخبرها شيئًا، وتوجه بعدها لمدينة الطيبة للمشاركة في مظاهرة يوم الأرض، وخلال التحضيرات للمظاهرة، داهمت قوات كبيرة من الجنود القرية حينذاك وبدأوا بإطلاق الرصاص على الشبان لتندلع مواجهات مع الشبان المتجمهرين، وأصيب الزهيري برصاصة في رأسه أدت إلى استشهاده».وفي فيلم خاص قدمته الجمعية الداعمة للمساواة والشراكة بين المواطنين العرب الفلسطينيين واليهود في إسرائيل «سيكوي»، صدر في عشية الذكرى الـ42 ليوم الأرض، قامت فيه بتوثيق ثلاث قصص وروايات لعائلات عربية من المثلث والجليل والنقب، أثبتت فيها مدى محورية قضية الأرض وضرورتها الملحة التي تنعكس على حياة المواطنين العرب. إذ أشارت إلى أن هذا اليوم ليس حدثًا تاريخيًا فقط، بل واقع مرير ومؤلم صاحبه مصادرات هائلة للأراضي العربية أثرت سلبًا على حياة الكثير من الأسر الفلسطينية. وفي نهاية الفيلم طالبت بضرورة الاعتراف بالتمييز العنصري الذي يعاني منه المواطنون العرب في أراضي 48.


لماذا تخشى إسرائيل من مظاهرات حق العودة؟

نجحت مسيرات حق العودة في بث القلق في نفوس الاحتلال الإسرائيلي مستوطنين وساسة. فالتصريحات الرسمية تتلاحق واحدة تلو الأخرى في مظهر يكشف حجم التوتر في الداخل الإسرائيلي.إذ خرجوزير الدفاع الإسرائيلي «أفيغدور ليبرمان» في تصريح له توعد فيه بأن «إسرائيل ستستخدم القوة المميتة لمنع اجتياز السياج الحدودي العازل»، كما نشر ليبرمان على حسابه الرسمي على تويتر رسالة تحذيرية قائلًا: «إلى سكان قطاع غزة : قيادة حماس تغامر بحياتكم. كل من يقترب من الجدار يعرض حياته للخطر. أنصحكم بمواصلة حياتكم العادية والطبيعية وعدم المشاركة في الاستفزاز».

وقد عبر المتحدث باسم جيش الدفاع الإسرائيلي «أفيخاي أدرعي» عن استفزازه من تلك المسيرات والدعوات الحاشدة لها في مقطع فيديو على حسابه على تويتر: «مش عودة.. فوضى، مش شعبية.. استفزازية». مغردًا: «لن نسمح باجتياز جماهيري للجدار الأمني مع قطاع غزة يوم الجمعة القادم، نأتي إلى هذه الأحداث من منطلق القوة». وأشار إلى أن «الجيش الإسرائيلي يقوم بالاستعدادات اللازمة وبتعزيز القوات المتنوعة لذلك».

ووصل ذلك القلق الكبير إلى الحد الذي تلقت فيه شركات نقل فلسطينية في غزة اتصالات وتهديدات من السلطات الإسرائيلية تحذرها من نقل الفلسطينيين المشاركين في المسيرات. إذ تداول نشطاء فلسطينيون مقاطع صوتية، يُعتقد أنها لضباط إسرائيليين، يهددون فيها أصحاب شركات النقل في غزة.ولعل أبرز ما يثير قلق إسرائيل من تلك المسيرات هو ارتباط ذلك اليوم بعدد من التواريخ المهمة التي تشهد فيها المزيد من الاحتجاجات والمسيرات كعيد الفصح اليهودي في القدس، ويوم الأسير الفلسطيني، والذكرى الـ70 لقيام دولة إسرائيل. بالإضافة إلى قرب موعد نقل السفارة الأمريكية من تل أبيب إلى القدس رسميًا. ولهذا السبب ينوي الفلسطينيون إقامة العديد من المخيمات بالقرب من السياج على الحدود حتى يوم النكبة في منتصف مايو/آيار.فضلاً عن إجراء حماس وذراعها العسكرية تمرينات واسعة عبر قطاع غزة منذ يوم الأحد الماضي 25 مارس/آذار، أطلقت فيها نيران مدفعية رشاشة اعترضت بها نظام الدفاع الصاروخي للقبة الحديدية الإسرائيلية.وعلى حد قول الكاتب السياسي الفلسطيني، طلال عوكل، فإن تلك المسيرات تحمل بين طياتها رسالة طمأنة لمصر، بأن «أهل غزة لا ينوون التوسع جنوبًا نحو أراضيها، بل يريدون العودة شمالًا وشرقًا لأراضيهم التي هجّروا منها، وهذا ما يزعج إسرائيل إلى حد كبير».


«العودة» حق فلسطيني مؤجل

يوم الأرض لا يخص الشهداء وعوائلهم فحسب، بل هو قضية واقع وحاضر يعايشه الفلسطينيون ويعانون منه حتى يومنا هذا.

منذ النكبة يعيش ما يقارب ستة ملايين فلسطيني مع حلم إعادة عقارب الساعة إلى ما قبل عام 1948، الأمر الذي تستبعده إسرائيل خوفًا من تدفق العرب ما من شأنه القضاء على هويتهم اليهودية.ومنذ قيامها سعت إسرائيل لعزل عرب 48 عن المجتمع الفلسطيني في الأراضي المحتلة، وعن العالم العربي عمومًا، وبذلت جهودًا مضنية لمحو الثقافة والإرث الفلسطيني، وأجبرتهم على دراسة اللغة العبرية، وكانت إسرائيل تأمل من ذلك إخضاعهم، لكن «يوم الأرض» وتفاعل المنطقة معه عززا شعورهم بالانتماء إلى أمتهم.ولم يكن من المصادفة أن تعلن حكومة نتنياهو في ذكرى يوم الأرض عام 2017، عن بناء مستوطنة كبيرة في الأراضي المحتلة. يُشار إلى أن الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني أصدر بيانًا في 2016 عشية الذكرى الـ 40 ليوم الأرض، كشف فيه أن إسرائيل تستغل أكثر من 85% من مساحة فلسطين التاريخية والبالغة حوالي 27.000 كم2، ولم يتبق للفلسطينيين سوى 15% فقط من مساحة الأراضي. وفي هذا الإطار، توقع زئيف بنيامين بيغن، نجل رئيس الوزراء الأسبق مناحيم بيغن، وهو أكثر تطرفًا من والده الذي قاد فيما مضى ميليشيا «الإرغون» قبل قيام الدولة الإسرائيلية، في إحدى مقالاته، عدم إمكانية تحقيق سلام مع الجانب الفلسطيني، وخلص إلى القول:

الفلسطينيون لن يتخلوا أبدًا عن حق العودة.. وإن كان حق العودة سيعني نهاية الدولة اليهودية، فإن السلام هو حلم خارق.

و تطرح الكاتبة الإسرائيلية أوري أفنيري، في مقال لها بصحيفة «هآرتس»، حلًا لأزمة عودة اللاجئين، يقضي بإتاحة فرصة الاختيار لكل عائلة فلسطينية بين العودة الفعلية والتعويض المالي من الحكومة الإسرائيلية، قائلةً إنه سيُسمح لعدد فلسطيني متفق عليه بالعودة إلى الأراضي الإسرائيلية، خاصة أولئك الذين لديهم عائلات ما دام أنهم لن يخلقوا تغييرًا جوهريًا، بينما سيتم تعويض الآخرين بسخاء. الجدير بالذكر، أن يوم الأرض يأتي هذا العام في ظل تصاعد المخطط الاستيطاني بزعامة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، وازدياد حجم المخاطر التي تستهدف الوجود الوطني الفلسطيني، خاصةً أن المصالحة الفلسطينية في طريقها للانهيار عقب محاولة استهداف موكب رئيس الوزراء الفلسطيني رامي الحمد الله في غزة.يضاف إلى ذلك تصريحات السفير الأمريكي في تل أبيب، دافيد فريدمان، التي كان لها وقع التهديد المباشر ضد رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس (الذي كان قد نعته قبل أيام بلفظ خارج)، عندما صرح بأنه إذا لم يقبل أبو مازن العودة إلى المفاوضات مع إسرائيل فإنه «سيأتي من يقبل بها»، وهو ما اعتبر تهديدًا أمريكيًا بإزاحة عباس إذا لم يتجاوب مع أجندة واشنطن وتل أبيب. وإجمالًا، تعتبر الأرض جوهر الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، ويظل اللاجئون الفلسطينيون ضحاياه الرئيسيين، وطالما لم يتم حل مشكلة هؤلاء اللاجئين، فإن الصراع مرجح أن يستمر طويلًا.