التاريخ المبكر للإلحاد
وينقسم الإلحاد إلى نوعين:
1. الإلحاد العملي وهو التصرف في الحياة وكأن الله غير موجود (دون إنكار وجود الله)، وهو الإلحاد الذي يقصد عند وصف العلمانية المعاصرة مثلا بأنها ملحدة.
2. الإلحاد النظري وهو إنكار وجود الله من الأساس وعدم الإقرار بذلك.يبدأ تاريخ الإلحاد بفيلسوف عاش في عصر بطليموس حاكم مصر اليونانى، ويسمى هذا الفيلسوف باسم ثيودوس القورينائي نسبة إلى مدينة قورينا الليبية، والذي اشتهر باسم ثيودورس الإلهي وعاش متنقلا بين مصر وليبيا واليونان وألف الرسائل والكتب التي تستهزأ بعبادة آلهة اليونان مما عرضه لغضب الحكام والبرلمان في آثينا الذي صوت على معاقبته، غير أنه كان محميا ببعض أصدقائه النافذين، ولكن هذا لم يمنع تعرضه لتهديدات من الحكام حيث توعده ليزيماوس حاكم مقدونيا بالموت مصلوبا فقال قولته الشهيرة: “الأمر عندي سيان تحلل جسدي في التراب أو الهواء“. ومن ثم جاء بعده تلميذه الشهير أبيقور مؤسس المدرسة البيقورية في الفلسفة اليونانية والفيلسوف المادي الشهير والذي يقوم مذهبه على اللذة، فهو القائل: “اللذة بداية الحياة ونهايتها السعيدة، لا أستطيع أن أتصور ما هو خير إذا ما استبعدنا ملذات الطعام والحب وكل ما يمتع العين والأذن” وهو كذلك الساخر من الموت والحياة الآخرة حيث يقول: “عندما أوجد فلا يوجد الموت وعندما يكون الموت موجودا فلن أكون موجودا“.ولكن أبيقور كان جبانا وليس بشجاعة معلمه ثيودرس الإلهي، فلم ينكر مثله وجود الآلهة لكنه أنكر وجود أي دور للآلهة في خلق الكون وأنكر العناية والقدر وعد كل ما يحدث في الكون نتاج المصادفة فقط!زعم أبيقور أن الآلهة لا يجوز نسبة أي من ضروب النقص والشقاء إليها وهذا يناقض كثيرا المعتقدات الدينية لليونانيين، والذين كانت آلهتهم تحب وتكره وتتزوج وتأتي بالأبناء و التي يمكن خداعها كما خدع بروميثيوس الإله زيوس حين علم البشر الصناعة والعمارة واستخدام النار.أفضل من تحدث عن ظاهرة الإلحاد والإيمان عند اليونانيين القدماء هو أفلاطون حيث أورد في كتاب الشهير “القوانين” حوارا شيقا بين كيلينوس الكريتي ورفيقه الآثيني، حيث قسم أفلاطون على لسان كيلنوس الكريتي الملحدين إلى ثلاثة أنواع: وهم من ينكرون وجود الآلهة من الأساس (مثل ثيودوس الإلهي)، ومن ينكرون عناية الآلهة بالبشر (مثل أبيقور)، ومن يعتقدون أنه يمكن استمالة الآلهة بالقرابيين والنذور!بعد الفترة اليونانية جاءت الفترة الرومانية وكانت فترة حروب وإضرابات لا فترة علوم ومعارف، فاختفت أخبار الفلاسفة والعلماء وصعدت في مكانهم أخبار المحاربين والفرسان والخطباء مثل يوليوس قيصر و شيشرون.أول من أظهر الزندقة في العصر الإسلامي كان الأديب عبدالله بن المقفع والذي ترجم كلاما في مقدمة كتاب كليلة ودمنة يدعو إلى الزندقة وادعى أنه يترجم كلام برزويه طبيب كسرى وناسخ كتاب كليلة ودمنة من الهندية إلى الفارسية، حيث قال ابن المقفع: “وجدت الأديان والملل كثيرة من أقوام ورثوها عن آبائهم وآخرين مكرهين عليها وآخرين يبتغون بها الدنيا ومنزلتها، فرأيت أن أواظب علماء كل ملة لعلي أعرف بذلك الحق من الباطل ففعلت ذلك وسألت ونظرت فلم أجد من أولئك أحدا إلا يزيد في مدح دينه وذم دين من خالفه ولم أجد عند أحد منهم عدلا وصدقا يعرفها ذو العقل ويرضى بها“.ومن بعده جاء الطبيب أبو بكر الرازي أحد أشهر الملاحدة المسلمين، هذا رغم ثناء الذهبي عليه في سير أعلام النبلاء، فيكفي أن تقرأ مؤلفاته حتى تشاهد أنه في مقدمة كل كتاب يحمد الله ولا يصلي ولا يسلم على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، حيث كان إلحاده منحصرا في إنكار النبوات، حيث قال: “من أين أوجبتم أن الله اختص قوما بالنبوة دون قوم، وفضَّلهم على الناس، وجعلهم أدلة لهم، وأحوج الناس إليهم؟ ومن أين أجزتم في حكمة الحكيم أن يختار لهم ذلك، ويعلي بعضهم على بعض، ويؤكد بينهم العداوات، ويكثر المحاربات، ويهلك بذلك الناس“.وكان الملحد الشهير ابن الراوندي الذي كان معتزليا ثم تحول زنديقا ملحدا، فألف كتاب الزمرد للطعن في الإسلام والاستهزاء بالقرآن، وهرب متخفيا في بيوت أنصاره حتى توفي. ولكن العجيب في أن ابن الرواندي رغم استهزائه بالإسلام والأديان إلا أنه لم ينكر وجود الله الخالق كما يقول الملحدون المعاصرون بل اكتفى بإنكار النبوات كذلك.في أوروبا ظهرت رسالة جان مسلييه الإلحادية التي ينكر فيها وجود الله ومعجزات عيسى المسيح عليه السلام، ويدعو فيها الناس إلى التمتع بالحياة الدنيا ومباهجها بحثا عن اللذة لأن الموت يضع نهاية لكل معرفة ولكل شعور بالخير أو الشر. وفيها يقول متحدثا عن معجزات عيسى بن مريم: كان الأجدر بالمسيح أمراض كل البشر النفسية والعضوية ويجعلهم كلهم حكماء وكاملين. ولكن ناشر هذه الرسالة وهو الكاتب الفرنسي الشهير فولتير نفسه لم يكن ملحدا، فهو صاحب المقولة الشهيرة في رسالته إلى الملحدين: “لو لم يكن الله موجودا لكان عليكم إيجاده لأن العالم غير قابل لأن يساس لو لم يكن هناك إله يعاقب الأشرار في العالم الآخر بعد الموت“.وهذه الرسالة الإلحادية لجان مسلييه هي التي أعتقد أنها دفعت المفكر جان جاك روسو ليحاول الرد عليها في كتابه الشهير “عقيدة قس من جبال السافو” والتي ترجمها عبدالله العروي بعنوان “دين الفطرة”.بعد قيام الثورة الفرنسية التي كانت ثورة عنيفة وعلمانية تحارب الدين، غير أنها أكدت في احتفالتها على مسألة الإيمان بالإله الخالق بل وأقامت طقوسا تشبه الأعياد لهذا الإله في كاتدرائية روترادم تعبد الخالق الذي لا يجسده الصليب الرمز المسيحي بل يجسده العقل الإنساني. فالثورة الفرنسية لم تكن ملحدة بل كانت ثورة ضد تسلط رجال الدين الذين قاموا بإذلال الشعب الفرنسي وتحالفوا مع الملك وطبقة النبلاء الفاسدة حيث كان للكنيسة ميزانيتها الخاصة وهي مسئولة عن مالياتها وكانت معفاة من المكوس والضرائب. ولم تكن الكنيسة مستقلة أبدا فقد كانت تابعة لكنيسة روما وقد كانت تهيمن على التعليم هيمنة تكاد تكون تامة، وكان الإعلام في قبضتها جزئيا لأن منبر الكنيسة كان الوسيلة الوحيدة لنشر الدعوة لسياسات الحكومة على جمهور كبير معظمه من الأميين. أضف إلى ذلك أن الكنيسة كان في استطاعتها منع المطبوعات التي كانت ترى فيها خطرا على الدين أو على الأخلاق، وبذلك تم حرق ومنع آلاف الكتب التي تنتقد الملكية، وما كان يسمى بالحق الإلهي المقدس الذي كان يبيح للملوك التصرف بمقدرات الشعب كما يشاءون مثلما كانت تفعل الملكة العابثة ماري أنطوانيت زوجة لويس السادس عشر.كان القرن التاسع عشر هو قرن الملحدين في الغرب حيث كان في ألمانيا عالم فيسولوجي اسمه كارل فوغت، وكان من أعداء المثالية، وهو صاحب مقولة: الأفكار للمخ كالصفراء للكبد والبول للكليتين! وصرح أنه ضد خرافة آدم وحواء ونوح. وكان هناك العالم بوخنر الذي قال: “لا حاجة إلى إله ليعطي العالم إشارة البدء، ولا إلى نفس مفارقة لنعرف ظاهرة الفكر؛ وذلك أنه كلما تتقلص العضلة تفرز غددا يفكر بها الدماغ“. وسيأتي من بعده فيورباخ صاحب كتاب “ماهية المسيحية” ليطالب لا بأن تلغى المسيحية، بل أن يتم تحويلها إلى دين تحل فيه الإنسانيات مكان الإلهيات، وقد كان هو من دفع أنجلز لكتابة كتابه الشهير والمركزي في الفكر الشيوعي “فيورباخ ونهاية الفلسفة الكلاسيكية الألمانية”، والذي قال فيه أن الدين نتاج لما قبل التاريخ وتصور خاطئ للطبيعة ووسيلة من وسائل الحكم للإبقاء على الطبقات الدنيا تحت نير الاستغلال. ومن بعد أنجلز جاء لينين ليقول إن التقدميين البرجوازيين هم الذين يعتبرون نشر الأفكار الإلحادية هو المهمة الرئيسية، وأن التقدميين الماركسيين يناضلون لا ضد تدين الشعب بل ضد بؤس الشعب والخوف الذي يخلق الآلهة وهذا الأمر هو الذي يجب مكافحته، ويقول لينين أيضا: “لا يجب علينا أن نقبل جميع العمّال الذين لا يزال يحتفظون بإيمانهم بالله فحسب، بل يجب أن نعمل أيضا على جذبهم إلى صفوف الحزب الاشتراكيّ الدّيموقراطيّ. ولئن كنّا نعارض تماما كلّ إهانة لمعتقداتهم الدّينيّة، إلاّ أنّنا نضمّهم إلينا لتثقيفهم وفقا لروح برنامجنا، وليس لكي يقفوا ضدّه“.وفي القرن العشرين في ألمانيا خرج الفيلسوف النازي الملحد ألفرد روزنبرغ في كتابه أسطورة القرن العشرين حيث كتب: “إن السامية والآسيوية شوهتا طبيعة المسيحية وجعلتهما تشيح عن الهيلنية الشمالية وزجتا بألمانيا في مستنقع الفساد المتوسطي. وإن الإنسان الأعلى الذي بشر به نيتشه والأمة التي فوق الأمم التي هي قدر ألمانيا لن تخرج إلا إذا قام عصر وثني جديد تكون السيادة فيه لعرق الأبطال الآري“.
مصادر:
1. كتاب هرطقات 2 جورج طرابيشي2. كتاب من تاريخ الإلحاد في الإسلام بدوي3. مدخل جديد للفلسفة عبدالرحمن بدوي4. كتاب القوانين لأفلاطون5. عن الماركسية، جون ملينو
6. الدين أكثر من أفيون الشعوب، جون ملينو7. محاضرات في تاريخ الكنيسة الغربية، يواقيم رزق مركس