فيلم «.E.T»: حلم سينمائي يفلت من أحكام الزمن
في عام 1982 كان ستيفن سبيلبرج هو المخرج الوحيد في تاريخ السينما الذي تجاوزت إيرادات ثلاثة من أفلامه فقط – وهي الفك المفترس، لقاءات قريبة من النوع الثالث، وأول أفلام سلسلة إنديانا جونز- حاجز مليار دولار في شباك التذاكر.
كان بإمكانه الآن أن يفعل ما يحلو له، لكنه اختار أن يصنع فيلمًا صغيرًا على نحو ما، بطاقم عمل أغلبه من الأطفال، وميزانية أقل من أفلامه السابقة والحد الأدنى من المؤثرات البصرية لكنه فيلم شخصي تمامًا، بل أكثر أفلامه ذاتية حتى هذه اللحظة.
لكن هذا الفيلم الصغير الذي صنعه سبيلبرج في عمر الرابعة والثلاثين تجاوز كل أحلامه، وصار أكثر الأفلام تحقيقًا للإيرادات في تاريخ السينما. الفيلم الذي نشير له هنا هو إي تي الذي مر على عرضه الأول في 11 يونيو الماضي أربعين عامًا. يقولون إن شخصًا من كل اثنين في أمريكا الشمالية ابتاع تذكرة لمشاهدة فيلم سبيلبرج. لايزال إي تي حتى هذه اللحظة مع حساب فارق التضخم في المركز الرابع لأكثر الأفلام تحقيقًا للإيرادات في تاريخ السينما، لكن الأهم أنه لا يزال محتفظًا بسحره القديم، بحس البراءة والدهشة الذي يمنحه لمشاهديه.
إله صغير يهبط على أرض الحكاية
ظل انفصال والديه في مراهقته جرحًا مفتوحًا في روحه. رغب سبيلبرج دائمًا في صنع فيلم عن ذكرياته في هذه الفترة -الأسوأ في حياته- على حد تعبيره. كان الجرح عميقًا لدرجة أنه لم يفكر أبدًا حتى لحظة صنع الفيلم أن بإمكانه أن يكون أبًا، كانت الأبوة كأرض محرمة مسورة بمخاوف دفينة في أعماقه.
لقاء طفل وحيد بكائن فضائي تنشأ بينهما علاقة مدهشة قبل أن يعود إلى بيته في الفضاء الفسيح، هذه هي حكاية فيلم إي تي ببساطة، لكن الفكرة الأصلية للفيلم كانت عن كيف يؤثر الطلاق على طفل وحيد، وكيف يمكن أن يتحول الأمر إلى نوع من الصدمة النفسية؟ هذا ما كان قبل أن يصل (إي تي) لأرض الحكاية. هناك روايتان لوصوله يحكيهما سبيلبرج في عدد من حواراته.
أثناء العمل على فيلمه «لقاءات قريبة من النوع الثالث – close encounters of the third kind» وهو أكثر أفلام سبيلبرج قربًا لهذا الفيلم، برق في ذهنه عند نهايته ماذا لو لم يعد واحد من مخلوقات سفينة الفضاء وبقي هنا بيننا؟ ثم حصل نوع من التزاوج بين هذه الفكرة وفكرة فيلمه الذاتي التي كان قد وصل خلالها إلى ما يحتاجه تحديدًا لتحويلها لفيلم: كيف يمكنك أن تملأ قلب طفل وحيد؟ أي حدث استثنائي يمكن أن يحقق ذلك للطفل إيليوت بعد أن هجره والده؟ ليس هناك إذن ما هو استثنائي أكثر من مخلوق فضائي.
الرواية الثانية لا تناقض الأولى بالضرورة، وإن كانت تعود لزمن أبعد في عمق الطفولة والوحدة عن فانتازيا سبيلبرج الطفل عن مخلوق غريب يقتحم عليه غرفته ليغير حياته للأبد.
كان ستيفن دائمًا ما يشعر بوحدة عميقة ويتوق إلى صديق مثله، مختلف عن الآخرين كما كان يشعر إزاء نفسه، أحيانًا يتخيل أن كائنًا فضائيًّا صغيرًا ولطيفًا سيكون صديقًا مثاليًّا. وكأن هذه الفانتازيا قفزت إلى رأسه فجأة كعادة اندفاعات اللاوعي أثناء تصوير نهاية (لقاءات قريبة من النوع الثالث).
يهبط «إي تي» على أرض الحكاية كإله صغير ليمنح حكاية سبيلبرج الذاتية قوتها ويخلق مجازها الخاص.
كيف تصنع فيلمًا عن طريق المجاز؟
عهد سبيلبرج للكاتبة ميليسا ماثيسون بكتابة النص السينمائي لفيلمه، إذ كانت قد كتبت عام 1979 فيلمًا أعجبه كثيرًا بعنوان «the black stallion» عن صداقة نادرة بين طفل وحصان في ظروف استثنائية، وشعر أنها أنسب منه لكتابة حكايته. رغم أن اسمه لا يظهر ككاتب أو مشارك حتى في الكتابة فإن هذه الحكاية تنتمي له ولعالمه السينمائي، ليس فقط الجانب الذاتي الذي يحكيه، بل التيمات المتكررة في أفلامه السابقة واللاحقة، إذ تحمل أفلامه دائمًا أثر صدمات الطفولة الأولى، الخوف من الهجران وظلالًا من الوحدة واليأس والظلام.
كعادته يميل صوب العائلة المحطمة والمكسورة في محاولتها للنجاة والبقاء. وكعادة أفلام سبيلبرج نحن أمام حدث غير عادي يحدث لأشخاص عاديين. لدينا طفل يسمى إيليوت / هنري توماس يعاني في صمت بعد انفصال والده عن والدته وسفره مع حبيبته الجديدة إلى المكسيك، إنه وحيد تمامًا ويشعر أنه مهجور لا يحظى بانتباه والدته المجروحة هي الأخرى برحيل والده، وكذلك أخوه الأكبر المندمج مع أقرانه متخليًا هو الآخر عن أخيه، ولدينا أيضًا أخته الصغرى «جيرتي» -درو باريمور في ظهور الأول على الشاشة- والتي يبدو أنها أصغر من أن تعي ما حدث.
يتحدث الكاتب والمخرج الأمريكي «بول شريدر» في محاضرة له عن فن السيناريو بأن الأفلام العظيمة أو الحكايات العظيمة في العموم تحتوي دائمًا على مجاز يمكن رؤية أزمة البطل في مرآته. هنا إي تي هو مجاز الحكاية: كائن مهجور في أرض غريبة على وشك أن يموت إذا لم يعد إلى بيته. ما يشعر به إي تي، ويعانيه على نحو واضح هو هذا ما يشعر به إيليوت بعد رحيل والده ويعانيه بطريقته الخاصة. يعكس حنين إي تي ومرضه حنين إيليوت لبيته الذي كان لأمان البيت الذي كان قبل طلاق والديه.
يخلق سبيلبرج بين إيليوت وإي تي مستوًى عميقًا جدًّا من الارتباط العاطفي يمكن أن نسميه تقمصًا عاطفيًّا فما يشعر به إي تي يشعر به إيليوت أيضًا. في واحد من أكثر تتابعات الفيلم خفة ومرحًا في الفيلم، يفرط إي تي في شرب البيرة فتظهر علامات السكر على إيليوت في المدرسة، يشاهد إي تي فيلم جون فورد «the quiet man» على الشاشة فيحاكي إيليوت في صفه الدراسى ما تفعله شخصيات الفيلم على الشاشة. هذه أيضًا إيماءة محبة لفورد مخرجه المفضل.
سردية مضادة لبارانويا الحرب الباردة
على عكس سرديات أفلام الخيال العلمي منذ بداية زمن الحرب الباردة خمسينيات القرن العشرين، والتي تصور القادمين من الفضاء غزاة أشرارًا ووحوشًا غامضة تهدد الحياة على الأرض، وبقيت اللقاءات بيننا وبين الكائنات الهابطة من السماء تتم في إطار من الرعب والبارانويا.
يقدمهم سبيلبرج هنا كما في فيلمه «لقاءات قريبة من النوع الثالث» كائنات مسالمة وودودة، تمتلك قدرات سحرية ولمسة شافية، وهو ما يمكن رده لطفولة سبيلبرج. حين كان طفلًا أخذه والده لرؤية زخات الشهب. بدت له السماء مكان عجائب لا توصف. مدركًا ربما منذ هذه اللحظة أن أي لقاء محتمل بين حضارة فضائية وحضارتنا سيكون سلميًّا وجميلًا. لن يتغير ذلك إلا في مرحلة ما بعد سبتمبر 2001 الذي خلق داخل أمريكا نفس المخاوف التي سادت زمن الحرب الباردة، فيصنع سبيلبرج فيلمًا عن غزو فضائي يهدد العالم بعنوان «حرب العوالم – war of the worlds».
يبدأ فيلم سبيلبرج بزيارة غامضة من الفضاء، إذ تهبط سفينة فضاء في مكان منعزل بأحد غابات كاليفورنيا. تترك سفينة الفضاء خلفها أحد أفرادها بعد أن اضطرت للإقلاع سريعًا بعد أن اكتشف وجودها مجموعة من العلماء، يظهرهم سبيلبرج في هيئة مخيفة ومهددة، بينما يجعل الفضائي هنا هو المطارد. يلجأ المخلوق الفضائي هربًا من مطارديه إلى بيت عائلة الطفل إيليوت المنعزل قرب الغابة التي هبط فيها لتنشأ بينه وبين الطفل إيليوت واحدة من أجمل الروابط العاطفية التي جمعت كائنين على شاشة السينما. في الحقيقة يبدو الفيلم أقرب للفانتازيا، للحكاية الخرافية أكثر من نوع الخيال العلمي.
الفيلم كحكاية خرافية
في قلب كل فيلم من أفلام سبيلبرج طفل وحيد أو بطل طفولي على وشك أن يبدأ مغامرة ما داخل عالم الكبار القاسي. أطفال سبيلبرج الوحيدون والمنسيون هم من يمدون أفلامه بنسقها العاطفي، ببراءة الرؤية وإمكانية السحر.
طالما تم تشبيه سبيلبرج من قبل نقاده بشخصية «بيتر بان» التي ابتدعها الكاتب «جيمس ماثيو باري»، كطفل يرفض أن يكبر، أن يغادر مملكة الطفولة وسحرها، يتخفى بين ظلالها من الواقع واقع الكبار القاسي ومنزوع السحر. يعمل فيلم سبيلبرج كحكاية خرافية معاصرة عن النضج وتقبل حقائق الحياة. المغامرة هنا تتجاوز فكرة المغامرة إذ تكشف لنا معاني روحية وحقائق نفسية تلمسنا جميعًا.
في النهاية وبعودة إي تي مجددًا للفضاء، يفقد إيليوت مجددًا شخصًا عزيزًا عليه قريبًا من قلبه، لكنه هذه المرة أكثر تقبلًا لهذا الفقد، لم يعد الطفل الوحيد والغاضب، بل أكثر قدرة على التعبير عن مشاعره، لقد غيرته التجربة. الكبار هنا هم أشرار الحكاية، لا نرى وجوههم بوضوح إلا قرب النهاية صورة ظلية وذات هيئات مهددة، انظر مثلًا للطريقة التي يقتحمون بها بيت العائلة. حين يحاول إيليوت إقناع جيرتي بألا تخبر والدتها عن وجود إي تي يخبرها أن الأطفال وحدهم من يمكنهم رؤيته. نعم الأطفال وحدهم هم من يؤمنون بإمكانية وجود السحر في قلب هذا العالم. إي تي يبدو كحلم يتشاركه إيليوت معنا ومع أطفال الحكاية بينما الكبار هم أقرب للواقع الذي يهدد هذا الحلم.
هناك ظاهرة نفسية طبيعية شائعة لدى الأطفال تسمى «الصديق المتخيل – the imaginary friend»، أشبه بصوت داخل الرأس يتحدث إليهم ويبادلهم الحديث طوال الوقت. يساعد الطفل في الانفصال عن والديه في خطواته الأولى في العالم. يمكننا أن نرى إي تي في هذا السياق مؤديًا نفس الدور. أحيانًا يصير إيليوت هو صوت الأب بالنسبة إلى إي تي يحاول حمايته ومساعدته دائمًا وأحيانًا العكس، فكلاهما يتبادلان دور الأب في هذا الفيلم الأقرب لأن يكون كسيكودراما لطفلين يحاولان تجاوز فقد الأب. سبيلبرج نفسه بعد هذا الفيلم يصير أبًا متجاوزًا أخيرًا عقدته التي خلفها انفصال والديه.
يقارب سبيلبرج حكايته بواقعية شديدة، ومع ذلك تشعر كأنك في حضور شيء غامض كالحلم. الإضاءة وكادرات الضباب وموسيقى جون ويليامز المحلقة تغلف الحكاية بغلالة من السحر. هذا الفيلم يدخل عامه الأربعين الآن خفيفًا وجميلًا كحلم أفلت من أحكام الزمن.