قصة جوهر دوداييف: الدرس الشيشاني في حرب العصابات
مايو/آيار 1990 كانت الشيشان على موعد مع معركة جديدة مع روسيا، ذلك أن الطيار السوفيتي الميجور جنرال جوهر دوداييف قائد الجناح الجوي 326 قرر العودة لبلاده الأصلية الشيشان، وقيادة شعبه نحو الحرية.
قام داودييف بتشكيل الكونجرس القومي الشيشاني. بدأ جمع ميليشيا مسلحة من أهالي الشيشان، وفي 7 سبتمبر/ أيلول 1991 هجموا على مقر الحزب الشيوعي السوفيتي في غروزني. قاموا بإلقاء رئيسه فيتالي كوتشنكو من النافذة، قُتل الرجل في الحال. حاصروا مبنى التليفزيون الحكومي في غروزني وقام جوهر دوداييف بإعلان جمهورية الشيشان أتشكيريا جمهورية مستقلة ذات سيادة.
حاول الرئيس الروسي الجديد بوريس يلتسين إرسال قوات إلى غروزني لإعلانها منطقة روسية، إلا أن ميليشيات الكونجرس الشيشاني حاصرتها وأمرتها بالاستسلام وأجلَتها من غروزني بهدوء. وبسبب الظروف الداخلية شديدة الصعوبة التي كانت تواجهها روسيا اضطر الروس للاكتفاء بالشجب والإدانة.
شهدت الفترة بين 1992 – 1994 هدوءًا نسبيًا في الشيشان، لكن كان الوضع في روسيا يغلي، فالشيشان جزء لا يتجزأ من روسيا منذ 1862. في هذا الوقت كان يرأس الدوما روسي من أصول شيشانية هو رسلان حسب اللاتوف، كان يختلف مع الرئيس يلتسين في كل شيء تقريبًا إلا في قضية الشيشان، فالرجلان رأيا أن ضم الشيشان لروسيا أمر مفروغ منه.
بدأ التوتر بين الطرفين يتصاعد بشدة في أغسطس/ آب 1994. بدأت روسيا عبر جهاز استخباراتها الـ FSK وريث الـ KGB في تكوين ميليشيات شيشانية موالية لها، بل قامت بتعيين ضباط روس سابقين في الميليشيات الجديدة. استطاع هؤلاء الضباط/ المرتزقة الدخول إلى الأراضي الشيشانية بأوراق هوية مزورة، وشيئًا فشيئًا تكونت ميليشيا كبيرة استطاعت بمساعدة روسيا إدخال عدة مدرعات ودبابات للأراضي الشيشانية، وتلقت دعمًا جويًا من قاعدة مصدق في أوسيتيا الشمالية التي كانت مشغولة بعدد من المقاتلات والمروحيات العسكرية.
وفي 26 نوفمبر/تشرين الثاني، بدأ هجوم كبير بواسطة الميليشيات الشيشانية الموالية لموسكو على مقر إقامة دوداييف بمساعدة خبراء عسكريين من روسيا، ونجحت قوات دوداييف بزعامة شامل باسييف في صد الهجوم، وتم قتل حوالي 350 من القوات المعادية، بالإضافة إلى تدمير 20 دبابة وحوالي 23 مدرعة، وإسقاط عدة مروحيات ومقاتلات، بالإضافة إلى أسر بعض المرتزقة الروس.
في البداية، أنكر الروس أي علاقة لهم بالانقلاب العسكري في الشيشان، ولكن أمر دوداييف بعرض الأسرى على شاشات التلفاز ومعهم أوراق الهوية المزورة لهم، وأرسل تهديدًا ليلتسين بأنه سيقوم بإعدام الأسرى الروس لديه لو لم يعترف بأنهم روس، ويقدم اعتذارًا رسميًا عن قيام موسكو بتمويل الانقلاب العسكري هناك. أصبح يلتسين في وضع حرج وضاعت أحلام موسكو في القيام بتمويل انقلاب عسكري على دوداييف، وأصبح لا مفر من التدخل المباشر.
أمر يلتسين دوداييف بإطلاق سراح الروس الأسرى وتفكيك كل الميليشات غير القانونية الموجودة في الشيشان في ظرف 14 يومًا، وإلا فسيتعرض للعقاب. رفض بالطبع، فما كان من يلتسين إلا أن قام في 29 نوفمبر/ تشرين الثاني 1994 بإصدار أمر لقواته العسكرية ببدء العمليات العسكرية في جمهورية الشيشان وإعادة البناء الدستوري للدولة. وفي الأول من ديسمبر/ كانون الأول بدأ القصف الجوي للشيشان وأعلن وزير الدفاع الروسي وقتها بافيل جاتشيف أن العملية ستكون سريعة، وستتم الإطاحة بدوداييف خلال أسابيع معدودة.
بدأت الاستقالات تتوالى من كبار الضباط الروس رفضًا للتدخل في الشيشان، كما كان هناك حالة من الرفض داخل الجيش الروسي لتلك العملية، فالشيشان ليست هي الجمهورية الوحيدة التي استقلت عن روسيا في الفترة الأخيرة.
وفي الشيشان كان الوضع مختلفًا، فأنت تتحدث عن شعب يناضل للاستقلال عن روسيا منذ أكثر من قرنين. أنت تتحدث عن أشخاص يتحدثون الروسية بطلاقة لأنهم تربوا وتعلموا في ظل الاتحاد السوفيتي. أنت تتحدث عن أشخاص قضى الكثير منهم جل وقته في الجيش السوفيتي -منهم رئيس الجمهورية نفسه جوهر دوداييف- بل إن الكثير منهم كان يحتفظ بالزي العسكري السوفيتي لديه في البيت.
وعلى مدى شهر كامل فشلت القوات البرية الروسية في إحراز أي تقدم، لذا في 31 ديسمبر/ كانون الأول 1994 قصف وحشي للمدن الشيشانية عامة وغروزني خاصة بدأ، قصف أعاد للأذهان القصف السجادي الخاص بالحرب العالمية الثانية. قصف سوّى 60% من مباني غروزني بالأرض، والآن أصبحت الأمور ممهدة لعملية برية جديدة.
قام الكولونيل أصلان مسخادوف، الضابط السوفيتي السابق وقائد دفاعات مدينة غروزني، بتنظيم صفوف مقاتليه وقاد حرب عصابات شرسة ضد القوات الروسية. قاومت قوات مسخادوف ببسالة، قاموا بقتل أكثر من 2000 جندي روسي، منهم الجنرال فيكتور فوروبوييف، وتدمير أكثر من 105 دبابات و225 عربة مدرعة، لكن أعداد الروس كانت كبيرة جدًا «حوالي 38 ألف جندي» مدعومين بغطاء جوي عنيف، مقابل عدد لا يزيد على 5000 مقاتل شيشاني على أحسن تقدير، لذا فبحلول 8 فبراير/ شباط 1995 كان الروس قد أحكموا سيطرتهم على معظم غروزني.
اضطر جوهر دوداييف وقواته لإخلاء المبنى الرئاسي والتوجه جنوب غروزني للاختباء في أحد مخازن الصواريخ الباليستية القديمة، وقام المفتي الشيشاني وقتها أحمد قديروف بإعلان الجهاد ضد روسيا، بعد احتلال (غروزني) في فبراير/ شباط 1995 لم يتوقف الروس. تقدموا صوب باقي المدن والقرى الشيشانية. وبحلول يونيو/ حزيران 1995 كانت القوات الروسية قد سيطرت على معظم الشيشان.
كان الصراع الروسي-الشيشاني في بدايته صراعًا قوميًا حدوديًا إلى حد كبير. وظل الصراع هكذا حتى رجع شامل باسييف إلى الشيشان وبدأ في استعمال علاقاته مع تنظيم القاعدة في أفغانستان. تغير الصراع إلى صراع إسلامي إلى حد كبير. فبجوار عدد يقدر ـ بـ 10 – 12 ألف شيشاني نظامي ينتظمون تحت أيدي القائد أصلان مسخادوف استطاع باسييف حشد حوالي 5000 مقاتل أجنبي إسلامي من داغستان وأبخازيا، ومن المقاتلين العرب في أفغانستان.
قاد باسييف عملية احتجاز رهائن في مستشفى مدينة بوديونوفسك الروسية في 14 يونيو/ حزيران 1995، والتي احتجز فيها نحو 1600 شخص لعدة أيام. وقد قتل ما لا يقل عن 129 مدنيًا وجرح 415 آخرين أثناء محاولات القوات الخاصة الروسية المتكررة لإطلاق سراح الرهائن بالقوة.
ورغم فشل باسييف في هدفه الرئيسي بسحب القوات الروسية من الشيشان، فإنه نجح في إيقاف التقدم الروسي، وفرض الشروع في محادثات سلام مع الحكومة الروسية، وتوفير الوقت للمقاومة الشيشانية لإعادة ترتيب صفوفها، ثم استطاع باسييف ومقاتليه العودة إلى الشيشان مستخدمين دروعًا بشرية، ما جعل منه بطلًا وطنيًا في الشيشان.
في 23 نوفمبر/ تشرين 1995، أعلن باسييف على قناة NTV الروسية أن هناك أربع حقائب بها مواد مشعة مخبأة داخل موسكو، ما جعل فرق الطوارئ الروسية تجوب المدينة للبحث عن أسطوانات السيزيوم، التي كان قد أخذها المقاتلون الشيشان من مستشفى بوديونوفسك.
ساهمت عمليات شامل المستمرة داخل روسيا في التقليل من وطأة العمليات العسكرية في الداخل الشيشاني. وفي مارس 1996 كان الوضع قد بدأ يختلف، ففي 6 مارس/ آذار 1996 قام حوالي 1500 مقاتل شيشاني بهجوم مفاجئ على غروزني في محاولة لاستعادتها، ورغم فشلهم فإنهم غنموا الكثير من الأسلحة التي ساعدتهم فيما بعد. وبدأ المقاتلون العرب في ضواحي الشيشان شنّ هجماتهم المتكررة على الروس وسببوا خسائر شهرية فادحة للجانب الروسي، لم تكن تلك الخسائر دون ثمن على الجانب الشيشاني، ففي 21 أبريل/ نيسان 1996 قامت المخابرات الروسية بتحديد مكان الرئيس دوداييف وقتلته عبر قصف جوي دقيق.
خلف سليم خان ياندرباييف الرئيس دوداييف رحمه الله، وقام سليم بتوقيع اتفاقية وقف إطلاق نار. وعلى إثر تلك الاتفاقية قام الرئيس الروسي بوريس يلتسين بإعلان انتصاره في الشيشان في 28 مايو/ آيار 1996.
لكن الاتفاقية كانت مجرد هدنة قصيرة على الجانب الشيشاني، وفي أغسطس/ آب 1996 بدأت القوات الروسية تتحرك صوب الجنوب وتركوا 12 ألف جندي فقط في غروزني لحمايتها. تتحرك القوات صوب الجنوب لسحق جيب المقاومة الشيشاني الأخير. ورأى «أصلان مسخادوف» و«شامل باسييف» أن الفرصة سانحة، في 6 أغسطس/ آب فجرًا هاجم المقاتلون الشيشان غروزني بقيادة أصلان مسخادوف، والعدد الإجمالي للقوات التي دخلت العاصمة الشيشانية المليئة بالجنود الروس بلغ 850 مقاتلًا موزعين على كتيبتين فقط.
هاتان الكتيبتان القويتان تمكنتا ليس فقط من شل كل القدرة القتالية للقوات الروسية في المدينة، ولكن منعت بشدة أي محاولة لإعادة السيطرة على غروزني من قبل قيادة الاحتلال، بالرغم من استدعاء الجنرالات الروس المزيد من الأرتال العسكرية والفرق الهجومية من القوات الخاصة من خان كالا ومطار الشيخ منصور، القاعدتان العسكريتان الرئيسيتان للغزاة.
نفذت كتائب المجاهدين العرب عدة عمليات ناجحة ضد القوات الروسية المتجهة صوب غروزني، وسببت لها خسائر فادحة، واستطاعت القوات الشيشانية المهاجمة لغروزني شحذ حماس أهل المدينة للقتال ضد الروس، فانضم لهم الكثير من شباب المدينة وشيوخها، وخلال عدة أيام من معارك الشوارع استطاع المقاتلون الشيشانيون قتل قرابة 5000 جندي روسي، وباتت الهزيمة تلوح بقوة في الأفق.
في 19 أغسطس/ آب 1996 قام الجنرال الروسي قنسطنطين بوليكوفسكي، قائد القوات الروسية في شمال القوقاز، بالتهديد بتسوية غروزني بالأرض إذا لم ينسحب المقاتلون الشيشانيون منها في ظرف 48 ساعة، وأعلن أنه سيستعمل أسلحة ستظهر لأول مرة في ساحة المعركة -يقصد الصواريخ الباليستية-. عمّ الذعر أرجاء غروزني وبدأ الناس في الهروب نحو الجبال، لكن مستشار الأمن القومي الروسي وغريم الرئيس يلتسين الجنرال ألكسندر ليبيد تدخل، وقام بتوقيع اتفاقية وقف إطلاق نار مع القائد العام للقوات الشيشانية الجنرال أصلان مسخادوف في 22 أغسطس/ آب 1996 معلنًا انتهاء الحرب الشيشانية الأولى وانتصار جمهورية الشيشان (أتشكيريا).
انتهت الحرب الروسية الشيشانية الأولى بنصر استراتيجي كبير لدولة الشيشان الصغيرة على دولة روسيا العملاقة. لكن ليس كل ما يتمناه المرء يدركه، وتجري الرياح بما لا تشتهي السفن، فكان لشامل باسييف وخطّاب وسائر المجاهدين العرب رأيٌ آخر. للأسف الشديد!