العلاقة الدينامية بين الجنسين في فكر «فاطمة المرنيسي»
تبدو السيطرة الذكورية مغروسة في اللا وعي الجمعي عند البشر وأنها تحولت إلى عنصر قوي؛ ولكنه غير مرئي في العلاقات ما بين الجنسين داخل النظام الاجتماعي. يقول «بيار بورديو» في كتابه «الهيمنة الذكورية»:
فتكمن قوة الهيمنة الذكورية في أنها متأصلة في النظام الاجتماعي ومؤسساته. ولذلك «دُرست السلطة، وحُلّلت، وقُدّمت غالب الأحيان كخاصية ذكورية، تُعبر عن هيمنة الرجال على النساء». [2] إن الإسلام يؤكد على المساواة بين الجنسين، وإنما دونية المرأة في المجتمعات العربية كانت حصيلة أيديولوجيات منهجية صُممت لإقصاء المرأة.
ولقد قارنت «فاطمة المرنيسي»، عالمة الاجتماع والنسوية المغربية، بين اتجاهين مختلفين لدى «الغزالي» و«فرويد»، فتقول في كتابها «ما وراء الحجاب: الجنس كهندسة اجتماعية»:
ويشير الإمام الغزالي إلى «الاختلافات التشريحية بين الجنسين، خلال توضيحه لموقف الإسلام من العزل الذي عُرف في الفترة السابقة للإسلام كطريقة لتفادي الحمل، والدور الذي يساهم به كل من الجنسين». [4] حيث إن «الولد لا يُخلق من منيَّ الرجل وحدهُ، بل من الزوجين جميعًا، إمَّا من مائِهِ ومائِها، أو مِن مائِهِ ودمِ الحيضِ. إن المضغة تُخلق بتقدير الله تعالى من دم الحيض، والنطفةُ من الرجل، وكيفما كان، فماءُ المرأةِ ركنٌ في الانعقادِ». [5]
لقد اندهش فرويد في تحليله للاختلافات بين الجنسين أمام ظاهرة خاصة، «الازدواجية الجنسية»، وهي ظاهرة محيرة نسبيًا لكل منْ يحاول تقييم الاختلافات بين الجنسين عوض نقاط التشابه بينهما، أي أن العلم أثبت أن بعض الأجزاء في الجهاز التناسلي الذكري توجد كذلك لدى المرأة والعكس، ويرى في هذا الأمر دليلًا على ازدواجية جنسية، كما لو أن الفرد ليس ذكرًا خالصًا أو أنثى خالصة، بل الاثنين معًا. وكل ما في الأمر أن إحدى الخصائص تتغلب دائمًا على الأخرى. [6]
ويذهب فرويد في: «تحليل المرأة إلى ما قبل تاريخها كامرأة، ونظرته تشريحية، والتمييز بين الذكر والأنثى هو التمييز من حيث أن الحيوان المنوي نشيط، والبويضة مستقبِلة، والذكر يُطارد الأنثى بغاية التواصل الجنسي، إذن الفعل الجنسي فيه عدوان». [7]
وحسب المرنيسي، يذهب فرويد إلى أن البظر زائدة قضيبية لدى المرأة، وإنها نتيجة لذلك تتسم بالازدواجية أكثر من الرجل، فالرجل لدية منطقة تناسلية، أي عضو جنسي واحد، في حين تملك المرأة منطقتي المهبل والبظر، والبظر يتم كبته ولا ينمو في مرحلة البلوغ لدى الفتاة، عكس الرجل الذي تقوى طاقته الجنسية أوجّها، مقابل المرأة التي ترفض ذاتها وتنفي خاصيتها الجنسية، ولذلك فإن المرأة ذات طبيعة سلبية وبرود جنسي. ومن هنا أصبح اللقاء الجنسي بين الطرفين لقاء اعتداء وخضوع والمرأة فريسة للرجل. [8] ويُفضِّل فرويد «التسامي بالغرائز، وخاصة الجنسية، وحتى لو كان في اضمحلال الغرائز نهاية للجنس البشري، حيث الشاهد أن الشعوب الأقل رقيًا أكثر خصوبة من الشعوب الأكثر رقيًا». [9] «ولولا هذا التسامي لما كانت الحضارة». [10] وكأن فرويد يريد أن يقول إن الحضارة والعلم بديل عن الإشباع الغريزي. فيبدو لي أنه ليست الحضارة في حد ذاتها أو العلم وتطوره، ولكن كلما كان الإنسان أكثر شعورًا بالعوز والحاجة كان أكثر نهمًا في الاستمتاع الغريزي.
ترى المرنيسي أن رؤية الغزالي قائمة على مبدأ الشراكة بين الجنسين، فتقول: «إن نظرية الغزالي التي تقوم على أن الرجل والمرأة يساهمان معًا في حياتهما الجنسية التي تنتمي إلى النوع نفسه». [11] فيعرض الغزالي الحدود الشرعية التي تُنظِّم العلاقات الجنسية في إطار الدين فيقول في كتابه «إحياء علوم الدين»:
وترتبط نظرية الغزالي ارتباطًا مباشرًا بين الحفاظ على النظام الاجتماعي وتحصين المرأة. فيوصي بضرورة حضور اللذة المُمهّدة للاتصال الجنسي بالنسبة للمرأة، حتى يتم إنقاذ المجتمع من فتنة النساء. [13]
أمّا فرويد، يجد في تقسيم الحياة الجنسية لدى الإنسان إلى قسمين: مذكر ومؤنث، وربط أحدهما بالفاعلية والثاني بالسلبية، وهو يعتبره لقاء تناقض بين الاعتداء والخضوع. وأنه قد هاجم الجنس وعدّه حقيرًا لارتباطه بالحيوانية، وحكم عليه بأنه مضاد للحضارة، ولذا انقسم الفرد إلى شطرين متناقضين: الروح والجسد. وإن انتصار الحضارة من هذا المنظور يعني ضمنيًا انتصار الروح على الجسد. [14]
لم تهاجم المجتمعات الإسلامية الحياة الجنسية ولم تحط من شأنها، على نقيض المسيحية التي تتعامل مع الجسد باعتباره مدنسًا، ولكنها هاجمت المرأة كرمز للإغواء والفتنة. وبالتالي، عليها أن تظل مخبأة بين أروقة الحريم.
انتقدت المرنيسي كلا من النظرية الإسلامية والغربية في نظرتهما إلى الحياة الجنسية للمرأة فتقول:
وتختلف النظرية الإسلامية عن التسامي اختلافًا جذريًا عمّا نجده في التقليد الغربي المسيحي كما تصوّره النظرية الفرويدية في التحليل النفسي. فالحضارة لدى فرويد حرب ضد الجنس، وهي طاقة جنسية حُرِّفت عن هدفها الجنسي نحو أهداف اجتماعية سامية لم يعد لها طابع جنسي. والحضارة في النظرية الإسلامية نتيجة لإشباع الطاقة الجنسية، فليس العمل نتيجة للحرمان الجنسي، ولكنه نتيجة لممارسة جنسية مشبعة ومنظمة. [16] وبذلك تطرح المرنيسي فكرة أن الإسلام هو «إحدى الديانات النادرة التي جعلت من الاختلافات بين الجنسين هندسة اجتماعية». [17]
ونري مساواة ضمنية بين الرجال والنساء متمثلة في وجهة نظر الغزالي الإسلامية لأن الاختلافات الجنسية بين الرجل والمرأة ليست نابعة من الإسلام بل هي حصيلة عملية اجتماعية، وأن النظرة المسيحية للاختلافات الجنسية متمثلة في نظرة فرويد تتضمن أن الاختلاف بين الجنسين الذي بدوره ينتمي إلى مجال الطبيعة.
- بيار بورديو، الهيمنة الذكورية، ترجمة/ سليمان قعراني، المنظمة العربية للترجمة، توزيع: مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 2009م، ص27.
- عائشة بلعربي، المرأة والسلطة، ترجمة فاطمة الزهراء أزرويل، الدار البيضاء، 1990، ص 84.
- فاطمة المرنيسي، ما وراء الحريم الجنس كهندسة اجتماعية، ترجمة فاطمة الزهراء أزرويل، المركز الثقافي العربي، ط4، 2005، ص 22.
- المرجع نفسه، ص25.
- أبي حامد الغزالي، إحياء علوم الدين، طبعة خاصة بمناسبة مرور تسع مئة سنةٍ على وفاة حجة الإسلام الغزالي، كتاب آداب النكاح، م3، دار المنهاج، جدة، ط1، 2011م، ص 204.
- فاطمة المرنيسي، ما وراء الحريم الجنس كهندسة اجتماعية، ص22، 23.
- عبد المنعم الحنفي، المعجم الموسوعي للتحليل النفسي، مكتبة مدبولي، 1995م، ص 290-291.
- فاطمة المرنيسي، ما وراء الحجاب، الجنس كهندسة اجتماعية، ص26-27.
- عبد المنعم الحنفي، المعجم الموسوعي للتحليل النفسي، مرجع سبق ذكره، ص491.
- عبد المنعم الحنفي، الموسوعة الفلسفية، دار المعارف للطباعة والنشر. سوسة-تونس، 1992م، ص309.
- فاطمة المرنيسي، الجنس كهندسة اجتماعية، ص 26.
- أبي حامد الغزالي، إحياء علوم الدين، مرجع سبق ذكره، ص 199.
- فاطمة المرنيسي، الجنس كهندسة اجتماعية، ص 28-29.
- المرجع نفسه، ص26.
- المرجع نفسه، ص33-34.
- المرجع نفسه، ص34.
- فاطمة المرنيسي، السلطانات المنسيات نساء رئيسات دولة في الإسلام، ترجمة جميل معلي، عبد الهادي عباس، دار الحصاد. 2000، ص 101.