الانتخابات الهولندية: فيلدرز في المقدمة ورعب يجتاح أوروبا
أسوأ ما يمكن أن يصيب الديمقراطيات الليبرالية الغربية أن تتبخر الحواجز تدريجيًا بين يمين ويسار الوسط، فتنحرف التكتلات السياسية، لتكون على أساس الدين والهوية والقيم، بدلًا من أن تتركز على الأيديولوجيا كمناطٍ للتباين. هذا بالضبط ما وقعت فيه السياسة الهولندية، لتنتظر مصيرًا سوداويًا؛ وليس أسوأ من أن يفوز اليمين المتطرف بأغلبية الانتخابات البرلمانية في واحدة من دول التأسيس الأوروبية الـ6 «فرنسا، وهولندا، وبلجيكا، ولوكسمبورج، وإيطاليا، وألمانيا»، في انتظار مارين لوبان، مايو/آيار المقبل.
فمنذ عام 2002 وحتى عام 2012، لم تتم أي من الحكومات الهولندية فترتها (الـ4 سنوات) كاملةً، فشهدت البلاد 5 انتخابات برلمانية، ويُعزا هذا بالطبع للتحالفات الهشة التي تخرج من رحم هذه الانتخابات، حتى كانت انتخابات 2012، واستطاع حزب الشعب للحرية والديمقراطية (VVD) الواقع على يمين الوسط، التصدر بحيازته 40 مقعدًا من أصل 150 مقعدًا، هي كامل عدد المقاعد، يليه مباشرةً حزب العمل (PvdA)، ممثلًا ليسار الوسط، بـ35 مقعدًا، ليعقد زعيم الحزب اليميني الأول، مارك روته تحالفًا براجماتيًا متخطيًا لحاجز الأيديولوجيا مع نظيره زعيم حزب العمل، لودافايك أشر، مطيحًا بحزب النداء الديمقراطي المسيحي (CDA) الحاصل على المركز الرابع بـ13 مقعدًا.
الأمر الذي سهل لمقاعد المعارضة أن تُشغل، بخامس الأحزاب على قوائم النتائج، حزب الحرية وزعيمه اليميني المتطرف خيرت فيلدرز، وفي ظل مستنقع المشكلات التي تورطت فيه أوروبا مؤخرًا ليس أسهل من الجلوس على مقاعد المعارضة.
أن يكون دونالد ترامب مثلك الأعلى
الجهاديون والمتطرفون العرب على أبواب هولندا، يريدون غزوها وسياقة شعبها بسلاح الإرهاب؛ هكذا تكون الصورة عندما يتحدث فيلدرز عن المهاجرين. رجلٌ شعبويٌ دخل السياسة من باب العداء للمهاجرين، والمؤسسية الأوروبية، معلنًا رغبته في الانعزال عن التكتل الأوروبي، وهو متزوجٌ من مجرية، أُدين بإدلائه بتصريحات عنصرية تجاه المغاربة، ولم يقتصر الأمر عند هذا الحد، حتى هاجم القضاة ناعتًا إياهم بـ«كارهي حزب الحرية»، ومتهمًا البرلمان الهولندي – الذي هو أحد أعضائه – بالبرلمان الوهمي.
ولا يتورع فيلدرز عن نعته للجالية المغربية بـ«الحثالة»، بقوله: «هناك الكثير من حثالة المغاربة في هولندا، وهم الذين يجعلون شوارعها غير آمنة»، وجدير بالذكر أن الجالية المغاربية هي الأكبر في هولندا من غير الأوروبيين، وقد بلغ تعدادها 167.000 طبقًا لإحصاءات عام 2011.
لم يقتصر حد التشابه بين فيلدرز وترامب عند كونهما شعبويين معارضين للمؤسسية ولهذا العالم الذي انتهجته حقبة ما بعد الحرب الباردة، وكرههم المبالغ فيه تجاه المهاجرين والمسلمين والعرب، حتى تشابها في قربهما من مواقع التواصل الاجتماعي، وابتعداهما أو كرههما للمؤسسات الصحفية التقليدية. فحساب فيلدرز على تويتر حيويٌ بالتصريحات السياسية، المعبرة عن سياساته العدائية الخالصة، فكلاهما يؤمن بأن ما يمكن لتغريدة على موقع تويتر فعله أكثر بكثير من تتبع القنوات الفضائية والصحف المُسيسة.
وكانت عنصرية فيلدرز قد جلبت عليه الكثير من الهجوم، وحاولت بعض جماعات المهاجرين اغتياله، والتخلص منه، وهو ما يجعل ظهوره في الإعلام وعلى منصات الدعاية أمرًا استثنائيًا، حتى نشرت «ذا فاينانشيال تايمز» الأمريكية تقريرًا تتحدث فيه عن القبض على واحد من أفراد الشرطة الموكلين بحماية فيلدرز بتهمة تسريب معلومات بشأن تحركاته، وأشارت التحقيقات إلى أن الشخص محل الشك/ الاتهام ينحدر من أصول مغربية.
اقرأ أيضًا:قبل أن يحكم اليمين المتطرف عاصمة أوروبية
وكما هو واضحٌ في تصريحاته، التي يطلقها تباعًا وبإفراط شديد على مواقع التواصل الاجتماعي، فإن فيلدرز من المتوقع أن ينتهك حقوق الإنسان إذا ما تولى الحكومة، الأمر الذي يبدو صعب الحدوث، كما سنُبين لاحقًا. و يؤكد موريس دي هوند، خبير استطلاعات الرأي الأبرز في هولندا، على أن مؤيدي فيلدرز يحبون ما يقوله، ولا يشغلون أنفسهم بتفاصيله.
منتصرون رغم الهزيمة
لأنه لا يمكن التعرض للانتخابات الهولندية بمعزل عن الظرف العالمي، والأوروبي على وجه الخصوص، فلا أحد يمكنه أن ينكر العاصفة الوجودية التي تجتاح الاتحاد الأوروبي بعد الخروج البريطاني، وهزيمة ماتيو رينزي في الاستفتاء الدستوري 4 ديسمبر/كانون الأول الماضي، وما نتج عنه من استقالة حكومة يسار الوسط التي تزعمها رينزي، في جولة ثانية تقدم فيها اليمين الشعبوي على تيارات الوسط، لتأتي الانتخابات الهولندية، تليها الفرنسية.
اقرأ أيضًا:استفتاء إيطاليا: هل يؤدي إلى خروجها من الاتحاد الأوروبي؟
الأمر أشبه إذن بلعبة الدمينو، تتساقط أوراقها تباعًا، لكن بالنظر للحالة الهولندية، فدمج تيار يمين الوسط ويسار الوسط في حكومة «روته» 2012، جعل الأصوت الغاضبة من الأداء الحكومي تميل تلقائيًا للمعارضة الحقيقية التي شكلها حزب فيلدرز، وهو الخطأ الذي تدفع ثمنه اليوم أحزاب الوسط، لكن ثمة طبيعة استثنائية لحياة هولندا الحزبية، تمنع الكارثة من الوقوع، ألا وهي تعدد الأحزاب وتفتتها.
إذ بلغ عدد الأحزاب المتقدمة لخوض السباق، المزمع انطلاقه منتصف مارس/ آذار الحالي، 81 جزبًا، 28 فقط استوفوا الشروط المستحقة، فيما لم تتمكن الغالبية من المشاركة، إما لضعف الإمكانات المادية، وعدم قدرتهم على دفع الرسوم المطلوبة، أو عدم تمكنهم من الحصول على الدعم المطلوب من الدوائر الانتخابية، وبعضهم قرر الانسحاب لانعدام فرصه في المنافسة.
هذه الأحزاب الـ28 التي حجزت مكانها في المنافسة، تذهب جميع استطلاعات الرأي التي أُجريت على مدار الأشهر، التي سبقت الانتخابات، إلى احتلال حزب الحرية لصدارة النتائج المتوقعة، ومن المتوقع أن يحصد ما بين 24 و28 مقعدًا في البرلمان، من أصل 150. يليه حزب الشعب للحرية والديمقراطية (VVD) الحاكم، والذي من المتوقع أن تكون حصته ما بين 23 و27 مقعدًا.
اللافت للنظر – وفقًا لهذه الاستطلاعات – أن أيًا من الأحزاب المتصدرة لن يمكنه تشكيل الحكومة بمفرده، ولن يقتصر تشكيلها على التحالفات الثنائية كما حدث في 2012، إذ سيتعدى الأمر لما هو أبعد، مما يجعل تحالف الحكومة هشًا في النهاية. ولأن أيًا من الأحزاب الكبيرة يرفض مصافحة فيلدرز، والدخول معه في تحالف لبناء الحكومة، فسيكون رغم صدارته جديرًا بمقاعد المعارضة، لكن بالطبع سيشكل فوزه في الانتخابات – إذا ما حدث – ضربةً للمؤسسية الأوروبية، لاسيما ونحن على بعد أيام من المعركة الفرنسية المنتظرة في مايو/ آيار المقبل، حيث تبدو «سكة» لوبان للرئاسة خضراء، لو لم يدركها إيمانويل ماكرون، بعد أن قُضي على فيون سياسيًا بقضية التوظيف الوهمي لزوجته.
ويراهن فيلدرز على هشاشة الحكومة المرتقبة بعد الانتخابات، إذا ما كان السيناريو – بالأعلى – أمرًا واقعًا، وعليه يرفض أن يتنازل عن حزبه أو قناعاته لأجل التحالفات، قائلًا: «حكومتهم ستكون هشّة ولن تتجاوز العام الواحد»!