خلال سنوات دراستنا
هدأت جميع الأصوات لدخوله والتفتت إليه الأوجه مراقبة له؛ رجل يبدو عليه الاستياء والغضب؛ الابتسامة ترفض أن ترسم ملامحها على وجهه وكأنه مجبر على دخول هذه المحاضرة، بدأ كلامه بعرض قائمة طويلة من الأشياء التي لا يحبها في المحاضرة، ثم ألقى بعض التهديدات والوعيد للطلاب كأنه يشهر سيفه معلنا بدء حرب نفسية بينه وبين طلابه.
في جانب آخر من الجامعة كادت قوة الأمل والتفاؤل ممزوجة بنوع من الحماس أن تهدم جدران القاعة التي يرأسها ذلك المحاضر ذو الوجه المبتسم الذي يبعث بكلماته طاقة إيجابية في طلابه كفيلة بجعل عقولهم على أتم الاستعداد للتركيز والفهم، محولا ذلك القلق في نفوسهم إلى راحة نفسية ودفعة معنوية لتلقي المعلومات.
مرت علينا جميعا العديد من السنوات الدراسية، ومنا من لما ينه دراسته بعد؛ في هذه السنوات الطويلة فرض علينا مواد علمية كثيرة منها الذي أحببناه واستمتعنا بدراسته، ومنها الذي كرهناه وكان مثل ذلك الطعام الذي يقف في طريقه للمعدة فنبتلعه بصعوبة.
ولكن ما لفت انتباهى وجذب تركيزي ليس هذه المواد الدراسية، وليس صفحات الكتب التي تنهمر منها المعلومات؛ ولكن بعضا من المعلمين الذين ساهموا في تكوين شخصياتنا وكانوا قدوة يحتذى بها وتعلمنا منهم على المستوى الأخلاقي قبل العلمي.
أولئك الذين يبدأون كلامهم بابتسامة بسيطة وكلمات طيبة تحطم هاجس الأستاذ ذي العصا الذي هدفه معاقبة الطلاب، وتحويل هذا الهاجس إلى علاقة أب يعامل أبناءه أو أخ أكبر يعامل إخوته ويريد تعليمهم الأخلاق السامية التي تنقي القلب والنفس البشرية قبل المواد الدراسية التي تملأ العقل بالعلم الغزير.
هؤلاء المعلمون لن تنساهم ذاكرتنا، وعندما تتذكر الأشخاص الذين لهم فضل عليك وأثروا في حياتك سوف يكونون أول من يطرق باب ذكرياتك؛ سوف تتذكر سلوكياتهم ومواقفهم الجلية التي أثرت فيك، ثم تدعو الله لهم دعوة من القلب.
يمتاز هؤلاء المعلمون بأنهم قدروا أهمية المسئولية الواقعة عليهم، وأنهم يجب عليهم أن يكونوا قدوة لطلابهم وأن يتركوا أثرا عندهم؛ هدفهم تعليم الطلاب وليس تخويفهم وتهديدهم ببعض درجات التي ما هي إلا أرقاما تعبر عن مدى قدرة المعلم على توصيل المعلومة قبل التعبير عن استيعاب الطالب لها.
إنهم محوا فكرة الدكتاتورية من عقليتهم وأنهم في موضع سيطرة لذا وجب على الطلاب الانحناء لهم كأنهم ملوك في العصور القديمة، وعلموا أن الاحترام يجب أن يكون متبادلا، لذلك بدأوا باحترام طلابهم، فكان حقا على الطلاب أن يبادلوهم هذا الاحترام بنفس راضية، وليست مكرهة على ذلك.
ساروا على نهج أن القائد الحقيقي هو من يشعر رعاياه بالأمان لينتجوا أفضل ما عندهم؛ فأبعدوا الضغط النفسي والعصبي عن طلابهم حتى تصل إليهم المعلومة بيسر وتستقر في عقولهم، على عكس من يتعرض للتهديد والارتباك، فسوف يكره ما يتلقاه من العلم.
لننظر ونتذكر كم من مادة دراسية كنت تحبها بسبب المعلم الذي يدرسها لك وبسبب معاملته الحسنة لك ولباقي الطلبة؟ ببساطة شديدة لقد هيأ عقلك لاستقبال المعلومة مع جعلك تشعر براحة نفسية وتخليصك من أي ضغوطات قد تؤدي لعدم استيعابك.
وكم من مادة كرهتها بسبب المعاملة السيئة التي تلقاها من المعلم وتهديده لك بعقاب معين وإحباطه لك، الذي قد يؤدي في بعض الأحيان إلى فقدانك الثقة في نفسك وأنك قادر على النجاح.
هؤلاء المعلمون الناجحون يستخدمون صيغة «إن فعلت فسوف أكافئك» بدلا من «إن لم تفعل فسوف أعاقبك»؛ فدور المعلم هو تشجيع الطلاب وتحفيزهم على النجاح وجعلهم من محبي العلم والتعلم.
لقد أدركوا أنه لا فائدة من زرع كره الطلاب لهم، فحصدوا حبهم واحترامهم الكامل لهم ودعوتهم لهم عندما يتذكرونهم، وتخلصوا من صفة التكبر وأنهم أفضل من طلابهم، وتيقنوا أنها ليست منافسة بين الأستاذ والطالب ليثبت الأستاذ أنه أفضل من الطالب.
إنني لن أنسى هذا الأستاذ الجامعي الذي لم يكمل تدريس طلابه بسبب كبر سنه، وأن قدرته على توصيل المعلومة قد ضعفت، لذلك وجب عليه تحميل المسئولية لشخص آخر قادر على ذلك حتى يستفيد طلابه وتصل إليهم المادة العلمية كاملة، وكثيرا من المواقف الأخرى التي اتخذت مكانا دائما في عقولنا بسبب عظمتها ورقيها.
لذا يجب على المعلم أن يصبح منبعا للتحفيز والتشجيع لطلابه، وأن يبعد عنهم أي ضغوطات نفسية قد تعرقل مسيرة تحصيلهم للعلم، وفي المقام الأول أن يكون قدوة في الأخلاق النبيلة، فهو صاحب رسالة سامية تكمن في تربية وتعليم أجيال.