«خنفساء الروث»: الوجدان يتجسد فنَّا
هذا هو التذييلُ الذي وضعه النَّاشر على الغلاف الخلفي للمجموعة القصصية المروِّعة «معرض الجُثث» للسيناريست والكاتب العراقي حسن بلاسم. ربَّما يمكن اعتبار هذا التذييل نوعًا من الدعاية المدروسة للكتاب يمارسها الناشر بحذق. أنا شخصيًا اعتبرتها كذلك، ويبدو أنني لستُ الوحيدَ في ذلك. غيرَ أنّك حين تتوغَّل في قراءة قصص المجموعة تكتشف جدَّية هذا التحذير؛ بالتأكيد لن تتوقَّف عن إكمال القراءة، لكنَّك أيضًا ستحاول أن تكون حذِرًا، ثم تكتشف أن الحذَر لا يُنجي من الانغماس في عالَم هذه القِصَص حتى النهاية. هذه القصص التي وصفها الروائي البريطاني جويديب روي بأنها «جورنيكا[1] مذهلة وعنيفة»، «…مستلَّة من قبح وشراسة الحياة وسفالات التاريخ» كما يشخِّصها عدنان المبارك.
حسن بلاسم، أول كاتب عربي يحصل على جائزة الإندبندنت المرموقة، وصفته صحيفة الجارديان بأنَّه «أفضل كاتب عربي على قيد الحياة»، ووصفه براين كستنر بـ «الغريزي والعبثي والمليء بالرعب، هو كافكا العراقي مع لمسة إضافية من إدجار آلان بو». ينتهج طريقًا سرديًا غريبًا، لا يكتفي فيه بصراع اللغة مع الرمز، أو الوجود مع العدم، بل يضعك في بؤرة صراع الصورة مع الواقع، بل وصراع الحقيقة ذاتها مع الواقع. ذلك أنَّه لم ينقل فيها «ما رأى»، وإنَّما «ما جرى».. وكأنه يقول: هذا الواقع الذي تراه.. هل تريد أن تعرف حقيقته؟ هاكَ حقيقتُه، وأنت بالخيار: إمَّا أن تصدِّق وإما أن تكذِّب، لكنَّك في جميع الأحوال ستعاني وتتعذَّب، لأنك سترى ما رأى أشخاص القصص وستعيشُ أفكارهم، وتحسُّ مخاوفهم وآلامَهم، وستُلاقي معهم مصائرهم، قبل أن تفيق وتعودَ من حقيقتهم إلى واقِعك. لكنَّك لن تعود كما كنت، خاصةً بعد أن رأيتَ ما رأيت. ولن يفرِق كثيرًا أن تصدِّق ما جرى أو تكذِّبه. لقد انفثأَت فقَّاعاتُك النفسية ولَن تلتئم.
الُمعادل الموضوعي للوجدان
قِصص حسن بلاسم ليسَت تجريبية، لكنَّها أيضًا ليست مثالية فنِّيًا. فلا تجدُ فيها تلك البِنية السَّردية أو الحَبكة الملتئمة التي تمكِّنك من الحُكم عليها أو التسليم لها بالجَودة الفنيَّة. إنها قِصَصٌ شائهة تجسِّد التشوُّه وتنبني على التشوُّه، وإن كان يمكنك أن تستشفَّ نمطًا متكرِّرًا –وليس دائمًا- لهذا التشوُّه، يتجلَّى في الطريقة السَّردية لحكايات قصصه. فهو لا يأخُذك إلى الحكاية محور القِصَّة مباشرةً، وإنَّما يُدحرجك إليها عبر حكايةٍ مَدخَليةٍ مثيرةٍ جذَّابة مبتورةٍ، تأخذك إلى الحكاية المحورية التي تنبتر بدورِها في لحظةٍ معيَّنة – يكونُ القارئ قد تورَّط فيها داخل الحكاية تمامًا-، وينبترُ معَها السرَّد بالكامل، ولا تنغلق الحكاية المَدخلية الأولى ولا تجدُ أيَّة إشارة إليها غالبًا. فما الفارقُ الذي ستُضيفه النهايات إذا كان في الحكايات المسرودة من الفداحة ما فيها؟! لا شيء، خصوصًا إذا كان المقصِد أن يُتركَ القارئُ عالقًا هناك، في قلبِ الحكاية.
أسهَمت خبرةُ حسن بلاسم وتجربته المروِّعة في العراق في عهد صدَّام ثم تحت الاحتلال الأمريكي للعراق ثم هروبه إلى أوروبا عبر عددٍ من الدول قبل أن ينتهي كلاجئ في فنلندا. أسهَمَت تلك الخبرة المروِّعة ولا شكَّ في التأثير على عقل بلاسم ومُنتَجه الإبداعي بشكلٍ متمرِّدٍ مخالفٍ تمامََا للمألوف. هذه الخبرات والتجارب لا تُخلِّف وراءها عقلاً طبيعيًا. وإذا كان د. شاكر عبد الحميد يؤكِّد في كتابه «الأدب والجنون» أنَّ «النظام في العمل الفنِّي نظامٌ خاص دائمًا، يطمح للجدَّة والأصالة والمعاصرة، والنفاذ إلى أعماق الذات والواقع والحياة.. ويقوم على أساس تأكيد الحساسية الانفعالية والخيال الطليق للفنان»، فإن بلاسم لم يلتزم بهذا النظام الخاص؛ وإنما التزم بتوفير المعادِل الموضوعي لكل تجربة تضمَّنتها قصَّة من قِصَصه، والقاسِم المشترك بينها جميعًا هو التشوُّه النفسي والقسوة والقبح الذي تجسِّده التجربة وتخلِّفه في وجدان صاحبها، ويبوء به وجدان متلقِّيها وقارئها وسامعها.
يقول الناقد الأمريكي النافذ توماس إليوت: «الوسيلة المُثلى للتعبير عن الوجدان في الفنِّ هي إيجاد معادل موضوعي.. أو بعبارة أخرى: بخلق جسم محدَّد أو موقف أو سلسلة من الأحداث تعادل الوجدان المعيَّن الذي يُراد التعبير عنه، حتى إذا ما اكتملت الحقائق الخارجية التي لابدَّ أن تنتهي إلى خبرة حسيَّة = تَحقِّق الوجدان المطلوب إثارته». وهذا عَين ما انتهجه حسن بلاسم في أغلب قِصصه في هذه المجموعة المثيرة الشائهة، بطريقةٍ لا يَسهُل معها أن نعتبر المعادل الموضوعي في حالته «نظامًا خاصًا»، خصوصًا مع التشوُّه والتشظِّي والفوضى النفسية المشبََعة بها قصصه.
إذًا، نحن أمام عامليْن رئيسييْن مُشتركيْن بين أغلب قِصص المجموعة: النمَط الشائه للسَّرد الذي يتكرَّر في أغلب القصص، والمعادل الموضوعي الذي تتجسَّد على أساسه كل قصَّة وتأخذ وجدانها الشائه الخاصَّ بها، الذي ينعكِس بدوره على الطريقة السَّردية بشكل يُخرِجها عن النمَطِ المتكرِّر في أغلب القِصص.
داخل عقلٍ مريضٍ
من بين قصص مجموعة «معرض الجثث»، تُمثِّل قصَّة «خنفساء الرَّوَث» نموذجًا خارقًا لمسألة المعادل الموضوعي. وسواءٌ كانَ تقديم الإفصاح عن النتيجة أفضل أو تأخيره.. فإن هذه القصّة جاءت معادلاً موضوعيًا شديد المطابقة لمرض الاضطراب الوجداني ثنائي القُطب (Bipolar Disorder). وأنت هنا في هذه القصّة لستَ أمام نصِّ يرصد أو يشخِّص أعراض المرض، وإنما أنتَ داخل عقل المريض تتلبّس بأفكاره ولغته وهواجسه بشكلٍ تلقائيٍ للغاية. نصٌّ لا يمثل معادلاً موضوعيًا لأعراض المرض، وإنما هو معادلٌ موضوعيٌ للمرض ذاته. فقط عندما تُنهي القصّة وتكون خارج عقل الشخصية، يمكنك أن تحاول التوصُّل إلى تشخيص أعراض هذه الحالة التي تلبَّست بها منذ قليل؛ للتعرُّف عليها.
وكأنّك صِرت داخلَ عقلٍ مُسترخٍ على شيزلونج، يخاطبُ بطل القصَّة طبيبه النفسي عن القِصص وأنواعها. طبيبه النفسي هذا انشقّ نصفين في حادثة مرورية مُفجِعة أمس، حارقا بسيارته حافلة أطفال المدرسة. فجأة يتحدّث البطل عن خنفساء الروث التي تعيش في الصحراء الأفريقية وتضع بيضها داخل كريات صغيرة من الروث. فجأة يتحدّث عن غرامة مالية من المستشفى بسبب تخلفه عن موعد كشفه المقرَّر مسبقًا. فجأة يراجع قسوة قلبه وطموح زوجته في افتتاح مطعم عراقي. فجأة يتحدَّث باعتباره رائد فضاء يراقب كوكبًا عليه ستةً كائنات على ضفاف نهر أحمر متجمّد. رائد الفضاء هذا مهتمّ بالشعر، يُحرز اكتشافًا لغويًا جديدًا فيدبّ الذعر بين سكّان المجرَّة، ويكون الحل: لا بدَّ من عودة كتابة الشعر. فجأة يتحدّث عن ضنكه بأحواله الشعورية وأنّه لا ينام. فجأة يتحدث عن رغبته الدافئة ومشاعره الجميلة ورغبته في تقبيل كلّ الناس وكل تفاصيلهم ومقتنياتهم الصغيرة، بكلّ الحبّ. فجأة تنقشع كل هذه الرغبات الدافئة وتحلّ محلها رغباتٌ مُرعبة مؤذية لكلّ الناس ولكل مقتنياتهم. فجأة يتحدّث عن تاريخ أسرته في بغداد. فجأة يحاضرنا عن السموم وأنواعها. فجأة يحكي عن تعلّقه بمقتنيات روّاد المقهى الذي يرتاده بالساعات. فجأة يستدعي قصّة السمكة المسمومة التراجيدية من التراث الشعبي العراقي. فجأة يذهب إلى قصة فأرة كافكا. أخيرًا: يستجدي طبيبه الذي مات بالأمس ليُخرجه من كرة الروث، وكأنّما استحالت كينونتُه بيضةً من بيض الخنفساء.
حسنًا، هذه اللمحات المختصرة المتقافزة بين مقاطع القصّة، تخبرك لأول وهلة أنّ الشخصية هنا تتكلّم بسرعة عالية في أفكار متلاحقة، وتقفز بسرعة شديدة من فكرة لأخرى دون وجود رابطٍ منطقي لهذا الانتقال. وهذه واحدة من أبرز أعراض الاضطراب ثنائي القطب. غير أنّ هذا العرَض يشترك فيه الاضطراب ثنائي القطب مع تشخيصات أمراض نفسية وذهنية أخرى خصوصا في حالات الفصام. ما الذي يجعلنا نجزم أن الشخصية في هذه القصة تعاني اضطراب ثنائي القطب وليس مرضًا آخر؟!لِنُعاينِ الأمرَ.
الاضطراب ثنائي القطب
هو مرضٌ نفسي يعاني فيه المريض حالة تبدّلات مزاجية قًصوى غير طبيعية، وأحيانًا عنيفة، تنتقل به من أحد أقطاب الاضطراب (نوبة الهوس) إلى القطب الآخر (نوبة الاكتئاب)، في دورات تقلّب مزاجية قد تستمرّ أيامًا أو أسابيع أو شهورًا، بخلاف تقلّبات المزاج العادية. لهذا يُعرَف بثنائي القطب. ولـنوبة الهوس أعراض، أبرزها: ارتفاع المزاج وشدة التفاؤل والسرور العارم، النشاط غير العادي، معتقدات مبالغ فيها حول قدرات الشخص وطاقاته، قلّة النوم مع الشعور بطاقة عالية، التكلّم بسرعة شديدة لا يستطيع الآخرون متابعتها، أفكار متلاحقة مع القفز غير المنطقي من فكرة لأخرى، قلّة التركيز وسهولة التشتيت، الاندفاع والأحكام غير المنطقية، التصرف الأهوَج غير المحسوب. في حين تتمثّل أبرز أعراض نوبة الاكتئاب في: شعور باليأس والحزن أو الفراغ، النزق والهياج، الشعور بالتفاهة والذنب، فقدان الشعور بالمتعة، التعب وفقدان الطاقة، الخمول البدني أو العقلي، تغيرات في الشهية والوزن، اضطرابات تزايد النوم، صعوبة التركيز والتذكر واتخاذ القرارات، التفكير بالانتحار أو الموت. وهذه الأعراض مجتمعةً يتميّز بها الاكتئاب ثنائي القطب عن الاكتئاب العادي.
في سردنا السريع للمحات من مقاطع القصّة، ظهرت أعراض التكلّم بسرعة شديدة والقفز بين الأفكار بدون روابط منطقية، كواحدة من أعراض الاضطراب ثنائي القطب.
وتظهر الأعراض الأخرى للاضطراب ثنائي القطب – بقطبيه الهَوَسي والاكتئابي- ، مجسّدة في سياق القصّة. فمثلاً نلاحظ في قوله: «لا يمكنني أن أكتب قصّة لكني مستعدّ للتدخّل في قضية الأدب» معتقدات مبالغ فيها حول قدرات الشخص وطاقاته. ونجد انتقالاً من ارتفاع المزاج وشدة التفاؤل -نوبة الهوس- في قوله: «لم يعثر على الجواب، بل محض أحاسيس غامضة لا تعينه في تفسير قسوة قلبه وهروبه المتواصل من الماضي. لكن ألم يُرد أن يختار بنفسه حياته ويكون سيّدها»، إلى شعور باليأس والحزن -نوبة اكتئاب-في قوله: «وأخيرًا تهاوى الحلم الذي دمّرتُ من أجله حياتي. الآن صار لديّ حطامان: حياتي والحُلم».
أيضًا، نجدُ انتقالاً من النزق والهياج -نوبة اكتئاب- في قوله: «لا أريد النظر بصفاء وهدوء، لقد تعبت، أريد أن أصرخ. أنا مثل أيّ واحدٍ منكم، حشدٌ من القردة الفصامية تعيش في جسدٍ واحد. أنا سمكة تحترق في فرن، بينما المطر ينهمر في الخارج»، إلى ارتفاع المزاج وشدة التفاؤل -نوبة الهوس- في قوله: «دكتور! هل تعرف أني حين أخرج من البيت ويلامس وجهي الهواء البارد تفيق تلك الرغبة. مياهٌ دافئةٌ تصعدُ من ينابيع مجهولة إلى رأسي. أفقد ثقل جسدي، ثم أشعر أنني صِرتُ غيمةُ بوذيّة. كيف أوضّح لك الأمر!»، ويُتبعها مباشرةً بما يجسّد قلّة التركيز وسهول التشتيت كعَرض مشترك بين الهوس والاكتئاب في قوله: «اُنظر، هو ذا طائر نورس يخطف من مجموعة عصافير قطعة خبز صغيرة ويصعد بها إلى سطح القطار».
كما نجدُ تجسيدًا لاضطرابات النوم، كعامل مشترك بين نوبات الهوس والاكتئاب، بقوله: «أنا يا أمّي لا أنام. هم يريدون تنويمي عنوة»، «…زوجتي وأصدقائي ورئيس جمعية الدفاع عن المنحوسين، يصلّون كلهم كي أنام، وأقبل قسمتي في الحياة»، «…هناك فارزةٌ شوكيةٌ في دماغي تمنعني من النوم».
وتتجلّى أعلى أعراض الاضطراب ثنائي القطب في الانتقال بين حالَتين مزاجيّتين شديدتي التطرّف والنزق. الأولى يجسّدها قوله: «دكتور! أستطيع أن أسمّي مشاعري حينها بالرغبة في التقبيل… أن أستوقف الناس لتقبيل أياديهم، أحذيتهم، ركبهم، حقائبهم… قبلات من دون مقابل، قبلات حزينة ومُخلصة». وتأتي الثانية على نقيضها تمامًا: «دكتور! ثم تنقشع هذه الرغبات تمامًا كما يحصل لسماء صافية اقتحمتها عصابة من الغيوم البدينة الوقحة. شيءٌ ما شبيه بالتعذيبب يحدث لي كما لو أنّ سجانًا وحشيًا يقلع أظافري… لذا أريد هذه المرّة استرداد قبلاتي المجّانية تلك. أريد أن أقطع خصيتي ذاك الرجل المسرع… أريدُ أن أغرز أظافري في وجه ذاك الطفل الذي تدفعه أمّه صوب محطّة المسافرين».
ثم يحاول أن يقدّم بعدها تفسيرًا غير منطقي لتصرفاته الهوجاء غير المحسوبة تلك: «كل حركة يا دكتور، كل إشارة مهما كانت بسيطة أو تافهة تسبّب لي صداع الحب. لذا أحاول أن أبدو كحاقدٍ بالغريزة. لكن ما معنى ذلك؟ لا أدري!».
والرجلُ الذي يبدأ متساميًا – في نوبة هوَس- «يقرأ في موسوعة سميكة عن الحشرات وهو يتحسّر على حال البشر»، ينتقل به الحالُ بأن «يحلم بأنه أصبح من أجنّة الروث المدفونة في الأرض، وأنّه الآن داخل بيضة. تخيّلَ أنّ الألم هو خنفساء عملاقة صارت أمّه»،ليعترف في حالة من التفاهة والخمول العقلي –نوبة اكتئاب- بـ «أعلن لكم بأنّي من صنف المرضى المذعورين، من صنف الفئران الكافكوية، سلالة مطاردة إلى الأبد. نأكل بسرعة وخوف، ننام بعيونٍ نصف مغمضة، وأبطال كوابيسنا قطط شريرة ومصائد من أسلاك شائكة»، ثم يختم مستجديًا في نوبة اكتئاب مشبَّعة بالشعور بالتفاهة والذنب والتعب وفقدان الطاقة: «والآن يا دكتور، أخرجني من كرة الروث، أرجوك».
لقد استحالت كينونته إلى بيضة خنفساء داخل كرة الرّوث.أخيرًا، هذا نصٌ رائعٌ متطرّف يجسّد معادلاً موضوعيًا للاضطراب ثنائي القطب، وليس هو النصّ الوحيد في المجموعة الذي ينطوي على هذه الروّعة المُخيفة. لذا أكرّر لكم نصيحة الناشر بأن تقرأوا الكتاب بحذر خشية أن يُفسِد عليكم ما تبقّى من حياتكم.