فيلم «Dune»: تاريخ من الاقتباسات السينمائية المرتبكة
في عام 1974 حصل تحالف من المنتجين الفرنسيين على حقوق تحويل رواية «كثيب – Dune» لفرانك هيربرت إلى فيلم سينمائي على أن يقوم بإخراجه المخرج التشيلي الشهير بأعماله الغرائبية أليخاندرو خودوروفسكي. لم تقتبس الرواية من قبل من الأدب إلى الشاشة، وسخر لها خودوروفسكي خططاً وطموحات كبرى تكاد تكون مستحيلة لصناعة نسخته الخاصة من عالم كثيب المعقد.
أراد تعيين فريق الروك الشهير بينك فلويد لتنفيذ الموسيقى المصاحبة للفيلم، وأراد للفنان السريالي الأشهر سلفادور دالي أن يقوم بأحد الأدوار التمثيلية، وظف أفضل الرسامين وخبراء المؤثرات البصرية لتنفيذ المعادل البصري للكواكب والشخصيات المتعددة في الرواية، لكنه لم يكن واقعياً في تصوراته. أراد أن يصنع تجربة روحانية مشابهة لأفكار الرواية التي تدمج بين سرديات الشخص المختار والتعقيدات السياسية للحكم، وهو ما لم يقنع استوديوهات هوليوود الكبرى بالموافقة، فذهب المشروع لمخرج سريالي آخر هو ديفيد لينش والذي صنع بها أحد أسوأ أفلامه، وألقى باللوم على التحكم الإنتاجي في المساومة على رؤيته الفنية فخرج المشروع اقتباساً كسولاً ذا بصريات ساذجة وحواراً كاشفاً طفولياً.
ظلت كثيب مشروعاً سينمائياً يملك إمكانيات غير محققة رغم وقوعها في أيدي بعض أفضل صناع الأفلام، فبنيت حولها أساطير كونها عملاً أدبياً يستحيل اقتباسه سينمائياً، لكن في عام 2021، حيث نشهد تطوراً تقنياً غير مسبوق وسهولة نسبية في تحويل التصورات الفنية إلى حقيقة مرئية، أخذ المخرج الكندي ديني فيلينوف على عاتقه صنع النسخة الحاسمة من كثيب. مشروع ضخم ذو تصميمات مهولة ومعارك ضخمة، تجربة سينمائية هائلة ومبهرة تنقل المشاهد إلى عالم آخر. ونظراً لكثرة تفاصيل الرواية انقسم الفيلم إلى جزأين أو ربما أكثر من دون ضمانات حقيقية لأن تخرج البقية إلى النور، فهل نجح فيلينوف فيما فشل فيه الآخرون أم أن أسطورة استحالة اقتباس كثيب مستمرة؟
أن تختار ترسيخ الاستعمار
تتكون رواية فرانك هيربرت من أجزاء عدة، فهي ملحمة ضخمة وممتدة، لكن لم ينل أي من الأجزاء التالية أهمية الكتاب الأول. تحكي الرواية باختصار قصة فتى يدعى بول أتريديس ينحدر من عائلة ملكية، أبيه الدوق ليتو حاكم كوكب كالادين، وأمه السيدة جيسيكا تنحدر من نسل غير معلوم لكنها تملك نشأة بخاصة طورت لديها قدرات خارقة فهي جزء من أخوية تدعى «بيني جيزيريت». أورثت جيسيكا تدريباتها لولدها لتصبح لديه قوة تساعده على تحمل مشقات الحياة كما أنها من الممكن أن ترجح كونه نموذجاً مخلصاً أشبه بالمسيح.
تبدأ الأحداث الرئيسية عندما تستدعي عائلة أتريديس من قبل إمبراطور كوني لتولي الحكم على كوكب صحراوي يدعى أراكيس، كوكب ذو ظروف مناخية ومعيشية قاسية لكنه يحوي مورداً ثميناً “تابل” يسمى ميلانج. يتيح التابل لمستخدميه قدرات هائلة تصل إلى السفر عبر المحجرات دون الحاجة للحركة، وإطالة العمر وزيادة القوة.
يقع أراكيس تحت حكم فصيلة أخرى تدعى الهاركونين تتكون من أناس شهيرين بالعنف بل والغذاء على الدماء ولحوم البشر يقودها بارون مهووس بالسلطة جشع وشبه مجنون. يسكن الكوكب سكانه الأصليين يدعون الفريمين، ينتظرون مخلصهم بحسب دين مختلق صاغه هيربرت بمزيج بين الأفكار الإسلامية والمسيحية فالشخص المختار والمخلص هو مسيح ومهدي منتظر.
تملك الرواية العديد من الأسماء والأفكار والأعراق المعقدة أليس كذلك؟ ربما يمثل ذلك جزءاً من صعوبة اقتباسها، ينتهج ديني فيلينوف، آخر المحاولين، اتجاهاً يعتمد على البصريات في المقام الأول. لا يمضي وقتاً طويلاً في التعريف بالبيوت الملكية الكبرى أو طبيعة الكواكب والشخصيات بل يهتم بكيف يبدو كل كوكب، ماذا يرتدي سكان كل منها وكيف يعرفون أنفسهم وعلاقاتهم العائلية، كيف تتحرك تلك الشخصيات في فضاءاتها المتنوعة وكيف يبدو الجو العام بين كوكب كالادين موطن عائلة أتريديس الذي تحيطه المياه وكوكب أراكيس الذي تمثل المياه فيه عملة نادرة.
تمتد خيارات فيلينوف الشكلية إلى كيفية اختياره لممثلي الأدوار الرئيسية والفرعية. يتصدر الملصقات الدعائية الممثل الصاعد تيموثي شالاميه، فتى أبيض البشرة ذو عينين خضراوين عميقتين تناسبا وصف هيربرت له، نحيف ويبدو فتياً على الرغم من قدراته العقلية الخارقة. يلعب شالاميه دور بول بمزيج من سذاجة الصبا والثقل غير المحتمل للنضوج في عالم يفرض عليه تولي مسئوليات كبرى. يلعب أوسكار أيزاك دور أبيه الدوق ليتو، وعلى الرغم من أهمية علاقته بولده فإننا لا نرى الكثير منه على الشاشة نظراً لاختزال دوره في تلك النسخة. وتلعب ريبيكا فيرجسون دور الأم التي تؤدي دوراً معقداً يمزج بين الحنان الأمومي والقدرة والجلد الذي يمدها بالإرادة لتعريض ولدها للآلام في سبيل أهداف أكبر.
لم يحدد هربرت في روايته ملامح عرقية لأبطاله أو لسكان الكواكب والبيوت الملكية الأخرى، لذلك يملك فيلينوف الحرية الإبداعية ليختار كيف سيبدو فريق عمله بأي شكل وأي لون ويتحمل كذلك مسئولية العبء التاريخي والاجتماعي لتلك الاختيارات، لكن لسبب مجهول وعلى الرغم من حساسية الزمن الذي نعيشه وحساسية موضوع الرواية الذي يلامس الأفكار الاستعمارية متمثلة في حكم عائلة خارجية لسكان أصليين يعيشون في بيئات صحراوية أكثر فقراً، اختار فيلينوف أن يجعل من الفريمين سكان أراكيس شعباً من الملونين المعذبين تحت حكم ظالم ينتظر الرجل الأبيض المتمثل في عائلة أتريديس ليحررهم من الظلم.
تثقل تلك الصورة على مشاهد الفيلم بخاصة وإن كان في ذلك الجانب من العالم الصحراوي، وتصبح عبئاً مستمراً طيلة الفيلم يجعل من التعاطف مع أبطاله مجهوداً مضاعفاً، بخاصة مع اختيارات فيلينوف الكتابية الأخرى التي تخفي كثيراً من الدوافع والصراعات الداخلية لدى بول وشكوكه في أساليب والده ومجلسه العنيفة الاستعمارية.
لا يمكن تبرئة هيربرت نفسه من النزعات الاستعمارية لكن أقله لم تستدعِ صوره تاريخ دموي من رغبات الجيوش الاستعمارية في تحرير أراض ذات سكان أصليين ملونين بشكل خاص وتعليمهم كيف يتولون أمورهم، بل اختار أن يصنع شعباً من وحي الخيال ذي أوصاف شكلية يصعب إسقاطها على الواقع، يزيد من سوء الصورة التي اختارها فيلينوف. التضاد ذو الماضي المروع بين اللون الفاتح لسكان كالادين والداكن للفريمين سكان أراكيس، الذين اقتصر وصفهم في رواية هيربرت على امتلاك أعين زرقاء لا بياض فيها نتيجة عيشهم وسط تابل الميلانج وتغلغله في دمائهم.
ليست تلك هي المرة الأولى التي تلوث فيها البروباجندا العرقية والقومية أفلام فيلينوف، ففي فيلمه الشهير «وصول Arrival»، توازي القصة الرئيسية لعالمة اللغويات العبقرية التي تفك طلاسم لغة جنس فضائي تتخطى لغته الزمان والمكان سردية أخرى عن تفوق الحكومة الأمريكية على نظيراتها الروسية والصينية، فمسئولو الحكومة الأمريكية متمهلون ذوو صدور واسعة وصبر مثير للحسد، لا ينهالون بالأسلحة على الغرباء أبداً، أما الحكومات الأخرى فهي متوحشة دون رحمة تريد قتل كل ما يختلف عنها. لا تتم مناقشة ذلك الجانب من سينما فيلينوف عادة نظراً لغلبة الإبهار البصري والامتياز التقني في مرحلته التكنولوجية المتضمنة «وصول» 2016، و«بليد رانر 2049» (2017) وأخيراً «كثيب» 2021.
المعادل البصري للنص
عند مشاهدة «كثيب» فيلينوف في قاعة عرض مظلمة، ربما تنسى أين أنت بالتحديد وكيف وصلت إلى هناك، ينقلك العالم البصري العابر للمجرات إلى مكان جديد كلياً محكم التفاصيل، ضخم للغاية حتى أنه يقزم الممثلين والمشاهدين. يمكنك أن تستشعر ملمس الرمال وحركة المروحيات ورائحة الدم. يخلق فيلنيوف كوناً متكاملاً من الملامس والأصوات والروائح، عالم حسي بالكامل لكنه في أثناء ذلك يغفل عن الشخصيات والصراعات الرئيسة فيصيبها تسطيح ملحوظ، فيصبح الفيلم أشبه بمعادل بصري للرواية وكأنه الرسوم المصاحبة لها وليس عملاً فنياً مستقلاً عنها.
لا يمكن تفسير ذلك بسطوة العمل الأدبي على نظيره السينمائي لأن تلك ليست أول رواية ذات أهمية يتم اقتباسها بذلك الحجم والكم من التفاصيل البصرية، يمكن بسهولة استدعاء اقتباس بيتر جاكسون لسلسلة «سيد الخواتم» للشاشة والتي على الرغم من شهرة وتأثير الوسيط الأصلي فإن الأفلام تقف بذاتها بعوالمها البصرية والسمعية وشخصياتها المحبوبة وصراعاتها الذاتية والسياسية.
يبدو كثيب نسخة فيلينوف تدريب غير كامل في تصور عوالم الرواية بشكل بصري يتجاوز كل التفاصيل الأدبية لكي يخلق الخلفيات التي تصاحبها، الأسلحة المستخدمة والملابس المطورة والكتب الفيلمية التي اخترعها هيربرت، كلها تتشكل في الفضاء الواقعي أمامنا بشكل مثالي لكن لا يبقى في الذاكرة إلا تلك الذكريات العابرة لمحركات الطائرات أو ديدان الرمال المخيفة. أما صراعات شخصية بول مع نفسه ومع أبيه وأمه فإنها تمر كأنها لم تحدث، أكثر العلاقات تأثيراً تحدث عندما ينفرد كل من بول وجيسيكا وحيدين في الصحراء هنا يمكن الشعور بديناميكيات علاقتهما وارتباكهما تجاه قدراتهما المتزايدة. تمر خيانات أقرب الشخصيات للعائلة وكأنها خطأ عابر وتصبح التيمات السياسية الرئيسية مجرد أحداث عارضة.
على الرغم من المجهود البصري المثير للإعجاب فإنه لم يتم استغلال الإمكانيات البصرية التي تمثلها أحلام بول. يملك بول القدرة العقلية على عبور الزمان والمكان، على المرور خلال الماضي والمستقبل، واقتناص لحظات من مصيره ومصائر الآخرين. يمكن تصور تلك الأحلام الكونية برؤية فيلينوف البصرية ومصمم إنتاجه باتريس فيرميت ومصوره السينمائي جريج فريجر وفريق ممتاز من خبراء المؤثرات البصرية في شكل ساحر يفتح العقل لتقبل خيال هائل يضعنا داخل عقل بول ويعبر بنا عبر فضاءات جديدة نرى فيها أجداده وأحفاده، كواكب لم تولد بعد، وميتات لم يعلم أصحابها مدى قربها، لكن عوضاً عن ذلك يختار فيلينوف أحلاماً هوليوودية متوقعة رومانسية تتوسطها فتاة جميلة من الفريمين تقوم بدورها الممثلة زيندايا، تتردد على أحلام بول تمثل مستقبله وترشد رؤاه.
ربما تكمن صعوبة الموازنة بين العالم البصري والعالم الداخلي للشخصيات في كون الرواية تحكى من داخل عقول الشخصيات في مونولجات داخلية مستمرة يصعب تصور ما يمكن أن يعوض عنها في شكل سينمائي دون الوقوع في فخ الكشف الحواري «exposition» الذي يضعف من الطبيعة البصرية للوسيط. تمر الأحداث تباعاً في الفيلم دون أن نعرف لماذا أو ما هو تأثيرها على تلك الشخصيات وكأن تلك النماذج البشرية هي أدوات جوفاء في لعبة فيديو متطورة، أرواحها متوارية، دوافعها غامضة وصراعاتها مختزلة.
لا تنقص كل تلك المآخذ على الكتابة والخيارات السياسية من تأثير نسخة فيلينوف كإنجاز بصري وسينمائي، فهي تجربة بكل ما تحمله الكلمة من معنى، رحلة لمدة ساعتين ونصف الساعة في عالم آخر لكنه لا يؤدي إلى نتائج مرضية كونه يمثل نصف فيلم.
«Dune» فيلم ذو بصريات مبهرة بل وشاعرية في بعض الأوقات، تمتد شاعريته إلى حركة الممثلين المحسوبة وتصميم المعارك والملابس، ولكي تختبر الفيلم بالشكل الأمثل، ابحث عن أكبر وأجود شاشة ممكنة تبتلعك في أحداثه وتفاصيله، تجاهل كل العوامل العقلية وركز فقط في التجربة الحسية، لكن بعد زوال الانبهار التكنولوجي بمقاييس الشاشات المثالية وعودته إلى مواقع البث الإلكترونية بالتأكيد سوف يفقد الكثير من سحره ويتجرد من مواضع قوته وتتضخم مواطن ضعفه.