مخطوطة درسدن: كيف نظر شعب «المايا» إلى السماء؟
في خزانة، تحت طبقة من الزجاج الواقي، بمكتبة ولاية وجامعة سكسونيا في درسدن بألمانيا، تقبع مخطوطة قديمة تخص حضارة المايا. لا تملك المخطوطة تفاصيل نهاية العالم، كما شاع عن حضارة المايا بتوقعهم للنهاية دائمًا، لكن تلك المخطوطة الفريدة ترسم صورةً لعلماء الفلك الأوائل ممن تمتعوا بدقة شديدة في رصد النجوم والكواكب. تحمل في طياتها جداول بيانية فلكية للقمر وكوكب الزُهرة، بما فيها حسابات دقيقة لمواعيد الكسوف الشمسي.
«مخطوطة درسدن – The Dresden Codex» هي مخطوطة من حضارة المايا، الحضارة التي سكنت جزءًا كبيرًا من منطقة أمريكا الوسطى، التي تُعرف حاليًا بغواتيمالا وبليز وهندوراس والسلفادور، وفي نطاق خمس ولايات جنوبية من المكسيك. يُعتقد أن «مخطوطة درسدن» أقدم مخطوطة موجودة حاليًا كُتبت في القارات الأمريكية، ويرجع تاريخها إلى القرن الحادي عشر أو الثاني عشر. لكن يُعتقد أن النسخة الحالية هي نسخة من النص الأصلي الذي يرجع تاريخه إلى القرنين السابع أو الثامن.
لم يُعرف الاسم الأصلي للمخطوطة، ولكن لعدة قرون كانت تُعرف باسم «مخطوطة غرولير –Grolier Codex»، حتى فُقدت وأعيد اكتشافها في مدينة درسدن في ألمانيا، ومن هنا جاء اسمها الحالي. كان لإعادة اكتشافها الدور الأهم في فك تشفير نظام الكتابة الأصلي لحضارة المايا، وتعد حتى يومنا هذا إحدى أهم المخطوطات من نوعها.
الطريق من أمريكا الوسطى إلى درسدن!
على عكس الحضارات القديمة الأخرى، مثل الإغريق أو الرومان أو المصريين القدماء، نجا عدد قليل من نصوص حضارة المايا حتى وصل إلينا اليوم. بالطبع، ليس لأن حضارة المايا لم تكن غزيرة الإنتاج للمخطوطات والمصادر المكتوبة، بل بسبب حماس الغزو الأوروبي في تدمير كل النصوص التي تمكنوا من الحصول عليها لحضارة المايا، لاعتبارهم تلك النصوص مجرد هرطقات!
لكن، وكما هي عادة التاريخ، وعلى الرغم من كل الجهود المضنية في التدمير، فإن مجموعة من نصوص حضارة المايا القديمة تمكنت من النجاة، مع أن معظمها نسخ غير مكتملة. من بين النصوص الأكثر شهرة كانت مخطوطة «البوبول فو – Popol Vuh»، المعروفة أيضًا باسم الكتاب المقدس للمايا. لكن النسخة التي نجت منها موجودة فقط كترجمة إلى اللغة اللاتينية، وليست بلغة كتابة المايا الأصلية، «Mayan Glyphs»، وهو نظام الكتابة الأصلية لحضارة المايا، والنظام الوحيد الذي تمكنّا من فك تشفيره بصورة كبيرة، مثل نظام الكتابة الهيروغليفية لدى القدماء المصريين.
«مخطوطة درسدن» كانت من تلك المخطوطات القليلة التي نجت ووصلت إلينا، لكنها سلكت طريقًا صعبًا من أمريكا الوسطى إلى أوروبا. في عام 1519، يُعتقد أن المخطوطة نقلها هيرناندو كورتيز، الجندي الإسباني المغامر الذي فتح إمبراطورية الآزتيك في المكسيك، من مدينة تشيتشن إيتزا، المدينة الأثرية التي بناها شعب المايا، وعرضها كهدية على ملك إسبانيا تشارلز الأول، الذي موّل بعثات كورتيز للغزو وعيّنه حاكمًا على الأراضي المكسيكية.
ثم بعد فجوة زمنية دامت أكثر من مئتي عام، لم يُوثق فيها ما حدث للمخطوطة، ظهرت من جديد في عام 1739، عندما اشتراها الألماني يوهان كريستيان جوتزة، مدير مكتبة درسدن الملكية حينها، والتي تُعرف الآن باسم مكتبة ولاية وجامعة سكسونيا.
بعد أن استقرت المخطوطة في مدينة درسدن، بقيت بعيدًا عن أعين عامة الشعب لمدة قرن آخر من الزمان، قبل عرضها بين لوحين من الزجاج في المكتبة الملكية. وفي عام 1945، على مشارف انتهاء الحرب العالمية الثانية، في القصف الذي نال من مدينة درسدن، تضررت المخطوطة بالمياه بصورة سيئة، وبعد استعادتها بصعوبة وضعت تحت الزجاج ولكن بالترتيب الخطأ. لم يُصلَح ذلك الخطأ أبدًا لأن أجزاء من «ورق أماتًلْ» والصبغة التصقت بالزجاج، مما يعني تدميرها بالكامل إن حاول أحدهم الاقتراب منها مرة أخرى.
«مخطوطة درسدن»
تتكون مخطوطة درسدن من مادة صُنعت من لحاء الشجر باسم «ورقة أماتْلْ»، وهي المادة التي كانت تستخدم في صناعة مخطوطات المايا عمومًا. حجم صفحات المخطوطة يصل إلى نحو 8*20 بوصة، ويمكن طيها على طراز آلة الأكورديون، وعند فتحها يصل طولها إلى 3.7 متر.
كُتبت المخطوطة بواسطة ثمانية كتاب مختلفين، كان لكل منهم أسلوب كتابة محدد، وموضوع محدد يكتب به. وتضم المخطوطة صورًا ملونة بوضوح غير عادي باستخدام فرش رسم رفيعة للغاية. تحتوي المخطوطة على 78 صفحة، مع الكتابة على كلا الجانبين، وبالأغطية الأمامية والخلفية المزخرفة بالرسومات. في عام 1810، نشر ألكسندر فون هومبولت، عالم التاريخ الطبيعي والمؤلف الموسوعي، المخطوطة لأول مرة.
جانب آخر جدير بالملاحظة في «مخطوطة درسدن» هو استخدام اللون الأزرق بكثافة. في العالم القديم، كان استخدام اللون الأزرق نادرًا بسبب الصعوبات التي واجهت إنتاج هذا اللون تحديدًا. صُنع اللون، المعروف بأزرق المايا، من نبات بأوراق صغيرة، يُعرف باسم نبات «الإنديجو»، وعندما يُخلط مع نوع خاص من الطين في أمريكا الوسطى يسمح بصنع صبغة لون مستقرة.
كيف نظر شعب المايا إلى السماء؟
مع شهرة حضارة المايا بتطورهم ونبوغهم في علم الفلك، يظهر داخل «مخطوطة درسدن» عديد من الجداول الفلكية الدقيقة، التي تتبع موضع كثير من الأجرام السماوية بجانب كثير من المعلومات حول مواعيد كسوف الشمس.
ضمن صفحات «مخطوطة درسدن» توجد معلومات حول طقس كان يُعرف باسم «Tzolk’in»، وهو طقس ديني يتعلق بتقويم حضارة المايا الذي تكون من 260 يومًا، ويأخذ دلالته من حركات عديد من النجوم والكواكب، كان أهمهما كوكبا الزُهرة والمريخ.
اعتقاداتهم تضمنت أن إرادة الآلهة يمكن قراءتها في النجوم والقمر والكواكب، لذا خصصوا وقتهم وكتاباتهم لمراقبة السماء، حتى أنهم أسسوا عديد من أهم آثارهم ومبانيهم، مثل المعابد والأهرامات والقصور والمراصد، واضعين علم الفلك بعين الاعتبار.
كما تحتوي مجموعة من الصفحات على «جداول الكسوف»، إذ توقعت تلك الجداول بدقة مواعيد كسوف الشمس على مدار 33 عامًا في القرن الثامن، لكن لم يكن التنبؤ بمواعيد الخسوف القمري بنفس الدقة. رسومات الثعابين التي تلتهم الشمس ترمز إلى الكسوف الشمسي في صفحات المخطوطة، وتظهر تلك الرسوم نحو 40 مرة في المخطوطة، مما يجعل كسوف الشمسي من المحاور الرئيسية في «مخطوطة درسدن».
كوكب الزُهرة له مكانة خاصة!
بالنسبة لمحبي مراقبة السماء والنجوم ليلًا، فإن كوكب الزُهرة مجرد نقطة ضوء أخرى في سماء الليل. لكن بالنسبة لحضارة المايا القديمة، كان الضوء المنعكس من كوكب الزُهرة نذيرًا للحرب بطقوسها المعتادة، ودافعًا للمعارك الهائلة، حتى أنهم اعتبروه رمزًا «للدمار الكلي». أحد الأقسام المهمة في المخطوطة ما يُسمى «جداول كوكب الزُهرة»، التي وفرت لشعب المايا قديمًا وسيلة لتصحيح التقويم الخاص بهم.
استخدم شعب المايا القديم نوعين من التقويم، كانا متشابكين ولكن لا تربطهما علاقة واضحة. الأول هو التقويم الذي يتبع النظام الشمسي ذا الـ365 يومًا، ويُسمى «Haab»، وهو كما نعرفه يتتبع حركة الشمس. بينما التقويم الثاني كان احتفاليًا، أو خاصًا بالمراسم السنوية كالاحتفالات والشعائر الدينية، ويُسمى «Tzolk’in»، ويبلغ 260 يومًا. وفقًا للتقويم الثاني، كل يوم، من الـ260 يومًا، يملك أهميةً ثقافيةً خاصةً وفريدةً من نوعها.
وكما نعرف، نظرًا لأن السنة الشمسية الفعلية تساوي 365.25 يومًا، كان على شعب المايا أن يصحح هذا الفارق الإضافي الذي يساوي ربع يوم، تمامًا كما نفعل الآن بإضافة يوم كامل إلى التقويم كل أربع سنوات، أو كما نعرفها بالسنة الكبيسة، التي يأتي فيها شهر فبراير 29 يومًا.
لكي يتمكن شعب المايا من تصحيح التقويم، استعانوا كعادتهم بكوكب الزُهرة. عبر النظر إلى جداولهم القديمة، يمكنهم معرفة موقع الزُهرة في يوم معين منذ مئات السنين، وتقدير أين كان يجب أن يكون في الوقت الذي نظر فيه شخص ما إلى السماء، والفارق كان مقدار التصحيح اللازم.
بالطبع تتطلب حسابات علم الفلك والتقويم علم الرياضيات، وهذا ما فعلته حضارة المايا عبر وضع نظام رقمي معقد للغاية. عندما وضعوا ذلك النظام، فإنه احتوى على ميزات كانت أكثر تطورًا من أي شيء آخر في العالم آنذاك. وهو النظام الرقمي المستخدم في «مخطوطة درسدن».
تطلع شعب المايا إلى السماء كان في أساسه للبحث عن الإرشاد الإلهي، ولهذا وضعوا كل تلك الجداول والحسابات الرياضية المعقدة، والتي كانت لتضيع هباءً لولا تلك المخطوطة التي نجت من مذبحة الوثائق التي دبّرها الأوروبيون بحقِّ إسهامات المايا المعرفية، لكن المخطوطة -رغم كل شيء- كانت أقوى منهم جميعًا.