الأحلام، فواصل جمالية في دورة سيزيفية.

بحاول مش بس أحكي حدوتة، إنما ألقط لحظة.. أشمها، مسألة صعبة جدًا، ساعات أنجح وساعات أخيب، إنما البحث مستمر.
محمد خان

خلال مسيرته السينمائية هوجم «محمد خان» من نُقاد ومُخرجين مثل «توفيق صالح»، لكون أفلامه غارقة في حُب الكادرات وتوثيق اللقطة الجمالية، لكنها لا تبلور موقفًا سياسيًّا واجتماعيًّا مُحددًا، بحسب تعبير «رأفت الميهي»، فشخوص خان بلا جذور، تهيم مع الكاميرا لأن المخرج يعبد صنع اللقطة الجيدة.

في عام 1972 قدم خان فيلمه القصير الأول «البطيخة»، والذي يتحدث عن موظف مطحون مُثقل بمتطلبات العيش، يحيا يومه بشكل سيزيفي بين العمل الرتيب في المصلحة الحكومية ثم العودة لضوضاء منزله ومطالب أسرته، ثم تكرار ذلك اليوم للأبد.

https://www.youtube.com/watch?v=Y-I1jBptDyU

يبدو الفيلم مثاليًّا لنقد إفقار الطبقة الوسطى مع انفتاح السبعينيات، يبدو مثاليًّا لتقديم بؤس رجل يُشبه سيزيف، يُدرك أنه فور إيصاله الصخرة لقمة الجبل ستهبط مجددًا، ينفلت خان بخفة من تحويل فيلمه لمانيفستو سياسي، ويُخلص فقط لبطله، لو أقنعنا سيزيف في الأسطورة أنه يُمكن أن يتوقف للحظات ليلتهم قطع بطيخ مُثلجة قبل أن يعود لمُهمته، بالنسبة لنا تلك البطيخة لا شيء، بالنسبة لسيزيف، سيظل يحلم طوال صعوده الجبل باستراحته، فاصل من الفردوس الخاطف، يكسر فيه دورته ويغرق في مُتعة عابرة، خروج مؤقت من دورة العبث. خروج لن يفك اللعنة، ولن يُحرر سيزيف، لكنه إيقاف مؤقت لبؤس العالم.

لا يحل الموظف في فيلم خان مشاكله، لا يثور على طبقته، لكنه يشتري البطيخ ويعود لأسرته ويتحول البطيخ في لقطات مُتتابعة لجلسة حميمية مع أسرته، تنتهي ليعود لدورته مُجددًا. الفيلم بأكمله إطلالة من سيزيف على فاصل حالم، في الأحلام يتوقف الواقع، يتحرر البطل لوهلة من ثقل المعاناة، ويُطل لبرهة على مُمكناته، على الفردوس، تلك الإطلالة هي الكادر الجمالي الذي يوثقه خان في كل أفلامه. سيزيف خارج عقابه والبطل خارج متاهته، لنعرف أن البطل لا يُعرف بسجنه إنما بحلمه.

في لحظات المُباراة يتحول فارس «الحريف» من صعلوك المدينة لبطل ليلي، في لحظات تنظر نوال الزوجة المقهورة في «موعد على العشاء» للوحة فتاة تتجه للمجهول بينما يحمل والدها يدها في راحته، لوحة تُثير فيها كل أحلام الهروب بحريتها ووصولها للأمان الذي يمنحه الرجل بينما الرجل في حياتها هو مصدر الرعب، في لحظات يروض صوت عبد الحليم واقع منى في «زوجة رجل مُهم»، التي ترى في حليم فارس أحلام شفافًا حنونًا، مرآة مناقضة لزوجها الضابط القاسي.

من كواليس فيلم الحريف- إخراج محمد خان
من كواليس فيلم الحريف، إخراج محمد خان

لا تنقذ الأحلام أصحابها، تعجز نوال عن شراء اللوحة التي رأت فيها حلم الانعتاق، يستسلم فارس للواقع ويتخلى عن أحلام اللعب وفروسية الحريف، تشهد منى مصرع أبيها وزوجها، كل رجال عالمها في نهاية أقسى كثيرًا من صوت حليم ووعوده الرومانسية.

من فيلم موعد على العشاء - إخراج محمد خان
من فيلم موعد على العشاء – إخراج محمد خان
من كواليس فيلم زوجة رجل مهم - إخراج محمد خان
من كواليس فيلم زوجة رجل مهم، إخراج محمد خان

يُسخر خان سينماه ليكون حارسًا لأحلام أبطاله، تلك الإطلالة، الفُرجة الصغيرة التي يُطل منها شخص مُحاصر بطبقته أو بسلطة من حوله أو بفقره أو بجنسانيته الأنثوية المقهورة، فُرجة الحلم التي عبرها ينعتق البطل ولو بشكل مؤقت.

من رحم تلك البطيخة، الانتصار المؤقت لموظف سيزيفي، خرجت أفلام خان بتنويعات شتى عن المفهوم نفسه، الحلم بكسر مؤقت لدورة سيزيفية من القهر. كسرها بأغنية، بملعب كرة، بمائدة طعام ريفية تصطنع جنة أبيقورية لبطل «خرج ولم يعد» للعاصمة، بلوحة تمنحنا وعود الخروج من السجن.

لا تُقدم تلك الأحلام حلولًا للتعقيد السياسي والطبقي، لا تقوم بتثوير أبطالها ليغيروا واقعهم، لكنها تؤنسن أبطالها، إذا وطئ عالم أحلام أحدهم، يصعب بعدها أن تراه بضيق كادر واقعه، ستتورط في تعريفه بما أراد أن يكونه، بأمنياته، بعوالمه البديلة التي يحملها في قلبه، تلك الورطة الآسرة هي جوهر سينما خان، والحلم طريقه التلصص، والظفر من كل تلصص هو لقطة، إطلالة مثالية على الشخص في غير هيئته التي نعهدها، إطلالة تُخبرنا أن هذا الشخص أعقد من تصورنا عنه. لأجل تلك اللقطة قد يصنع خان فيلمًا كاملًا.

رغم أن سينما خان تدور حول أحلام تعمل كفواصل جمالية في دورة سيزيفية، إلا أن فيلمًا واحدًا فقط من أفلامه حمل مباشرةً لفظة «الحلم»، فيلمًا واحدًا كانت تلك الرسالة فيه أوضح ما يكون، فيلمًا لا يدور حول الفقر، حول قبح الواقع، حول الأزمة، إنما حول الأحلام، أحلام هند وكاميليا.

الشخصيات تُعرفها أحلامها

في الدقائق الأولى من الفيلم يقدم خان في فواصل خاطفة مدخلًا لمثلث شخصياته، هند الخادمة التي تأسرها أضواء الملاهي وهي تُنزه طفل مخدومتها «ميمي»، لا تحسد هند مخدومتها إنما الطفل الذي يستسلم بطفولة لجاذبية الزحليقة، نُدرك أن هند تملك جسد امرأة ووجدان طفلة لم تحيَ طفولتها أبدًا، طفلة ساذجة تتمنى بجسد الأنثى أن تقفز جوار الطفل وتتزلج في الملاهي.

عايدة رياض من فيلم أحلام هند وكاميليا - إخراج محمد خان
عايدة رياض من فيلم أحلام هند وكاميليا، إخراج محمد خان

نرى كاميليا أسيرة كادر ضيق في منزل أخيها المُزدحم بزوجته وأطفاله، يمتلك الأخ العاطل تفوقًا ذكوريًّا قوامه رجولته وحسب، بينما تتولى كاميليا الخادمة الإنفاق على عائلته، تحلم منذ البداية بغرفة تخص المرء وحده، مساحة عيش لا تؤسر فيها للآخرين.

من فيلم أحلام هند وكاميليا - إخراج محمد خان
من فيلم أحلام هند وكاميليا، إخراج محمد خان

نرى الشاب «عيد» يُنظم عملية نشل بفهلوة بارعة، ويهرب بخفة قبل حتى أن تُدرك ضحيته ما أصابها، يمتلك عيد طوال الفيلم لازمة:

مسيرها تروق وتحلى..
أحمد زكي من فيلم أحلام هند وكاميليا - إخراج محمد خان - مصدر الصورة موقع السينما.كوم
أحمد زكي من فيلم أحلام هند وكاميليا، إخراج محمد خان، مصدر الصورة موقع السينما.كوم

يعشق عيد السينما ويصطحب إليها حبيبته هند وصديقتها كاميليا، تمنحه السينما ذلك الافتتان الخادع أن مشاهد قصيرة مُتتابعة قد تحيل البطل من مهزوم لمنتصر، من فقير لثري، من الجحيم للفردوس، يحلم عيد بذلك التويست السينمائي، وفيه لن يختلس حافظة نقود من جيب رجل غافل، بل ثراء ينقله بمونتاج خاطف من حياة المُهمشين لحياة أكثر آدمية.

في دقائق أشبه بفيلم قصير يُعرف خان مُثلث أبطاله بأحلامهم، يحضر الواقع في لقطاته ليؤطر صعوبة تلك الأحلام، أنوثة هند وتواضع ملبسها يُفسد حلم الطفولة ويجعل حضورها شاذًّا على كادر الملاهي، ضيق المساحة وازدحامها بالبشر يُفسد حلم كاميليا بالاستقلال، بينما يدرك عيد بعودته للمقهى القذر أن الثراء لا يُمكن تحقيقه بنشل محفظة واحدة مهما كان سريعًا في الهروب.

لا يكتفي خان بتعريف الشخصيات بأحلامها وتسخير كادره لتأطير استحالة تلك الأحلام أو صعوبتها إنما يجعل الأحلام مدخلًا لفهم سيكولوجية شخصياته.

السينما بعيون الصراصير

أنا لا أصنع أفلامي بإحساس مزيف. الصراصير موجودة فعلًا ولم يخترعها خان في أفلامه.
محمد خان

تشي طفولة الحلم واستحالة العودة في الزمن من الأنوثة للبراءة، عن سذاجة شخصية هند، رغم تقديمها منذ البداية كأرملة مات زوجها، لكنها تبدو في أحلامها وتصرفاتها طفلة أسيرة جسد امرأة، لذلك تقع في حب عيد الذي لا تحمل تصرفاته سمات فارس الأحلام، لكنه يمنحها إحساس سندريلا، تارة يحضر لاصطحابها بسيارة يسرقها من مقر عمله، وتارة يصطحبها للسينما منبع الأحلام، يصير عيد بوابة هند لدخول عوالم سندريلا الساذجة.

من فيلم أحلام هند وكاميليا - إخراج محمد خان - مصدر الصورة موقع السينما.كوم
من فيلم أحلام هند وكاميليا، إخراج محمد خان، مصدر الصورة موقع السينما.كوم

رغم استغلال عيد لحبيبته في ولوج المنزل الذي تعمل به لسرقته، واستغلال براءتها في مواقعتها مع وعود هشة بالزواج، نُدرك أن شخصية عيد ليست شريرة بالكامل، فهو يزجر صديقه لتعرضه لحبيبته، ويمتلك رغبة صادقة في الزواج منها يُعطلها دخوله السجن، يريد عيد أن يكون شخصًا طيبًا لكنه لا يمتلك الصبر الكافي، يُدرك أن العيش بظروف طبقته يعني أن يحيا للأبد كصرصور مثل الصراصير التي يسحقها في غرفته، بينما هو يريد أن يطير مثل فراشة نحو الشمس، والفراشات تحترق دائمًا، تلك المعضلة تجعل حلمه بنقلة خاطفة للشمس شديد السينمائية ليقبله الواقع.

سيهاجم المخرج «حسام الدين مصطفى» تلك اللقطة التي يسحق فيها عيد الصرصور بحذائه مُسميًا سينما خان «سينما الصراصير» الفقيرة لأي جمالية في تجسيدها للمصريين، بينما تُجسد اللقطة نفسها ما تعنيه السينما للفقراء الذين يشاركون الصراصير مساحة عيش واحدة، الحلم بتجاوز كاريكاتوري لكل العقبات نحو النهاية السعيدة (وهو ما نراه في افتتان هند وكاميليا وعيد بسينما أميتاب باتشان الهندية الثرية بمبالغاتها الكاريكاتورية، وفيها ينجو البطل من الرصاص والأشرار والسيارات المسرعة وينقذ حبيبته ويفوز دومًا رغم تواضع أصوله وقدراته).

من فيلم أحلام هند وكاميليا - إخراج محمد خان - مصدر الصورة موقع السينما.كوم
من فيلم أحلام هند وكاميليا، إخراج محمد خان، مصدر الصورة موقع السينما.كوم

تبدو كاميليا في المثلث هي الشخصية الأكثر نضجًا، ليست شخصية بلا أحلام، لكنها الوحيدة التي تمتلك حلمًا يُمكن تحقيقه، وسوف تُحققه في النهاية بالاستقلال في غرفة متواضعة والعمل في بيع الخضروات، لذلك تمُثل طوال الوقت الثقل الذي ترتكن له شخوص الحكاية.

كاميليا حارسة الأحلام

بينما تغرق هند بسذاجة في عوالم سندريلا عن رجل يأتي على مقاس الحكاية لينتشلها من مصيرها كخادمة، سذاجة تجعل عيد رغم كل عيوبه مناسبًا للدور، نجد كاميليا سندريلا بلا رجال.

لم ينقذها أخوها من حياتها كخادمة، إنما انقلبت الأدوار لتتولى هي الإنفاق على أسرته في مقابل توفيره المأوى لها، ورغم فرارها العقلاني للزواج من رجل لا تُحبه، إلا أنها تجد نفسها حسب تعبيرها:

قبل الجواز خدامة بأجرة، دلوقتي خدامة ببلاش.

عبر الزواج لا تفقد كاميليا فقط حلمها بالعيش المُستقل إنما يصير جسدها نفسه مؤممًا ومُنتهكًا لصالح رغبات زوجها متى شاء في مواقعتها، وعندما تستضيف «هند» يطردهما الزوج لبرودة الشارع.

من فيلم أحلام هند وكاميليا - إخراج محمد خان
من فيلم أحلام هند وكاميليا، إخراج محمد خان

تدرك كاميليا أنها ليست سندريلا، ولن يأتي أمير لإنقاذها، في عالمها الرجال ليسوا أمراء أو مُنقذين إنما علقات تتغذى على جسدها وأحلامها، بتحررها منهم قد تصل سريعًا لما تبتغيه:

نفسي أعيش بحرية في أوضة صغيرة لوحدي.

تمتلك أحلام كاميليا مناعة أخرى من السذاجة لكونها عاقرًا لا تُنجب، مما يجعلها أقل من امرأة في نظر أخيها وزوجها وكل من حولها، ترى في ذلك العيب ميزة أن رجلًا لن يسجنها أبدًا في سجن الزواج لأجل الأطفال، لا تفقد كاميليا أمومتها بل تصير مضاعفة ويصير موضوعها هو صديقتها كاميليا وزوجها عيد.

تستضيف غرفة كاميليا المتواضعة – حلمها الصغير الذي حققته بصعوبة – هند وعيد، لم يفلح كلاهما في تحقيق أحلامه المُستحيلة، لم تستعِد هند طفولتها ولم تحيَ كسندريلا، بل عاشت حياة قلقة في كنف رجل يتمنى بقفزة سينمائية أن يُجاوز قيود طبقته وفقره.

لا تحتقر كاميليا أحلام صديقتها وزوجها، ورغم نُصحها الواقعي الحذر، رغم كونها مرساة تعيد الشخوص حولها للأرض، تحل المشاكل، وتقدم بدائل واقعية أقل جاذبية للأحلام المُجهضة. لا تنكر كاميليا على من حولها الحلم كمهرب، كفسحة، كإمكانية.

عندما تفصح لها هند عن كفرها أخيرًا بحلم سندريلا ورغبتها في إجهاض طفلتها، تزجرها كاميليا وعلى يدها تولد رضيعة لأب صعلوك مصيره السجن وخادمتين، تختار كاميليا أن تُسمي الطفلة أحلام، تحمل الطفل اسم أحلام هند وكاميليا.

من فيلم أحلام هند وكاميليا - إخراج محمد خان
من فيلم أحلام هند وكاميليا، إخراج محمد خان

تدرك كاميليا أن الحلم يقف كضبابة بين صديقتها وزوجها وبين رؤيتهما للواقع، لكنه في الوقت نفسه ما يجعلهما شيئًا أكبر من الصراصير، تدرك كاميليا أن هند هي طفلة تحلم بأن تكون سندريلا، هذا الحلم يوردها دومًا موارد الهلاك، لكن كل طفلة يحق لها أن تكون سندريلا، لذلك تختار كاميليا حراسة أحلام هند ورعايتها وخلق وصال ولو متواضع لها مع الواقع بدلًا من إنكارها.

يغازل عيد كاميليا بشكل عابر، لا يحمل تجاهها اشتهاءً جنسيًّا إنما رغبة أمومية من طفل لنيل الاستحسان، يخبرها مُعتذرًا:

أنا مش وحش يا كاميليا، أنا نفسي أبقى كويس، نفسي في خبطة كبيرة، بعدها أبقى كويس.

لا يريد «عيد» جسد «كاميليا» إنما يُريدها أن تراه كشخص طيب، يحتال «عيد» طوال الحكاية لتراه «هند» فارسًا، ليراه شركاؤه ذكيًّا، لتراه الشرطة في كل كمين كرجل مسالم لا يستحق الإيقاف، لكن طوال الحكاية تراه كاميليا خلف كل تلك الصور كرجل شرير، لذلك يتمنى باعتبارها الشخصية الأمومية في حكاية، الجميع فيها أسير نداهة الأحلام، أن تراه بعين حلمه، كما ترى صديقتها كسندريلا ساذجة لكنها لا تقتل سذاجتها ولا تتوقف عن حراسة حلمها، أن تراه كرجل يفصله عما يريد أن يكونه قفزة سينمائية تغفرها الأفلام الهندية ولا يغفرها الواقع، يدرك عيد أن حلمه هو ما يجعله مُجرمًا يحتال دومًا لطريق مختصر نحو الثراء، لكن حلمه يحوي العائلة جوار الثراء وهو ما يجعله يعود كل مرة لهند، يتزوجها، يرعى طفلته، يسرق لأجلها، يدرك جيدًا أنه أب وزوج طيب على الضفة الأخرى من واقعه.

يدرك عيد أن كاميليا هي الأقرب للواقع، وأنها خلقت سلامها منذ وقت طويل مع الخط الفاصل بين الواقع والأحلام، لذلك يُخبرها أنه حال سجنه عليها رعاية هند وأحلام.

من فيلم أحلام هند وكاميليا - إخراج محمد خان
من فيلم أحلام هند وكاميليا، إخراج محمد خان

تحرس كاميليا أحلام من حولها، رغم أن أحلام هند قادتها للتورط في زيجة وطفلة ومسئوليات أكبر من خادمة، رغم أن أحلام عيد قادته للسجن، إلا أن كليهما بدون حلمه سيصير صرصورًا أو لا شيء، في مشهد بديع يوقف رب منزل كاميليا وهي تهم بالانصراف، يفتش حاجياتها بإذلال، يفضح عارها أمام مخدومتها عندما تحتقرها لسرقتها وعاءً من السمن وكيسًا من السكر.

تدرك كاميليا أنها في عين مخدوميها ليست سوى صرصور سيتصرف بغريزته دومًا ليهاجم المؤن، حيوان يحتاج لحراسة ومراقبة وعند اللزوم سحقه لأنه تجاوز المنطق لغريزة البقاء.

لذلك تغفر كاميليا لكل من حولها خطيئة الأحلام، فالأحلام وإن خرجت عن المشروع، تميزنا عن الحشرات لأن الصراصير لا تحلم.

سينما خان تحرس الأحلام

«اتنين تلاتة غلابة ولَّا همَّا كتير
حلمهم شر ولَّا حلمهم خير
حلمهم ملكهم لكن بيجرحنا
مالهمش من دي الحياة
غير هيَّا أحلام… أحلام وبس»
أحلام هند وكاميليا

تُجسد كاميليا المُعادل السينمائي الأكثر صدقًا لرسالة خان، يحرس خان في سينماه أحلام أبطاله، أحلام قد لا تتحقق، قد يُجهضها الواقع بقسوة، لكن مجرد الإطلال عليها يورطنا أخيرًا في رؤية المهمشين كوجود أعقد وأكثر ثراءً من صراصير. 

محمد خان ونجلاء فتحي من كواليس فيلم أحلام هند وكاميليا
محمد خان ونجلاء فتحي من كواليس فيلم أحلام هند وكاميليا

لذلك تعمل كاميليا في حكايته كحارس لتلك الأحلام، حارس قيوم على استدامتها حتى لو أودت بأصحابها نحو هلاكهم، لأن الحق في الحلم قد يكون أكثر أهمية من الحالم نفسه، قد لا تنحاز سينما خان بصراحة لطبقة بعينها أو لموقف سياسي مُحدد، لكنها تنحاز بأصالة جمالية لذلك الحق الأصيل في الحلم وفي توثيق هذا الحلم بلقطة مثالية، وربما كل تمرد أو تغيير يبدأ بإيمان أفراده بأنهم يمتلكون الحق في الحلم.

الواقع بعيون أصحابه

أنا فى الغالب أنتمى لشخصياتي. أحاول – ما دمت لست منهم ولا أعيش بينهم – ألا أتعالى عليهم.
محمد خان

تقول الفنانة عايدة رياض إنها خلال تأديتها مشهدًا تبكي فيه، بينما تُمشط كاميليا شعرها، أوقف التصوير قائلًا:

أوفر أوي، أنا عايز أبسط من كده بكتير، قولي حكايتك بسرعة، وعيطتي أو معيطتيش مش مهم.

لا تقع سينما خان أبدًا في فخ اصطناع صورة ميلودرامية مبالغة من الواقع، لا يُحاول جعل الفقر رومانسيًّا أو تقبيحه بشكل مفتعل ليصير مُنفرًا، إنما أن نراه بعين أصحابه.

ولدت شخصيات الخادمتين من الخادمة «هند» الريفية التي رعت خان نفسه في طفولته، التي حمل فيها اسم التدليل «ميمي»، وهو الاسم الذي تنادي به هند في مشهدها الأول الطفل وهي تحسده على طفولته.

محمد خان طفلاً بين أبويه
محمد خان طفلًا بين أبويه

يكبر هذا الطفل الصغير ليُجرب رؤية العالم من منظور الخادمة التي حرست لهوه، الخادمة القيومة على طفولته، يصير هو قيومًا على استنطاق أحلامها، ويصطنع شخصية كاميليا لتحرس تلك الأحلام.

لا ينقل خان ذلك الواقع بعين سائح، بعين طفل مُدلل من طبقة أعلى، بل بعين أصحابه، لذلك يختار الطفلة التي تؤدي دور أحلام كابنة خادمة في الواقع تعمل بالفعل في منزل صديقه اليساري «محمد سيد أحمد».

ما أضيق العيش لولا فسحة الأحلام

في الثلث الأخير من الفيلم تجد كاميليا النقود التي اختلسها عيد من تجارة العملة وخبأها في فناء المنزل قبل سجنه، يبدأ الفيلم في الملاهي وينتهي في الملاهي.

تختار كاميليا بمجرد امتلاك النقود أن تُحقق أحلام هند المُجهضة، تصطحبها للملاهي ويركبن جميعًا المزلقة في احتفاء طفولي، تستعيد هند للحظات طفولتها في الملاهي التي جاءتها دومًا كخادمة وحضرتها أخيرًا كطفلة تأخرت طفولتها عقودًا.

تطلب هند الذهاب للإسكندرية، التي تُمثل دومًا جنة بعيدة من شمس ورمال وبحر، أرض موعودة وفردوس يمكن بوصاله أن تستعيد هند طفولتها كاملة، تتخلى كاميليا عن حذرها في سبيل تحقيق أحلام صديقتها. تخسر الصديقتان النقود على يد سائق مُحتال يشبه عيد نفسه، ويتحدث نفس لزمته الكلامية: مسيرها تروق وتحلى.

تصطدم أحلام هند وكاميليا بحالم آخر من الطبقة نفسها، يحقق قفزته السينمائية نحو الثراء بسرقة نقودهما.

تستيقظ هند وكاميليا على شاطئ الإسكندرية، وبعد الصراخ والبكاء، تجدان أحلام الطفلة تقف أمام البحر الذي يأسرها بفتنته الساحرة، تتحرر الصديقتان من الحزن والخوف والندم وتحتضنان طفلتهما، وتذهبان للبحر.

من نهاية فيلم أحلام هند وكاميليا - إخراج محمد خان
من نهاية فيلم أحلام هند وكاميليا، إخراج محمد خان

لا تنتصر هند وكاميليا على ظروفهما، ما زالتا خادمتين، ما زال عيد رهين سجنه، وحتى النقود التي ضحى لأجلها فقدها لصالح فهلوي آخر يملك الحلم نفسه، لكن ربما الانتصار الأخير هو أن الطفلة أحلام ستتذكر في طفولتها ملاهٍ وبحر شاسع، وستحيا نصيبًا مُتحققًا من اسمها، لن تحياه كأمنيات لم تتحقق. لذلك تحتفل هند وكاميليا بالأحلام التي يجبر وجودها كل شيء، وبسعادة طفلة تخبرهما أن الأحلام في حكايتهما ستتحقق ولو في امتداد آخر، لتحمل الطفلة الاسم والمعنى، لتصير أحلام مجازًا عن أحلام هند وكاميليا، وكل شخوص خان، فاصل جمالي مُتحقق في دورة سيزيفية حزينة.