الأحلام: رسائل من المستقبل أم طلاسم من العقل الباطن؟
في عام 1867 بدأ عالم الكيمياء الشهير «ديميتري مندليف» في تدوين كتابه «مبادئ الكيمياء»، وأثناء ذلك قرَّر ترتيب وشرح خواص العناصر الكيميائية.
قبل مندليف رُتبت العناصر إمَّا وفقاً لعددها الذري أو في مجموعات طبقاً لخصائصها المشتركة، لكن مندليف أراد تنظيماً واحداً يعبر عن الشيئين معاً. استلهم مندليف الترتيب الذي ابتغاه من لعبة الأوراق التي اشتهرت في أمريكا الشمالية آنذاك باسم «سوليتير»، وهي نفس اللعبة التي لعبناها جميعاً على أجهزة الحاسوب في الطفولة. وتقوم اللعبة على أساس ترتيب الأوراق أفقياً حسب النقش عليها ورأسياً وفقاً للترقيم. لقد أراد مندليف استبدال النقش والترقيم بالعدد الذري وخصائص العناصر على الترتيب. ولأجل هذا الغرض كتب مندليف العناصر على أوراق لعب فكانت 63 ورقة بعدد العناصر المكتشفة وقتئذٍ، وأخذ تلك الأوراق معه أينما ذهب.
في 17 فبراير/شباط عام 1869، جلس مندليف ليتناول فطوره استعداداً للحاق بقطاره، لكنه عوضاً عن ذلك افترش الأرض ورتَّب أوراق العناصر وباشر العمل وظل طيلة النهار يُرتِّب العناصر ويعيد الترتيب من جديد، وفي الليل فعل الشيء ذاته حتى طلع صباح اليوم التالي. فاته القطار من جديد وهو لا يزال على حالته حتى مطلع اليوم الثالث، ليفوته القطار للمرة الثالثة، وهو لم يبرح مكانه ليل نهار. حتى انتهت ثلاثة أيام بلياليهن فأنهكه كل هذا الجهد وغلبه النوم.
وفي منامه يقول مندليف:
بعد هذا الحلم رسم مندليف الجدول الذي أتاه في المنام، ورتَّب الأوراق وفقاً للبيانات المتاحة وما رآه في الحلم، فأخرج لنا النظام الذي أطلق عليه «الجدول الدوري».
الأحلام رسائل من نسختنا في المستقبل؟
يزخر التاريخ بالعديد من الاكتشافات التي وردت لأصحابها في الأحلام، فهذا «أغسطس كيكولي» الذي حاول جاهداً أن يكتشف ترتيب الذرات في حلقة البنزين، إذ أزعجه اختلاف نسبة ذرات الكربون والهيدروجين عن بقية المركبات الهيدروكربونية، وفي ليلة باردة في 1865 حاول خلالها جاهداً أن يعمل على تلك المعضلة دون جدوى، عاد إلى كرسيه أمام المدفأة وغفا.
بدأ في الحلم بمجموعة من الذرات ترقص، وبالتدريج بدأت الذرات في ترتيب نفسها في شكل ثعبان، من ثم التف الثعبان حول نفسه وبدأ يعض ذيله، بينما الذرات لا تزال على حالها ترقص أمام عيني كيكولي، حتى استيقظ وفهم ما أراد الحلم أن يُخبِره به.
تتكون جزيئات البنزين من حلقات من ذرات الكربون، وقد فتح اكتشاف المركبات الأروماتية الباب لاكتشاف الكثير، وكل هذا فقط بدأ بحلم.
لم تكن الكيمياء وحدها هي ما نالت حظها من أحلام العلماء؛ ففي البيولوجيا اكتشف «ألفريد روسيل والاس» فرضية الانتقاء الطبيعي في حلم على شكل هلاوس انتابته أثناء إصابته بحمى. ديكارت هو الآخر صرَّح أن مبادئ التفكير العلمي التي وضعها قد جاءته في 10 نوفمبر/تشرين الثاني 1619. ما يفوق الأربعة آلاف معادلة رياضية انفرد بحلها «سرينفاسا أينجار رامانجن» قد راودته في الأحلام.
هل تعرف كيف تنتقل المعلومات التي تقرؤها بعينيك الآن إلى مخك؟
صدق أو لا تصدق، لولا الأحلام لما تمكَّنا من تفسير هذا، فبعد عمل مضنٍ قام به «أوتو لووه» حاول خلاله جاهداً أن يُثبِّت اعتقاده بأن الإشارات العصبية تنتقل باستخدام تراكيب كيميائية، لكنه لم يتوصل إلى التجربة التي تثبت صحة نظريته إلا بعد أن جاءته في حلم بعد 17 سنة من الدراسة والانتظار.
لماذا تحققت أحلام هؤلاء العلماء؟ لماذا تتحقق الأحلام من الأساس؟ هل هنالك نخبة من البشر تستشرف المستقبل في أحلامها؟
حين تتحقق الأحلام
هناك احتمال لا بأس به أن تكون ذات مرة قد حلمت بحدث ما قبل وقوعه، أو بشخصٍ لم تلقَه منذ زمن ثم تقابله في نفس اليوم، حتى لو لم يحدث هذا فبالتأكيد هنالك شخص ما في دائرة معارفك أو أصدقائك يحدث الأمر معه، إذ تتنبأ «المؤسسة الوطنية الأمريكية للنوم» أن ما بين 18% و38% من البشر قد سبق أن رأوا المستقبل على الأقل في حلمٍ واحدٍ من أحلامهم.
تتعدد الطرق التي نُفسِّر بها لماذا نحلم بالمستقبل، لعل أسهلها وأكثرها عقلانية هي العلاقة السببية، أحلامنا سبب وليس نتيجة الواقع، أبسط مثال على ذلك؛ طالب يُذاكر دروسه في فترة الامتحانات، ثم يحلم بأنه سيرسب، يدفعه هذا الحلم إلى اليأس فيُحبِط من عزيمته ويقل مجهوده، وبالأخير يرسب في الامتحان فعلاً، ثم يأتي ليخبرك أنه حلم بالأمر وأن هذا واقع لم يكن من الممكن تغييره. تلك نظرة سطحية جداً للأحلام المُستشرِفة للمستقبل، وهنالك أكثر من تفسير علمي للأمر، وكلها لا تنقص شيئاً من غرابة تلك الأحلام!
الأحلام المُتنبِّئة بالمستقبل
في أكتوبر/تشرين الأول من عام 1966 انهار منجم فحم -كان قد أُقيم على منحدر جبلي- فوق مدرسة في أبرفان، فأسفر عن مقتل 150 من الأطفال والمدرسين، فيما يُعرَف تاريخياً باسم «فاجعة أبرفان».
حين زار الطبيب النفسي «جون باركر» القرية وسأل سكانها، أخبره العديد منهم أنهم شعروا أن شيئاً مروعاً ما كان على وشك الحدوث، وأن بعض الطلاب ممن لاقوا حتفهم تحت الأنقاض كانوا قد حلموا بوفاتهم في الأيام السابقة للحادثة، كما أخبره 30 شخصاً من سكان القرية أنهم حلموا بتلك الكارثة.
تنبأ «أبراهام لينكولن» بوفاته، إذ قُبيل اغتياله بأسبوعين حلم بموته ورأى جثته ترقد بين الحرس عند نفس المكان الذي وُضع فيه تابوته بعد موته. وفي أوائل عام 1914 حلُم «كارل يونغ» عدة أحلام، حيثُ تغرق أوروبا في بحر من الدمار، فاندلعت الحرب العالمية الأولى. وغيرها الكثير من الوقائع التي تنبأت فيها الأحلام بالواقع، ووُضعت عدة فرضيات تفسر الأمر: فيا تُرى هل أحدها صحيح؟
1. الاستدعاء الانتقائي:
تقوم تلك الفرضية على فكرة أن المخ يميل إلى مشاهدة التشابهات وليس الاختلافات، ولاختبار تلك الفرضية أجرى الباحثون اختباراً على 85 شخصاً طلبوا منهم كتابة مذكراتهم في مفكرة وكتابة أحلامهم في أخرى، وحين سُئل المشاركون عن الأحلام التي تحققت لديهم، مال الجميع إلى ذكر أحلام وذكر مشاهد بعينها من الواقع مما تتفق وتلك الأحلام، بينما أهملوا تماماً أي أحداث حياتية قد تنفي تحقُّق هذا الحلم.
بمعنى أوضح اختار المشاركون أحداثاً بعينها من واقعهم اليومي تُثبت أن حلمهم تحقق بالفعل، مع العلم أنه كان من بين المشاركين من لا يؤمنون بالغيبيات.
والآن لنفرض أن الحلم الآتي راودك: أنك تمشي لتتجول في الغابة ثم تضل الطريق وتفقد حذاءك ويفوتك حفل عيد ميلاد صديقك المقرب مع المزيد من الأحداث والتفاصيل. بعد عدة أيام من هذا الحلم تنسى حذاءك على الشاطئ ويجرفه التيار بعيداً، ثم كل ما يخطر ببالك أنك حلمت بشأن حذائك المفقود قبل أن تفقده، رغم أنك حلمت بعدة أشياء أخرى لن تحدث، لكن يميل المخ دوماً إلى «الاستدعاء الانتقائي».
2. ربط الأحداث غير ذات الصلة:
تذكر تلك الفرضية أن الأشخاص الذين يكنون إيماناً تجاه تنبؤ الأحلام بالمستقبل سيميلون إلى بناء روابط بين أحداث غير ذات صلة بين الحلم والواقع. لاختبار تلك الفرضية؛ أجرى نفس الباحثين السابقين تجربة أخرى على متسابقين مختلفين، إذ أعطوا 50 مشاركاً مذكرات مُسجَّل بها أحلام ومقالات إخبارية، ووجدوا أن فئة المشاركين ممّن يُصدِّقون في الظواهر الماورائية قد أظهروا ارتباطات أكثر بين الأحلام والوقائع التي ذكرتها المقالات الإخبارية.
لفهم الأمر دعنا نضرب مثالاً، أنت حلمت بالآتي: أنت تحلم بشجارٍ مع شخص ما، وتصحو من نومك شاعراً بالغضب، وفي الليلة التالية يراودك حلمٌ ضبابي حيثُ تكون حزيناً ولا تتذكر شيئاً منه سوى البكاء. بعد عدة أيام من تلك الأحلام تقترف حادث سيارة تتهشم على إثره سيارتك الجديدة دون أي إصابات لك، تُصاب بالغضب والحزن نحو ما حدث لسيارتك ثم تسترجع الأحلام وتتذكر أنك شعرت بنفس المشاعر في الأحلام، لكن في الواقع لا شيء يربط الأمرين معاً، فالغضب والحزن من المشاعر التي تنتاب الإنسان وقت يقظته، فلماذا لا تأتيه وقت حلمه أيضاً؟
3. المصادفة:
أتعرف قانون الأعداد الكبيرة؟ إنه يُخبرك أنه على مدى حياتك سيراودك عددٌ مهول من الأحلام في شتى المواضيع، ومن الطبيعي أن بعضها من فترة لأخرى سيتماشى مع بعض الأحداث في حياتك. وكلما ازدادت الأحلام التي تأتيك، زادت فرصة أن يتحقق واحد منها.
4. روابط العقل الباطن:
أشارت دراسة سابقة في جامعة هوبكنز أن النساء اللواتي امتلكن «حدساً» بشأن جنس مولودهن أصبن بنسبة 70%، بينما هؤلاء اللاتي امتلكن «حلماً» عن جنس المولود أصبن بنسبة 100%. تخبرك الأحلام عن نفسك، عن شيء لا تعرفه عن نفسك أو شيء قد نسيته، هناك نمط من الأحلام الشائعة التي تُوضِّح هذا الأمر مثل:
- أنت على وشك الانتقال إلى وظيفة جديدة في مدينة مزدحمة ستجعل من حياتك مشاعاً، بينما أنت تُفضِّل الخصوصية، لكنك نسيت أو تناسيت هذا، ومن ثم يراودك حلمٌ مُقلق أن المكان الذي ستنتقل إليه يُدمَّر.
- تقوم بتأجيل شيء ما مراراً ثم تحلم أن الحافلة تفوتك.
- تنتابك الشكوك حول قدرتك على القيام بأمر ما وتقلل من قدرتك قبل أن تحلم أن بإمكانك الطيران.
يحاول دماغك إخبارك بمعلومات أو مشاعر حقيقية عن طريق الأحلام، وأية محاولة لسد طريق تلك الأحلام أو منعها من الظهور ستجد المعلومات طرقًا أخرى غير مفضلة للظهور، مثل: الأعراض الجسدية، والعصاب، والأفعال الوسواسية.
لدينا مدخل للمعلومات المدفونة عميقاً هناك في كل جسدنا، نرتاده يومياً أثناء نومنا ويُسمى «العقل الباطن».
وإذا كانت الأحلام تعرف عنك، حتى المعلومات التي لا تلحظها أنت، فيا تُرى هل يمكن أن نستخدم الأحلام يوماً ما للتجسس على الأفراد؟
حرب المستقبل عبر الأحلام
في المشهد الأول من فيلم Inception، يدخل «ليوناردو دي كابريو» إلى أحلام الناس، يتفاعل معها ويسرق الأسرار من «لا وعيهم»، والآن يبدو أن هذا الأمر بات ممكناً فعلاً.
لأول مرة تمكَّن باحثون من إجراء محادثات تضمنت بعض الأسئلة والمعادلات الرياضية مع أشخاص يحلمون، وبالنظر إلى النتائج -التي تضمنت 36 مشاركاً- أكَّدت أن بمقدور الإنسان أن يُعالِج المعلومات المعقدة أثناء نومه. يُعتبر هذا الأمر تحدياً لتعريف النوم، فالنوم حالة يفقد خلالها المخ اتصاله ووعيه بالبيئة الخارجية.
أجريت تلك التجربة على أشخاص قد سبق تدريبهم ليكونوا واعين أنهم يحلمون فيما يُعرف بـ Lucid dreaming أو «الحلم الجلي»، وذلك من أجل تسهيل التواصل بين القائمين على التجربة والنائمين، ووجَّه القائمون على التجربة عدة أسئلة سهلة تُجاب بـ «نعم» أو «لا»، وبعض المعادلات الرياضية البسيطة.
أجاب النائمون على خُمس الأسئلة إجابات صائبة، وعلى خمس آخر تقريباً إجابات غير محددة، و3% فقط إجابات خاطئة، بينما 60% من الأسئلة لم يتلقوا لها إجابات. ولدى استيقاظهم، تذكَّر بعض المشاركين أحلامهم، فقال أحدهم إن مذياع السيارة في الحلم كان يبث أسئلة رياضية، بينما قال آخر إن أحدهم قاطع حفلته ليسأله ما إذا كان يتحدث الإسبانية.
يعتبر هذا تقدماً عظيماً، فبالنظر إلى الجانب المشرق، حصدت 40% من الأسئلة استجابات بطريقة ما، مما يُعزِّز من فكرة وجود طريقة ما للتواصل عبر الأحلام.
يتبنى البعض فكرة تنبؤ الأحلام بالمستقبل لأسباب دينية أو روحانية، لكن بالنسبة لشخص لا يؤمن بالماورائيات، سيجد الأمر عبثياً، أو ربما سيخبرك أن هذه مصادفة، لكن حتى العلماء، آباء العلم والمنطق، لم يصدِّقوا في الأحلام وحسب، بل استلهموا أفكارهم واختراعاتهم منها.
قد يكون الأمر صدفةً أحياناً، وأحياناً أخرى قد يبدو طريقة يتحدث بها عقلك إليك. لكن الأكيد أن الأحلام ستظل لغزاً غير مفهوم، وإلى أن نسبر أغوار هذا اللغز، عليك أن تكون حذراً، لأنه قد يكون ثمة شخصٌ ما يحاول الولوج عبرها إلى معلومات عقلك اللاواعي.