الدراما في التعليم: تكسير لحدود الواقع واجتراح لممكنات الخيال
انعطفت بعض من دول العالم في العقود الأخيرة، نحو اعتماد الدراما أسلوبًا في التعليم. ورغم أن هذا الأسلوب ينهل من نظريات متباينة ومتعارضة أحيانًا، إلا أنه يبقى دراما تكونية. ولعل السمة الرئيسة لهذا الأسلوب هي مقدرته الرائعة على مساءلة الوقائع واستخلاص المعاني وبناء المواقف عبر أربعة أركان هي: اللعب، والتعلم في السياق، وامتلاك التعلم، والتمثيل الرمزي للخبرة. فما هي الدراما التكونية؟، وما الذي يتعلمه الأطفال عبرها؟، وما هي مخرجاتها في التعليم؟
الخطوة الأولى نحو الدراما
حين تلج ميدان الدراما في التعليم ستكون دوروثي هيثكوت (Dorothy Heathcote) أول من ستلتقطه مسامعك، سيدة وهبت نفسها للتعليم، ليس التعليم التقليدي الذي يخدم أجندة سياسية، ويعمل على توطيد أركان النظام القائم على حساب البراءة الجذرية التي يمتاز بها الأطفال عند إدوارد بوند (Edward Bond)، بل تعليم يُوسع الأفق، ويجترح المساحات، ويُسائل القيم، ويختبرها في عالم الخيال القصصي.
تعليم يمكنني الذهاب إلى حد القول إنه يضع جميع السيناريوهات التي يعيشها المجتمع والتي عاشها والتي قد يعيشها، ويختبرها مستكشفًا آثار القمع والتشدد والتطرف، بل وفساد المجتمع ولاعدالته، في الواقع، وفي اللغة التي نستخدمها بينما تفقد عنفوانها وبريقها.
ورغم ذلك نُحمّل الجيل القادم إخفاقاتنا اللغوية. فأي تعليم هذا الذي يقول للطفل ارسم العالم كما تراه عيناك، وعش فيه بشعورك، واهتدِ بنفسك إلى العدالة؟!.
التعليم والحاجة إلى الحرية
الحاجة إلى الحرية في التعليم ليست أبدًا متخفية وراء الرغبة في التهرب من الوظيفة كما يدعي أصحاب البصيرة وحماة المدينة الفاضلة، إنما الذي يحتاج الحرية أولاً وأخيرًا هم المتعلمون الذين يجدر بنا أن نتعلم منهم أن الخيال هو ما يقود العقل وليس العكس، وأن عالم الصغار أكثر صدقًا وإنسانية قبل أن يفسده عالم الكبار.
وأعتقد أن كل ما يحتاجه الأطفال هو الاحتفاظ بحق تخيل عالمهم بحرية؛ خلقه وهدمه، وضع حدوده وكسرها، استكشافه والشعور به، الوعي بمقدماته وتبعاته، وعندما يخرجون من عالم الخيال يجدون أنفسهم في الطريق الآمن نحو مجتمع عادل.
لا نتخيل النظام السياسي في بلدنا إلا وهو يضع المنهاج الدراسي، ويصيغ الكتاب المدرسي، ويحرر المذكرات لتأمين الزمن المدرسي، ويقحم الطلاب في سباق نيل العلامات، وما إلى ذلك من إجراءات تضع (الطالب) في محور عملية التعلم، وقد يتساءل الكثير منا: هل هذا حقًا يضع الطالب في محور عملية التعلم؟. لقد أقحمنا الطالب في سيرورتي سباق ومنافسة شبيهتين بنظيرتيهما في السوق الرأسمالية التي أضحت مرادفة للرداءة والاستغلال ورهاب تقلبات السوق. فأين هي مصلحة الطالب وقد أُخلي من مملكة الخيال خاصته، وبدل أن نهتدي بتطلعاته، ننزل بأكفنا على إبداعاته فنسحقها سحقًا قائلين له: ليس هذا هو المطلوب.
إن التعليم أبدًا لا يمكن أن يكون تحت الطلب، متمترسين على الدوام خلف ما تطلبه السوق، السوق الفاسدة أصلاً. وليس بالضرورة السوق الحقيقية، بل كل طلب وفق ما هو رائج، وكل ما يسألك ما يريده هو لا ما تريده أنت. مِن هنا جاءت الحاجة إلى الدراما.
أقرأ فصولاً من كتاب لبيتي جين فاغنر Betty Jane Wagner)) عن دوروثي هيثكوت وهي تُعلم بالدراما، أشعر، من خلفيتي الثقافية، وكأنها تجهد نفسها دون أن تُعلِّمَ شيئًا على الاطلاق. لكن ما الذي أتوقع أنها ستعلمه لطلابها؟؛ معارف الكتاب المدرسي؟، متطلبات المنهاج الدراسي؟، قيم المجتمع؟، هل هذا هو الهدف من التعليم؟. أجدني أحيانًا مسافرًا في رحلة مع طلاب هيثكوت وهم يستكشفون البرية ويواجهون التحديات، ويختبرون معتقداتهم في أدوار يضطلعون بها في دراما صفية طويلة، تارة يستكشفون شعور الشرطي، وتارة شعور الضحية، وتارة شعور الجلاد، وتارة شعور الناصح، …إلخ، في عالم خيالي قصصي يستطيعون فيه اختبار تبعات أفعالهم ومراجعتها وهو ما لا يتمكنون منه في العالم الواقعي.
وما يبهر أكثر في تعليم هذه السيدة صبرها الذي لا ينفد في تعليم الأطفال تالفي الدماغ والمضطربين عقليًا وهي تستخدم معهم الدراما. وكانت تُدَرِّس طلابًا معاقين ذهنيًا بعمر خمس عشرة سنة أطلقوا على مدرستهم مدرسة المجانين، فهم لا يحبونها ولا يحبون أنفسهم، ولقد كلفتهم بمهمة حمل رسالة من الصين إلى ملكة إنجلترا يطلب فيها الصينيون المساعدة، وناقَشَت معهم كل حيثيات الرحلة. بدأت الرحلة بطيئة والطلاب يجيبون عن أسئلة المعلمة: كيف سنحمل الرسالة دون أن تفسد بسبب المياه؟، كيف نخفيها عن اللصوص؟، كيف سنحملها معنا دون أن يفهمها من تقع في يده؟، أسئلة كثيرة تجاوب معها الطلاب ليكتشفوا بالنهاية أنهم ليسوا مجانين، إنهم قادرون على الفهم والفعل، والجمع بين السلطة والمسؤولية. لقد غيرت هيثكوت منظور التعليم.
ولا يزال الأستاذ اليوناني كوستاس أميروبولس (Kostas Amoiropoulos) يقول: ما نقصده نحن بالتعليم ليس هو نفسه ما تقصدونه أنتم بالتعليم، التعليم لدينا استكشاف وليس تلقِينًا، وقد تطلّب مني الأمر وقتًا لأفهم ما يرمي إليه، فإن أعوزك الأسلوب والرؤية فقدت الهدف.
في الحاجة إلى الدراما في التعليم
تُعدّ الدراما التكونية (أو الدراما الصفية) بديلاً بيداغوجيا لتعليم تكاملي؛ بديلًا لا يعمل على نقل المعارف للطلاب بصفتهم متلقّين، بل يحفزهم عبر تجارب الخيال لاختبار القيم واستخلاص المعاني والاشتغال على الذات لتنمية القدرات التي تتطلبها المواقف التي تنطوي عليها الدراما. وفي خضم سيرورة الدراما واحتكاك الطلاب بالسياق، فإنهم يكتسبون خبرة على عدة مستويات؛ خبرة في الدراما كشكل فني، وخبرة في مقاربة المعضلات، وخبرة في تخيل الواقعي، وخبرة في مختلف معارف المنهاج الدراسي.
والنتيجة التي تتحقق بهذا الوسيط التعلمي تكمن في نقل الطلابِ الخبرةَ من الخيال إلى الواقع. فمعظم المُدرسين باستخدام الدراما التكونية يُجمعون على أن أهم مخرجات التعليم بالدراما هي أن يلمس الطلاب تأثير تجاربهم في عالم الخيال على شخصيتهم في العالم الواقعي، ويشدّدون على أن نجاح هذه العملية يقتضي أن يكون الطالب هو نفسه في الوقت الذي يلعب فيه أدوارًا في داخل الدراما.
ويمكن التذكير بموقف إدوارد بوند المتمثل في كون الدراما تعود بالخيال إلى وضعيته البدئية (البراءة الجذرية)، قبل أن يقع في شَرَك المجتمع الفاسد، ليتمكن من خلق المعاني عبر عملية الاستكشاف وتجسيدها في الفعل. إنه عبر المساءلة يتمكن المعلم، كما يقول جونوثان نيلاندز (Jonothan Neelands)، من الكشف عما تنطوي عليه أجوبة الطلاب من الاختلافات والغموض؛ ففي داخل فن الدراما الاجتماعي لا تتشكل المعاني أو تُدعم بشكل شخصي، إنها تتأسس بشكل جمعي عبر النقاش والحوار اللذين ينبنيان على مساءلة المعلم؛ لخلق المعنى الذي تضطلع به المجموعة، فالدراما تتأمل المجتمع وتخلقه.
وعندما تعمل المجموعة على الإنتاج الاجتماعي للدراما فإنها بذلك ستعكس فعليًا نقاط قوتها وضعفها، وأنماط سلطتها وسيطرتها، واستجاباتها المألوفة، وصحتها الاجتماعية. ولعل الأسلوب الذي يُيسر به المعلم عملية الإنتاج الاجتماعي للدراما هو الذي يُحدث فرقًا ملموسًا بالنسبة للصف كمجموعة اجتماعية؛ وستكون هناك تأثيرات إيجابية قابلة للتحويل إلى المواقف الاجتماعية التي تواجهها المجموعة. إنه عبر عمليات التشديد على بعض سلوكات الأدوار الاجتماعية وإلغاء بعضها الآخر يترسخ السلوك الإنساني المنشود.
هذا إلى جانب أن التدريس بالدراما ليس دائمًا الهدف منه ترسيخ السلوك، فليس لدينا كما نوّهت سابقًا أسلوب واحد للتعليم بالدراما، فإدوار بوند (Edward Bond) يُعلّم للتصدي للأيديولوجيا التي تنزع إلى تقييد الخيال وإنكار الممكنات بل وإلى إعاقة النمو. إن الدراما البوندية تستكشف المواقف ولا تبني وجهات النظر، تنغمس في الحدث وتُفعِّل الشعور لتدرك المفارقات. إنها مفارقات الواقع، حيث يتوجب علينا أن نمارس الظلم باسم العدالة، أن نخوض الحرب باسم الانسانية، أن نقتل لنحيا، أن نكره لأجل المحبة، أن نتعذب لنشعر بالسعادة. إنها المفارقات التي تنطوي عليها حياتنا، فإذا ما أراد نظام سياسي أن يتقوّى فإنه لا يرى قوته سوى في إضعاف الشعب. أليس هذا ما نتعلمه في مدارسنا دون أن نُعْطَى حق اختباره؟!، إنه مهمة الدراما، ولكن من سيمنح الطفل جواز مرور للانخراط في التجربة الدرامية وقد استحوذ الكبار على الخيال ومنعوه عن الطفل؛ عن الأصل الذي صدر منه؟.
لأجل مجتمع القيم والإنسانية
لقد تبين خلال حلقات الدراما أن الطلاب يعيشون تجربة خيالية، لكنهم يظلون طلابًا حقيقيين يترددون بين عالمين؛ واقعي وخيالي.
ورغم أنهم يخرجون من الدور، إلا أنهم يظلون عالقين فيه. إن تجربة التدريس بالدراما التكونية أحدثت الفرق بالنسبة لي أنا المعلم وبالنسبة للطلاب أيضًا. فكون قاعة الدرس مُجتَمعًا مصغرًا يحتضن التفاعلات الاجتماعية ويجعلها أساس التعلم، خلق لدى المعلم والطلاب معًا دافعية مستدامة؛ فالمعلم خارج غرفة الصف يُخطط ويستبق الوقائع ويُطور الأهداف، بينما الطلاب يجمعون المعطيات ويبحثون في أغوار الفعل الاجتماعي واحتمالاته وتبعاته وهم يتعلمون في عملية متواصلة لا حدود فيها بين غرفة الصف ومؤسسات المجتمع الأخرى.
فتجربة الدراما الصفية حقل غني بالأدوات والأساليب لأجل مجتمع القيم الإنسانية.
مساءلة الوقائع واستخلاص المعاني وبناء المواقف عبر أربعة أركان هي: اللعب، والتعلم في السياق، وامتلاك التعلم، والتمثيل الرمزي للخبرة.
- باميلا بويل وبريان إس. هيب، تخطيط الدراما التكونية، ترجمة عيسى بشارة
- Jonothan Neelands. Beginning Drama
- Drama asa Learning Medium
- Imagining the Real – towards a new theory of drama in education