حبيب: النكسة أنتجت «الإسلام البديل» وقطب تبنى «فقه النسف»
يعد الدكتور كمال حبيب أحد أبرز المفكرين الإسلاميين على أرضية راسخة من علم الاجتماع الديني، وقد درس العلوم السياسية، واختلط عقودًا في السلك الحركي للتيار الإسلامي في سبعينيات القرن الماضي، ثم تبلورت لديه رؤية أشمل لمسارات النهضة، مع نقد ذاتي لممارسات جماعات «الإسلام السياسي» على الأرض، وتفنيد للتشوه العقدي والسلوكي لجماعات الإرهاب.
ينطلق «حبيب» من مرجعية مدرسة الحضارة التي ترفض السقوط في عقدة التبعية للمستعمر، وتسعى لاستلهام مكامن قوتنا كأمة مسلمة لمواكبة العصر.. في الحوار التالي نتطرق مع المفكر المصري لسؤال الوقت: متى تراجع الحركة الإسلامية نفسها؟
بدأ الحوار مع حركة «الإحياء الإسلامي» في السبعينيات فهل ساعدت نكسة يونيو في صحوتها؟
حبيب: حركة الإحياء أو اليقظة الإسلامية كانت حركة فطرية تعبر عن أشواق الشباب لهويتهم، وكانت تعبيرًا عن ظهور ما يُعرف بـ «الإسلام كبديل» بعد الهزيمة الكبرى التي واجهتها مصر في 1967 وأحدثت زلزالًا مروعًا للضمير العربي والمصري، وكانت إعلانًا عن فشل المشروع القومي ذي الطابع العلماني الذي يحصر علاقة المسلم بربه في المسجد فقط، وكلما حاصرت السلطة وأممت مظاهر الدين في الحياة أو همشتها، رأينا مثل تلك الأزمة التي تنتج عن بحث الشباب عن هويتهم التائهة.
لقد بدأ استلهام الطلاب لهويتهم، في سلوك يميل للتمسك بالهدي الديني الظاهر من حجاب ولحية، وتبني البعض لهجة فصحى أو تميل للهندية كما فعلت جماعة التبليغ وقتها! وبدأت المعسكرات الشبابية تستضيف علماء من عينة الشيخ سيد سابق ومحمد الغزالي، وبدأ الحديث عن تطبيق الشريعة وتعزيز مكانة الأزهر في عهد الشيخ الراحل دكتور عبد الحليم محمود، ولم تقف الدولة في وجه تلك الظاهرة، وبدا للسادات أنها تعبير عن توجه دولته نحو «العلم والإيمان»، وقد انتوى بتقويتها تحجيم الوجود اليساري الناصري والماركسي الشيوعي.
على الجانب الآخر، كان لدينا حركة «الإحياء المسيحي»، وبدأت في البروز مع أحداث الخانكة عام 1972، وقد رعتها الكنيسة المصرية في ظل البابا شنودة المنتمي لجيل مدارس الآحاد، والذي يميل للعب دور سياسي نشط من داخل الكنيسة.
هل تأثر الإسلاميون الحركيون بالسياسة الخارجية آنذاك؟
بالطبع! وللتدليل على ذلك أنه مع إسقاط نظام شاه إيران في عام 1979 عبر ما أطلق عليه هيكل «مدافع آيات الله» وظهور الخميني قافلًا من باريس إلى طهران، وانتصار الثورة، بدأت حركة الصحوة أو البعث الإسلامي تتخذ نمطًا أبعد من التعبير الفردي، وتتسع لمظهر يعبر عن التغيير الاجتماعي والسياسي، ومقاومة الهيمنة الغربية والأمريكية بالخصوص.
وامتدادًا لذلك وفي عام 1980 بدأ الحديث عن تبلور الجهاد الأفغاني ومقاومة الاتحاد السوفيتي، وبداية ظهور جماعة عبد الله عزام، وظاهرة «المجاهدين العرب» و«الأفغان العرب».
ولقد استغلت أجهزة المخابرات الأجنبية رجال تلك التنظيمات ليقوموا بالحرب بديلًا عنها في أفغانستان كما أشار بريجينسكي مستشار الأمن القومي الأمريكي في كتابه «لعبة الأمم»؛ فقد كان الهدف هو إيجاد فيتنام للاتحاد السوفيتي، شبيه بما سقطت أمريكا في أوحاله وانهزمت، والقائم على فكرة الحروب اللانظامية.
لماذا ذكرتم أن حركة الإحياء الإسلامي ضيعت فرصة تاريخية للنهوض؟
كان يمكن لحركة الإحياء الإسلامي أن تكون إضافة مهمة لو بقيت في حدود النشاط الاجتماعي والديني المصري، ولكنها اقتُحمت من الطامعين في فيضانها، ووظفها كل منهم لهدفه كما رأينا في تطورها!
ولا نخفي أن التنظيمات القديمة كالإخوان رأتها فرصة لتستعيد بها عافية كانت قد ذبلت، في ظل استغلال الدولة لها في مواجهة اليسار.
ونلاحظ أن الحركة الوهابية قد غذَّت الصحوة بطابع سلفي شكلي حرفي متشدد، ضيقت به على المجتمعات وصدَّرت حركة الإحياء في المواجهة، وقد سادت فكرة لدى شيوخ نجد آنذاك أن الحواضر السعودية والعربية تخفي مجتمعات شركية لا تحقق معنى التوحيد، وينطبق عليها فكرة المجتمع الجاهلي.
كما تشربت الحالة الجهادية مسحة سلفية مزجت بين أفكار ابن تيمية وقطب وابن عبد الوهاب وأغرقت نفسها، وصرنا إزاء ما أطلقت عليه «مدرج للتشدد والغلو» يزداد مع كل جيل، وهو ما فاقم الأزمة.
في هذه الأثناء ابتليت الأمة بشخصيات ادعت فكرة المخلص، ومنهم جهيمان العتيبي المتورط في اقتحام الحرم المكي 1979، ومن قبله شكري مصطفى في مصر معتبرًا أن جماعته التكفيرية تمثل الإسلام الصافي الذي يجب أن يحكم العالم!
بالتالي لم تعد حركة الإحياء تعبيرًا عن الأشواق للتدين كما بدأت، وإنما أصبحت تسم مجتمعها بالبدعة والتدين الناقص، وادعت امتلاكها «الإسلام الصحيح»، وتسلل السوس للثمرة الطيبة فنخرت فيها وأذهبت بركتها، وقد غاب عنها عقل كبير يعرف كيف يوجه قوتها الهائلة ويأخذ بمكابحها إلى حيث تكون ذخرًا لأمتها لا خصمًا منها.
إلى أي مدى عانت الحركة الإسلامية المصرية من غياب النقد الذاتي؟
سأضرب مثلًا من الحالة المصرية؛ فلم يكن هناك اهتمام بعلم أصول الفقه ولا بالمقاصد ولا المصالح المرسلة، ولم نعرف أعلام التنوير والنهضة، ومنهم الطاهر بن عاشور إمام الزيتونة وعلال الفاسي وابن باديس والبشير الإبراهيمي، بل مالك بن نبي فيلسوف الحضارة والظاهرة القرآنية لم يحظَ بالاهتمام الكافي من مصر، وكان الذي تعلم منه هو المفكر الإيراني «علي شريعتي»، وانعكس ذلك في كتاباته.
ليس هذا فحسب؛ فلقد غاب عن الحركة الإسلامية المصرية الاستفادة من أعلام النهضة في مصر نفسها! ونضرب مثالًا برفاعة الطهطاوي وخير الدين التونسي وعلي مبارك والشيخ المرصفي، وراحت الحركة تتهم جمال الدين الأفغاني بالماسونية ومحمد عبده بالتخاذل ومهادنة المحتل، وأغفلنا محمد رشيد رضا رغم سلفيته ذات الطابع الإصلاحي.
صحيح ظهرت محاولات جادة لنقد كتاب «معالم في الطريق» لسيد قطب، ومن قبله كتاب «المصطلحات الأربعة» للمودودي، ولكن لم تحظَ باهتمام الحركة الإسلامية، وقد حرر عبد الله النفيسي كتاب «أوراق في النقد الذاتي» وقال: إن الحركة التي لا تريد أن تُراجع أو تُدرك أخطاء ماضيها من الممكن أن يتحول حاضرها إلى كومة من الأخطاء ومستقبلها إلى كارثة!
ولقد سعى البعض لنقد حركة الإخوان المسلمين مبكرًا، ومنهم عبد الله أبو عزة في كتابه «نحو حركة إسلامية علنية وسلمية»، ولكن لم يلتفت أحد جديًّا لتلك الرسائل.
كان الحشد والتعبئة هو المنطق الأعلى صوتًا، والتصورات البدائية عن السياسة لدى القادة الإسلاميين الكبار، ولغة عنترية تجاه أمريكا والغرب، من عينة «ندهسهم بأقدامنا».
ومن هنا أصبحت الحركة الإسلامية كدفقات مفاجئة بلا أهداف ومقاصد، بل صار مصير المشتغلين بالنقد من أبناء الحركة هو الاستهجان والفصل وربما حتى التشنيع.. وفات على الأمة تأسيس حركة إسلامية تتجاوز الأفكار الناتجة عن عصور سلفت، وإنتاج حركة علنية تطرح فلسفة عملية لـ «الإسلام المشارك» لا «المواجه» لمجتمعه.
ما الذي قصدتموه بفكرة مراجعة الأيديولوجية الفاتنة المستعلية؟
الأيديولوجيا الفاتنة مصطلح صككتُه للتعبير عن الكتابات الرشيقة الأدبية التي تغازل أوتار الوجدان في الشباب، فتأخذهم إلى مناطق لم يكونوا يريدونها لأنفسهم، ثم يكتشفون خطأهم بعد أن يدفعوا أثمانًا باهظة من عمرهم في السجون، وربما حياتهم في مواجهات بلا معنى.
لقد نصبت تلك الحركات «الحاكمية السياسية» غاية الفعل الإسلامي، دون اعتبار لأثر العبادات والزكوات والمجاهدات الأخرى من أول كلمة «لا إله إلا الله» وحتى «إماطة الأذي عن الطريق»، وهي أيديولوجيا تخالف فلسفة الدين وترتيب نسقه كما وضعه الله سبحانه وتعالي وكما بيَّنه النبى صلى الله عليه وسلم.
ومن تلك الخطابات سنرى «معالم في الطريق» لسيد قطب والمستقى من أفكار المودودي حول الحاكمية، وهناك كتاب «الفريضة الغائبة» لمحمد عبد السلام فرج، وصولًا لـ «فقه الجهاد» لأبي عبد الله المهاجر، وهي أمثلة لأيديولوجيا آسرة للشباب حديث العهد بالالتزام.
وحين يعجز الشباب عن تطبيقها على المجتمع تحدث حالة الاستعلاء، ومن ثم العداء لذلك المجتمع والتكفير والتبديع ووصم المجتمع بالجاهلية، ويتحول الشباب لحالة منعزلة شعوريًّا وعمليًّا عن واقعهم، ويتصورون أنهم من الطليعة المؤمنة الصافية التي تشبه تلك التي أحاطت برسول الإسلام الأعظم في مستهل دعوته!
لقد عانت الأمة المسلمة من الوهن بفعل التغريب والاستشراق والاستعمار وسيادة أيديولوجيات مادية غربية تدعي تنويرًا زائفًا، ولكن الحل في نهوض وإحياء واجتهاد وليس على شاكلة تلك الجماعات المغرورة التي تريد نسف كل ما قبلها، وتقاطع مجتمعاتها حتى وصل الأمر للإفتاء بعدم الأكل من ذبائح جارك ولا الصلاة في مساجد غير المنتمين لتلك الجماعات، أو حتى الزواج من غيرهم! وهذا المسلك هو تمزيق للأمة، ومخالفة لطريق أهل السنة والجماعة.
هل تعرض تراث ابن تيمية وابن القيم للتأويل المغرض من قبل تلك الجماعات؟
من المشكلات التي تعرضت لها صحوة الإحياء الإسلامي بحكم التأثير السعودي الهائل على النشر وتسويق الكتب على نطاق واسع وبلا مقابل عبر مراكز أنصار السنة وجمعياتها، أن أصبحت الدعوة مرتبطة بالمؤسسة الوهابية التقليدية وما يتبعها من مؤسسات دينية، وكان الشيخ محمد حامد الفقي هو من بدأ نشر تراث ابن تيمية وتلميذه ابن قيم الجوزية على نطاق واسع، ولم تمانع الدولة المصرية كما ذكرنا كجزء من إثبات هويتها المسلمة بعد هزيمة يونيو.
في هذه الآونة اتسع نشر تراث المدرسة الحنبلية في بغداد، والتي تخرج من «صحيح الدين» من يخالفها، وكان الحنابلة يمتحنون الأئمة في عصرهم، ومن لا يحظى بموثوقيتهم يتعرض للمحنة والمطاردة مثل أبي الحسن الأشعري.
لقد لاحظت أن القرافي (ت 684هـ) في القرن السابع الهجري ألف كتابًا باسم (الفروق)، ويعني الفروق التي تنتبه للزمن الاجتماعي والفرق بين الأزمان وتغير الفتوى بتغير الحال والزمان والمكان، لذا كانت دعوتنا لضرورة تعلم منتسبي حالة الإحياء للعلوم الاجتماعية وطرق فهمها للظواهر.
وأرى أن ارتكاز الحركات الإسلامية على جوانب بعينها من الفقه الحنبلي والتيمي، ثم التأثير الوهابي، قد أضر بحركة الإحياء وشحنها بعناصر قابلة للغلو والتشدد، وهو منافٍ لمسلك النبي القائم على التيسير فيما ليس فيه حُرمة بينة، ولقد حملت تلك التفسيرات الشباب لجدالات طويلة حالت بينهم وبين اجتهاد عصرهم، وراحوا ينسخون اجتهاد السابقين لزمانهم باستسهال، والحقيقة أن فقه ابن تيمية (661هـ – 728هـ) كان تعبيرًا عن عصر قلق سياسي واضطراب اجتماعي شهد سقوط الخلافة الإسلامية ببغداد، وشهد مقدم التتار العنيف على العالم الإسلامي، ولو دققنا فسنرى أنه حتى في زماننا فإن أفكار المودودي في عصر محنة الهند وتقسيمها، وحتى أفكار قطب التكفيرية بتأثير من غلو تيار في الدولة الناصرية تجاه اليسار وتهميش الحالة الإسلامية، ما فتح الباب للبعض لإنتاج أفكار مغلوطة بدافع الحمية.
في تلك اللحظة المتوترة كان على العقل الإسلامي أن ينفض حالته كرهين محبسي «ابن تيمية وقطب» في قضايا الجهاد، فكما يقول الشهرستاني في كتابه «الملل والنحل» إن النص متناهٍ والواقع غير متناهٍ، ولكي يضبط المتناهي اللامتناهي وجب الاجتهاد مع كل واقعة جديدة!
فعلينا الاجتهاد السياسي والاجتهاد الفقهي؛ أن تجتهد لعصرك؛ فخراج أبي يوسف لا يلزمك وأحكام الماوردي السلطانية لا تلزمك بالضرورة، ولكن يلزمك عصرك وعقلك وتأسيسك لنظام سياسي، تأخذ من تجارب الأمم وخبراتها وتدع، بحيث تجعل من ذلك النظام السياسي نظامًا يحترم الإنسان ويحفظ كرامته ويحقق له العدل والحرية والكرامة الإنسانية، وهو ما ينطبق على القضايا الفقهية المستحدثة.
إذا انتقلنا لمدرسة الحضارة ومفكريها، فهل فات الحركة الإسلامية الاستفادة منها؟
لم تهتم المدرسة الإحيائية المصرية بمالك بن نبي (1905-1973) كما أسلفت، بينما اهتمت بكتاب «معالم في الطريق»، وقد انتقد «قطب» دعوة مالك بن نبي لمدرسة حضارية إسلامية، مؤكدًا أنه متأثر برواسب ثقافية أوروبية تحرمه من الفهم الأصيل لهذا المفهوم!
وهنا نحن أمام منهجين؛ منهج متعالٍ – قطب نموذجًا – عن الواقع ينشد المثال الذي يحرمه من رؤية الواقع، ومنهج يبدأ من الواقع – ابن نبي نموذجًا – ويرى أن هناك مشكلة، ولكي نحلها لا بد من معرفة شروط حلها.
أذكر أنني قرأت كتب مالك كلها في السجن، وكانت كشفًا جديدًا داخل الحالة التي كنت أمثلها وقتها؛ لغة جديدة ومسار للتفكير والفهم يتجاوز الأيديولوجيا الفاتنة، ومن ذلك أعماله: «الظاهرة القرآنية» و«مشكلات الحضارة»، وكانت تنشد النهوض بالإنسان والمجتمع المسلم من أسر التخلف.
وضمن هذا التيار فات الحركات الإسلامية تدبر كتابات أعلام مدرسة الحضارة، ومنهم المسيري وحامد ربيع وجمال حمدان وطارق البشري والغزالي وشريعتي والصدر ومحمود شاكر، والعودة للعقاد، وعبد الرحمن بدوي في إسهاماته دفاعًا عن القرآن والنبي، والشيخ ابن عاشور وكتاباته المقاصدية، وغيرهم.
هل هناك تجارب لدول استفادت من أفكار مدرسة الحضارة؟
نعم لدينا الحالة الماليزية مثلًا، والتي تؤكد أن الدولة هي الرافعة التي تنقل مجتمعها وأمتها نحو التقدم من وهدات التخلف، وقد كان فهم مهاتير محمد طبيب العيون الذي تعلم في الغرب وانحاز لفقراء الملاويين وانتصر لعلاجهم، كان فهمه للإسلام الحضاري الذي قدمه (مالك بن نبي) والذي يقوم على تحرير المسلم من عقدة (القابلية للاستعمار)، وأمراض (إنسان ما بعد الموحدين)، فكانت البداية من الإنسان أولًا، فهو الفاعل الذي يحول مكونات الحضارة إلى فعل نهوض.
ولقد جمعت تجربة ماليزيا القيم الآسيوية التي تأتي على رأسها قيمة العمل والجودة ومزجها بالقيم الإسلامية السابقة لها والتي تحمل شعار: (الذين آمنوا وعملوا الصالحات)، ومزجت مفاهيم نراها في اليابان من الجمال والنظام والاجتهاد، مع روح التسامح والتعايش التي نراها في مكة.. فكانت تجربة ثقافية فريدة، وقد ركز مهاتير على إمكانية الوحدة بين عوالم الإسلام المختلفة بحسب ابن نبي في «كومنولث إسلامي» عبر مراجعة فكرة الإمامة لتناسب العصر، ومن هنا تحولت البلاد لنمط يوفق بين الإسلام والحداثة؛ وكان الدين قوة دافعة وليس عائقًا كما يتصور البعض.
ولقد كان خلف مهاتير في الحكم وهو أنور محمد، أحد أبناء مدرسة الإسلام الحضاري أيضًا، وتأثر بإقبال والكواكبي وابن نبي، فتقدمت التجربة لأفق حضاري.
بالطبع علينا انتقاد جوهر فكرة المستبد العادل التي آمن بها (مهاتير محمد) وبقائه في السلطة لأكثر من عشرين عامًا، في حين تؤمن التجارب المعاصرة بتوزيع السلطة، فلا يحتكرها حزب واحد ولا شخص واحد مهما كان مؤثرًا، كما أن الشفافية والرقابة والانتخابات النزيهة وحرية الصحافة والرأي أحد مدخلات السياسة المعاصرة.
بحكم خبرتكم في الشأن التركي، كيف تنظر للدور الذي تلعبه في مشهد الإسلام السياسي؟
اخترت التجربة التركية محورًا لرسالتي لنيل الدكتوراه باسم «الإسلام والحياة الحزبية في تركيا دراسة حالة لحزب الرفاه (1983-1997)، وقد نظر الإخوان المسلمون بازدراء آنذاك لتجربة حزب الرفاه بوصفه تجربة قومية داخل نظام علماني، في حين أن التجربة التركية تثبت أن تطبيق الدين في واقع الحياة يحتاج لدعم من الدولة، ويتميز الأتراك بالحس الإداري العالي، وهذا دعم تجربتهم.
ولو عدنا لأعلام تجربة تركيا المسلمة فسنرى تجارب مثل الشيخ سعيد النورسي، الذي شهد سقوط الخلافة الإسلامية عام 1924، وكانت رسائل «النور» التي يضعها وسيلته لمواجهة علمانية كمال أتاتورك، وحققت انتشارًا في البلاد منذ الخمسينيات، وكانت تجمع الجانب الروحي المستقى من القرآن، مع العلم ولغة العصر، وهي بذرة لمدرسة «النورسية».
ثم كان نجم الدين أربكان أبو الإحياء الإسلامي التركي المعاصر، وكان شعوره بالانتماء لتركيا ما دفعه لتأسيس أحزاب مستقلة مثل «السلامة» و«الرفاه» والتي كان القادة العلمانيون يغلقونها، وبعد انقلاب عام 1997 كان حزبه الهادر في الساحات، ولكنه رفض أن تتجه هذه الجماهير للشارع وتستخدم العنف وتكرر سيناريو جزائريًّا في تركيا.
ولقد تأسست أحزاب بمشاركة جيل وسط الحركة الإسلامية وبينهم أردوغان، وخرج الأخير للسلطة عبر حزب «العدالة والتنمية» وكانت أيديولوجيته هي (الديموقراطية المحافظة)، فللإنسان حرية اختيار نمط حياته بعيدًا عن الأصولية العلمانية العسكرية هناك، واستطاع تخفيف تلك النزعة المتطرفة في مؤسسات الدولة، لكن للأسف علت النزعة السلطانية القديمة عند أردوغان نفسه، فاعتبر نفسه (البادشاه العثماني) فالتاريخ لا يموت! وغيَّر النظام البرلماني وغير سياسة البلاد التي وضعها أحمد داود أوغلو.
ورغم ذلك لا تزال تجربة تركيا ملهمة في المحافظة على نزعة تتوق للديمقراطية والتعدد الحزبي والانتخابات النزيهة التي تبدأ من الرئاسة وتصل للبلديات (في توازن بين المركزية واللامركزية)، والطابع المحافظ مع نبذ التطرف العلماني، تقبل الآخر وتتمسك بالوجود الإسلامي وتياراته وتعبيرها عن نفسها من داخل الدولة، مع إدراك أن الدولة مظلة للأتراك جميعًا.
هل تؤمن أننا نعيش إرهاصات ما بعد تنظيمات داعش والقاعدة؟
بالطبع! تنظيم القاعدة واجه أكبر تحدٍّ له حين حدث انقسام داخله عام 2013 حول البيعة وشرعية القيادة، وكذلك التنظيمات ذات الطابع الانقسامي مثل داعش أعلنت انشقاقها على القاعدة لتصبح النسخة الأكثر تشددًا.
فمدرج العنف مغرٍ جدًّا وهو بدرجاته يميل نحو التصاعد، ومن هنا فإن تنظيم داعش لا يتبنى أيديولوجية السلفية الجهادية القاعدية، التي مزجت بين أفكار ابن تيمية وقطب، وإنما يتبنى أيديولوجية خوارجية صافية لا تتورع عن تكفير مخالفيهم بما في ذلك استحلال دمائهم وأموالهم واستخدام القوة في مناطق وجودهم، ضمن نظرية (إدارة التوحش) لأبي بكر ناجي، بل لقد حكم التنظيم على أعضائه حين قاوم بعضهم تنفيذ القصاص على الناس قبل إقامة الحجة عليهم أو «العذر بالجهل».
وهذا ما فعله جماعة الخوارج مع علي بن أبي طالب رضي الله عنه، حين رفعت شعار (لا حكم إلا لله) في مواجهته، ومزقت الأمة واستقرارها، وكانت عباءة لظهور جماعات عنف متأسلمة، ومنها حركة الزنج والحشاشين الذين قادهم حسن الصباح، وكلها وبينها داعش لا مستقبل لها، لأنها في الحقيقة تقاوم التيار الرئيسي للأمة من أهل السنة والجماعة.
صحيح أن داعش لا تزال حاضرة رغم انحسارها من دولة لتنظيم، ولا تزال خلاياها النائمة تسعى لشغل مناطق الفراغ التي تضعف فيها الدول المركزية عبر استراتيجية «الذئاب المنفردة»، ولكنها تحمل نهجًا عدميًّا فوضويًّا لا يعرف وجهة.
وكيف تنجح منصات مواجهة التطرف في عالمنا العربي على الأرض؟
علينا إطلاق منصات علمية موثوق فيها في مواجهة المنصات الداعشية، وتدريب القائمين عليها وفي المؤسسات الدينية الكبرى على الحجاج مع قضايا الغلو والتشدد والإلحاد وتقديمها في الجامعات والمدارس، وكذلك في دور العبادة ولدى خطباء المساجد.
ومن الأهمية بمكان تقوية تيارات المراجعة ذات الخبرة السابقة في الحركات القتالية ونشر مراجعاتها بعد إجازتها من الأزهر، وتفنيدها.
وعلينا وقف الهجوم الإلحادي والعدمي على التراث الإسلامي من كل نابتة انتهازية ممن لا يميزون بين الصراع السياسي مع بعض تيارات الإسلاميين وبين الهجوم على الإسلام نفسه وعلى ثوابته، خاصة السنة النبوية ورموز الأمة المجمع عليهم كالبخاري والأئمة الأربعة ومدارسهم الفقهية.
ويجب أن يصبح مفهوم التجديد الديني متجهًا نحو الحفاظ على ما هو قائم وحمايته والنظر فيه ومراجعته وتحديث ما يتوافق مع العصر ولا يخل بالثوابت، وليس التجديد بمعنى التبديد والهدم.
ومن الناحية الاجتماعية والنفسية، يجب تشريح العقل المتطرف وفهم دوافعه من قبل متخصصين في علوم متنوعة، مع خلق بديل مجتمعي للشباب ومتنفس تعليمي ورياضي وديني آمن، وخاصة من تبدو عليهم ميول للتطرف والحوار معهم لنسد الطريق أمام تجنيد المزيد من الشباب، وتحريرهم من أوهام الرفاق والجماعات المرجعية المغلقة Closed Reference Groups وتحسين فهمهم للحياة.
يصل بنا المطاف لحالة التدين المصرية.. كيف ترى دورها في إشاعة وجه الإسلام الحقيقي الوسطي حول العالم؟
التدين المصري يميل نحو الاعتدال بعيدًا عن الغلو والحرفية والشكلانية والتمسك بالقشور؛ فالمصريون شافعية في الدلتا، ومالكية في الجنوب، وهم أشاعرة بطبيعة التكوين المتسامح للنفس والبيئة وتداول أمم وسلاطين وملوك ودول على حكم مصر.
ومؤسسة الأزهر بطبيعتها هي مؤسسة عُلمائية شاملة قبل عصر محمد علي، وهي منجم تخريج النخب العلمية في كافة أفرع العلوم الدينية والدنيوية، ولعل الشيخ حسن العطار الذي تحدث عنه المؤرخ بيتر جران في كتابه المهم (الجذور الإسلامية للرأسمالية .. مصر 1760-1840) وعن دوره إبان الحملة الفرنسية ثم دوره أثناء فترة محمد علي كشيخ للأزهر يجمع بين علم الفقه والطب، ويتحول بين الشافعية للمالكية، ويهتم بفكر ابن خلدون في سنن قيام الأمم وسقوطها، يعطينا ملمحًا عن طبيعة شيوخ الأزهر، وكانت مدرسة الأزهر منفتحة ولا تزال على المدرسة الطرقية الصوفية بتنوعها، وعلى شئون الدنيا أيضًا، مما منحها ازدهارًا وانفتاحًا على العالم قبل مجيء الفرنسيين لمصر 1798م.
وكانت الصوفية قوة للمجتمع تملك أوقافها وتعطي أخلاقًا وقيمًا للعمال والحرفيين وأصحاب الطوائف المختلفة، وتمنح الناس فضاءً روحيًّا ضروريًّا لتلطيف حياتهم وإعطاء معنى لوجودهم.. لذا فتميز مصر نابع من تلك الروح الكبرى المتسعة.
ولا يمكن تغافل الأثر الممتد للمدرسة الفقهية المصرية المتمثلة في الأزهر والفقهاء النهضويين، المشايخ رفاعة الطهطاوي وعلي مبارك ومحمد عبده والمراغي وسليم البشري ومصطفى عبد الرازق ومحمود شلتوت ومحمد أبو زهرة وجاد الحق وصولًا للشيخ أحمد الطيب الآن.
فنحن أمام مدرسة متميزة تجمع بين الأصول والعصر وتوافق بين الإسلام والحداثة وبين العلم والدين وبين الروح والعقل وبين الخصوصيهة والعالمية وبين الحوار والدعوة بالتي هي أحسن، وبين التدافع الذي يحمي الحقوق وينصر المستضعفين وخاصة في التحديات الكبرى للمسلمين، وأهمها القضية الفلسطينية التي تواجه آلة عنصرية صهيونية متكبرة مدعومة من الغرب.