همسة مزدوجة في أذن المشير الرئيس ومؤيديه
لعلنا في مصر المحروسة اليوم نعيش أزمة اقتصادية واجتماعية عنيفة. وفى أجواء الأزمات فإن المسئولين في السلطة تكون «صدورهم ضيقة» و«أعصابهم متوترة» و«أمزجتهم منحرفة» و«عقولهم مشدودة كأوتار العود». وذلك يصُد أي صاحب رأي عن مخاطبة السلطة بنقد موضوعي أو حتى بنصيحة مخلصة تطلب من المُناط به إدارة البلاد أن يقف ويتمهل ويعيد النظر من جديد للوضع ويرى ما الذي أخطأ فيه؟ وما الذي نسيه؟ و ما الذي سقط منه سهوًا في وسط الزحام؟
ولكن على الجانب الآخر نجد أن الإحساس العام لدى قطاع عريض من المجتمع المصري اليوم هو شعور بالخيبة أليم ممزوج بقلق عميق. خيبة مما جرى بالأمس ولا زال يجرى اليوم وقلق على الغد من تكرار نفس السياسات.
ووسط كل ذلك تضاربت الآراء واختلفت التفسيرات، وتصادمت النظريات، وهكذا بالخوف، وبالحيرة، وبالشك، وبالأمل، وبالطموح يعيش الشعب المصري في أجواء عاصفة مرة ومتضاربة مرات.
لقد ظن الناس أن الرئيس السيسي الذي انتخبوه سيكون رحيمًا ورفيقًا بهم، وخصوصًا وأنه «وعدهم بأنه لن يرفع الدعم قبل أن يُغنيهم» وأنه سيحاول إصلاح ما فسد دون أن يُحملهم كامل الفاتورة. ولكنهم وجدوا أن ناتج الفاتورة كاملًا سيتم دفعه من جيوبهم شبه الفارغة، أي أن الذي حدث ظهر أنه خلافًا لما هو منتظر. وذلك أحدث صدمة مزدوجة فهي مخالفة للتوقعات ومتعارضة مع الأماني.
ومن كل ذلك فإن شعورًا بالإحباط تولد لدى قطاع عريض في المجتمع، راح يتنامى لديه ويتراكم، ثم يتخطى من حالة إحباط إلى خيبة أمل، أصبح ظاهرًا ومحسوسًا والخوف أن تتحول تلك الخيبة إلى تملمُل والتملمُل بدوره يتحول إلى سخط عام. وذلك وضع لا يريده أي وطني مخلص وتحديدًا في تلك الظروف الإقليمية والدولية المكفهرة والمفتوحة على كل الاحتمالات والسيناريوهات.
ولهذا قررت أن أكتب همسة تكون مزدوجة في أذُن كلٍّ من الجنرال الرئيس ومؤيديه! علّها تنفع في دق ناقوس الخطر لولي الأمر وأبواقه، خصوصًا أن كثيرًا مما يكتبه ويقوله هؤلاء الأبواق يُعتبر عُدوانًا على حُرمة الوعي وعلى كرامة العقل وعلى شرف الكلمة في آنٍ واحد. مما يُحرج الجنرال الرئيس و يُسيء لشخصه ويضعف من موقفه.
في البداية يجب أن يعلم الجميع أن مصر وشعبها أكبر من أي شخص مهما علا نجمُه أو حسن فعله حتى ولو صار بطلًا من الأبطال، وذلك لأنه حتى الأبطال ذوي الخوارق تُنجبهم الشعوب ولكن البطل يعجز مهما امتلك من قوى خارقة عن إنجاب شعب.
وعلى السادة مؤيدي الجنرال الرئيس أن يعلموا كذلك أن النُظم ظواهر وأدوات عارضة في تواريخ الأوطان والشعوب، أي أن الوطن والشعب لا يخدم النظام والحكم ويفديهما، ولكن النظام والحكم هما الخدمة والفداء للشعب.
ولعلي أعتقد أن مصر وشعبها قادرين اليوم أن يقفوا ويصيحوا بأعلى صوت في وجوه الجميع، بما قاله جنرال فرنسا العظيم «شارل ديجول» لمعاونيه في حركة فرنسا الحرة في المنفى التي واجهت الاحتلال النازي لفرنسا، وبعد عودتهم معه جميعًا إلى باريس يوم النصر – أن يقول لهم كلمته المشهورة: «أيها السادة، إن فرنسا ليست مدينة لأحد».
وكانت هذه صدمةً لهم، ولكن ديجول قصد أن يقول لهؤلاء الذين عاونوه في حركة فرنسا الحرة، طوال فترة الاحتلال النازي لأوروبا، إن سابق جهادهم من أجل الوطن لا يُعطي ميزة لأي منهم، وأنهم هُم المدينون لفرنسا أن تحملوا شرف الكفاح باسمها، وناضلوا تحت راياتها ولكن فرنسا ليست مدينة بأي شرف لأسمائهم.
ونفس الشيء في اعتقادي ينطبق على الشعب المصري في علاقته ببطله الجديد ومن معه من أبواق.
فمصر وشعبها قادرين أن يقفوا ويصيحوا بأعلى صوت في وجوه الجميع: «أيها السادة، إن مصر ليست مدينةً لأحد». بل إن الجميع مدينون لمصر أن تحملوا شرف الكفاح باسمها، وناضلوا تحت راياتها ولكن مصر ليست مدينة بأي شرف لأسمائهم مهما كبُرت أو مهما علت إلى عنان السماء.
ومصر كذلك تستطيع أن تفعل مع بطلها الجنرال الرئيس ما فعله الجنرال شارل ديجول مع معاونه في حركة فرنسا الحرة «جورج بيدو» حين التفت اليه، وهُما معًا في موكب النصر إلى قوس النصر في باريس سنة 1945، وقال له: «مسيو … مسافة من فضلك»
كان ديجول العظيم يطلب إلى بيدو ألا يمشى موازيًا له في موكب النصر، وأن يتأخر عنه بمسافة، حتى لا يختلط الأمر على الفرنسيين في ذلك اليوم التاريخي، وتذهب الظنون بينهم إلى تصور تساوي الرءوس.
وأعتقد أن الشعب المصري قادر على أن يفعل ما فعله ديجول مع بيدو ويقول لرئيسه وبطله: «مسيو… مسافة من فضلك»، لقد جئنا بك إلى الحُكم لكي تجعل حياتنا أفضل في عدل ورحمة، لقد جئنا بك من أجل أن تواجه المؤسسات الدولية التي تُريد مص آخر نقطة من دمائنا تحت ستار الإصلاح الاقتصادي المزعوم وليس لأن تُصبح أنت منفذ تلك السياسات التي ستجعلنا أشباه بشر. وذلك لأن الشعب هو القائد والمعلم وصاحب القول الفصل في أي موضوع لأنه مصدر الشرعية.
وأوضح بأن المسافة التي أعنيها وأقصدها بل وأطلبها هي مسافة إلى الأمام وليست للخلف هي تلك المسافة التي تجعل الرئيس يقترب من إحساس ونبض الشعب، وليس من أوامر ورغبات وطلبات البنك الدولي أو صندوق النقد، هي تلك المسافة التي تجعل الرئيس يتعاطى مع رغبات وأماني الشعب بالفهم لطبيعة ظروفه الصعبة في الحياة وليس بضرورات الأمر الواقع المفروضة عليه من الخارج.
ثم إن الجنرال الرئيس ومؤيديه عليهم أن يعلموا أن الدولة مؤسسة رعاية وليست سلطة جباية من جيوب الفقراء المعدمين. وقد يُقال وللقول منطق بأن بعض الإصلاحات كانت واجبة.
لكن الرئيس ومؤيديه عليهم أن يعلموا بأن أي اقتصاد وطني يحترم نفسه ويحترم مواطنيه لا بد له أن يجعل الأرقام في خدمة الناس وليس الناس في خدمة الأرقام.
وكذلك فأن الجنرال الرئيس ومؤيديه عليهم أن يعلموا أن سياسة الشحاذة والتبرعات لم تُنشئ يومًا اقتصادًا قويًا ولم تبنِ يومًا وطنًا كبيرًا يسعى أبناؤه لكي يكون «قد الدنيا» كما يتحدث الرئيس في كل خطاباته وأحاديثه.
ومن المفارقات أن مصر وهي واحدة من البلدان الموضوعة في قوائم الدول الفقيرة تستورد أكبر نسبة من السيارات (المرسيدس) في العالم بالقياس إلى عدد سكانها، وذلك طبقًا للبيان السنوي (لسنة 2015) لشركة (مرسيدس بينز).
ثم إن على الجنرال الرئيس ومعاونيه ومؤيديه أن يعلموا أن الحقيقة الاقتصادية لا يمكن الهرب منها مهما كانت سُرعة الجري، وأن مواجهتها لن تتأتى بتلقي نصائح وتعليمات وأوامر البنك أو الصندوق. بل تأتي برؤية لأوضاع المجتمع المصري ومعرفة أن الطبقة الوسطى هي رافعة أي مجتمع وهي المُحرك لأي نهضة وليست طبقة النصف في المائة التي كانت حاكمة ومسيطرة قبل ثورة 23 يوليو 1952، والتي عادت من جديد في منتصف السبعينات لتسمى «بالقطط السُمان»، ونمت وكبُرت في عهد مبارك لتتحول إلى «وحش الهيدرا المُخيف»(1)، وهو ما نراه بأعيُننا اليوم في مدى قوة تلك الطبقة التي لا يستطيع رئيس الدولة الجنرال السيسي أن يواجهها بل يلتف عائدًا من المواجهة، ويبرر ذلك بقوله «إن دعم الفقراء أخطر على الدولة من محاربة فساد تلك الطبقة».
وللعلم فقط فإن مصر حصلت مصر على المركز الثاني لقائمة فوربس العالمية بأغنى الدول العربية لعام 2015 من حيث عدد المليارديرات: 8 مليارديرات.
وبلغت ثروات المليارديرات المصريين في هذا العام نحو 44.2 مليار دولار، وهو ما يساوي 336 مليار جنيه مصري. أي أن عشرات فقط من ذلك الشعب يستحوذون على تلك الثروة من أموال الوطن، بينما نصف الشعب المسكين المقهور يعيش تحت خط الفقر! وتلك مفارقة تجمع بين الضحك الهيستيري وبين البكاء المُر. وقد شملت قائمة أغنى أغنياء مصر 2015 حسب مجلة فوربس عائلتين في مصر هما عائلة «ساويرس ومنصور».
ثم إن الجنرال الرئيس عليه أن يفهم كذلك أنه نتيجة للتناقض الاجتماعي الهائل الذي ورثه من عصر مبارك بين قمة الهرم الاجتماعي في مصر وبين قاعدته، فإن حالة من خلل التوازن راحت تعتري المجتمع المصري وتهزه بقوة وقسوة، والشاهد أن هذا التناقض الحاد بين الفقر والغنى سبب شعورًا بالاستفزاز يصعب تجاهله، خصوصا وقد بدا تركيز الغنى غير مبرر وأيضًا غير مشروع، ثم إن حصار الفقر بدا هو الآخر غير مبرر و غير شرعي.
وربما كانت أخطر نتائج ذلك أن الطبقة المتوسطة في مصر، وهى مستودع الحيوية الاجتماعية القادر باستمرار على دفع موجات التقدم أصبحت مضغوطة ومحاصرة. وذلك تسبب في إحداث تباطؤ إلى حد التوقف في دوافع الحركة والنهوض أي حدثت عملية خمول مجتمعية نعاني منها اليوم.(2)
وذلك أمر لابد وأن يجد الجنرال الرئيس علاجًا له، وذلك العلاج لن يكون الا بعملية اصلاح اجتماعي حقيقي يرُد الاعتبار لتلك الطبقة (المتوسطة) التي لن تقوم مصر أو تتحرك الى الأمام خطوة بدونها، وذلك يتطلب إعلانًا واضحًا وصريحًا يقترن بفعل قوي على أرض الواقع بالانحياز الى تلك الطبقة.
ثم إن الجنرال الرئيس ومؤيدوه يجب أن يعرفوا أنه لا يوجد نظام يمتلك شرعية ويستطيع أن يصطدم مع الشباب، لأن ذلك الاصطدام لن يخصم فقط من شرعية ذلك النظام فحسب بل أنه سيضع ذلك النظام في تصادم مع المستقبل ذاته.
وفي النهاية أرجو أن يجد الجنرال الرئيس نفسه مُضطرًا في تلك الظروف العاصفة إلى أن يقفز قفزة في الظلام إلى المجهول. و أرجو ألا يكون لسان حالنا (الشعب) وقتها بما أجراه «وليام شكسبير» على لسان «مارك أنتوني» في رائعته «يوليوس قيصر» حين قال: «يا أهل روما، إذا كان لدى أحد منكم بقية من دموع فليذرفها الآن».
كانت تلك همستي في أذن الجنرال الرئيس ومؤيديه. فهل يعونها أم تُراهم ينطبق عليهم بيت الشعر القائل: لقد أسمعت لو ناديت حيًّا …. ولكن لا حياة لمن تنادي.
(1) وحش الهيدرا هو وحش أسطوري ذو سبعة رؤوس. (2) هيكل – أزمة العرب.