فيلم «Don’t Look Up»: الضحك في وجه الكوارث
هكذا وصف مصمم الأزياء توم فورد تجربة مشاهدته لفيلم بيت جوتشي الذي لا يوازن بين ما هو كوميدي وساخر سينمائيًا وبين ما هو أشبه بإسكتشات هزلية في البرامج التليفزيونية الليلية، لكن يبدو أن هذا الوصف ينطبق على أكثر من عمل قادم هذا العام من أكبر أسماء هوليوود المعاصرة، منذ أيام عرضت منصة نتفلكس فيلم المخرج آدم ماكاي الأخير لا تنظر للأعلى Don’t Look Up، وهو الفيلم الذي تم التسويق له بتكديس أكبر عدد من نجوم الصف الأول جنبًا إلى جنب، من ميريل ستريب التي يلقبها البعض بأحد أفراد عائلة هوليوود الملكية إلى تيموثي شالاميه الذي يجد قبولاً بين الأجيال الأصغر، وبينهما ليوناردو ديكابريو أحد أكبر النجوم السينمائيين يتولى ما يمكن تسميته دور البطولة في فيلم ينتقل من وجه لآخر.
اشتهر ماكاي في الأعوام الأخيرة بصناعة الأفلام السياسية الساخرة، يشرح المجتمع الأمريكي داخليًا ويستخلص منه الإخفاقات المتكررة على عكس الأفلام الهوليوودية التي تؤله البطولات القومية، ويستخدم في ذلك نفس الممثلين الذين يمكن رؤيتهم يلعبهم أدوار البطولات الوطنية وبذلك يعيد تقديمهم وتعريفهم من جديد، لكن في لا تنظر للأعلى تأخذ سخريته منحى مباشرًا أكثر من اللازم، كل شخصية هي رمز لشخصية أخرى وكل جملة حوارية تخبر المشاهد بمعلومة يجب عليه معرفتها دون مساحة لاستكشاف الكوميديا الداخلية أو أي توازنات قصصية، وعلى الرغم من الثورية التي يدعيها الفيلم في نقد السياسة الأمريكية إلا أنه يظهر كفقرة كوميدية سطحية تملك لمحات نادرة من الذكاء وبعض الأداءات الجيدة.
خمن من هذا
يبدأ «لا تنظر للأعلى» باكتشاف سوف يغير العالم، ربما في البداية عالم الفتاة التي تنتظر الحصول على الدكتوراه كيت ديبياسكي (جينيفر لورانس)، فقد اكتشفت نيزكًا سوف يضمن لها الشهرة والنجاح بعدما أخبرت زملاءها ومن هم في مناصب أعلى، لكن سرعان ما يكتشف الدكتور راندال ميندي (ليوناردو ديكابريو) أستاذ علم الفلك أن النيزك متجه بسرعة نحو الأرض، وبشكل مؤكد حسابيًا، بعد التعرض للصدمة يحاول الزميلان تقبل وفهم هول الحدث بل والتصرف بالتوجه لأعلى قيادة متاحة وهي الرئاسة الامريكية، في البيت الأبيض يتم معاملتهما كمجانين ولا يلتفت إليهما أحد بما في ذلك الرئيسة الأمريكية أورلين (ميريل ستريب) وابنها الأحمق جيسون (جوناه هيل)، يمر كلا من كيت وراندال بسلسلة من التسفية والاستهزاء تستمر في الإعلام حيث يتم التقليل من اكتشافهم في التلفزيون على مرأى ومسمع من الجميع حتى يفقدا أعصابهما لأنهما يملكان معلومة تفيد بأن الكون كله في طريقه للفناء ويبدو أن لا أحد يهتم.
يعمل الفيلم بجانب قصته الرئيسية كسخرية سياسية من القيادة الأمريكية السابقة بقيادة دونالد ترامب الذي اشتهر بتسفيه العلم وإنكاره تهديدات قاتلة مثل التغير المناخي أو فيروس كورونا، كما يسخر من الإعلام الأمريكي المحافظ الذي يضغط على مقدميه أن يحتفظوا بابتساماتهم على الهواء وأن يبقوا الأخبار مرحة حتى وإن كانت أخبار نهاية العالم، لكن آدم ماكاي يلجأ للترميز المباشر وليس الإحالة، فالرئيسة أورلين تمثل معادلاً لدونالد ترامب دون مجال للتأويل، والنيزك هو رمز للتغير المناخي، يجعل ذلك من الشخصيات أشبه بممثلين متنكرين بمستحضرات تجميل ساخرين من شخصيات عامة تمامًا كما يفعلون في حلقات snl، تصبح الأداءات نفسها غير مؤثرة أو مضحكة مع الوقت بل وتنحو نحو تمثيل ضعيف وكسول قادم من بعض أكبر الأسماء في عالم صناعة السينما، فالمادة نفسها لا تعطي فرصة كبيرة للتأويل خارج كونها سخرية طفولية من وجوه بعينها، لكن حتى إذا تم تخطي سذاجة الطرح فإن الخيارات نفسها مربكة، وضع امرأة كممثل لرئيس أمريكي اشتهر بتحريضه على التحرش الجنسي وسكوته عن مئات الحالات من الاستغلال على أساس النوع وجعل ذلك معادلاً لرئيسة تتخذ نفس المبادئ المعادية للعلم وللحقيقة لكنها تملك فضائح جنسية خاصة أشبه بفضائح المشاهير لا يمكن أبدًا مساواتها بفضائح ترامب الاستغلالية.
تفكيك وهم البطولة
آدم ماكاي صانع أفلام سياسي كوميدي لكنه يملك خلفية سابقة كوميدية سياسية، أي أنه في البداية أعلى الكوميديا على السياسة قبل أن يقرر أن يفعل العكس، ومنذ حدث ذلك التحول من مخرج أفلام هزلية من بطولة ويل فاريل إلى مخرج «جاد» تتزاحم في أفلامه الأسماء الرئيسية في صناعة السينما الهوليوودية وهو يهتم بقصص الهزيمة، قصص الفشل والإخفاق الأمريكي، لكنه دائمًا ما يتناولها من الداخل، من المساحات المغلقة التي يتم فيها صناعة القرارات، في وول ستريت في العجز الكبير The Big Short 2015 وفي البيت الأبيض في النائب Vice 2018، لكنه في لا تنظر للأعلى يبدأ من مكان مختلف، هنا نبدأ من خارج مراكز صنع القرار ثم نتدرج للوصول إليها، فبعد اكتشاف الكارثة الموشكة نصبح أمام صراع سياسي على كيفية التعامل مع تلك الكارثة، هل تدمرها آلات الجيش الأمريكي ونحصل على بطولة متوقعة لطالما ارتبطت بذلك الجيش ومعداته في معظم إنتاجات هوليوود؟ أم تأخذ القيادات قرارات تغامر بحياة البشر وتعدهم بوعود لا أساس لها مرتبطة بأحوالهم الاقتصادية والأمنية؟
يقرر ماكاي تحدي مفهوم القومية الأمريكية الراسخ حتى في عقول بقية سكان العالم الذين تأذوا وفقدوا بلدانهم بسبب تلك الأفكار الوهمية، وعلى الرغم من الراديكالية الظاهرية لتلك الفكرة إلا أن ماكاي يمحور العالم كله حول الولايات المتحدة الأمريكية حتى في أثناء نقده اللاذع لها، عندما تتحرك قوى العالم فإن روسيا تفجر صاروخًا يؤدي لخسائر لوجيستية ولا ينجح في الوصول للهدف. مثل أي فيلم آخر يؤله من القدرات الأمريكية، فإن لا تنظر للأعلى يتعامل مع الأعداء أنفسهم بالطريقة نفسها لكنه يضيف إلى ذلك فهمًا داخليًا لزيف البطولة الأمريكية، يرى ماكاي بقية العالم في شذرات وثائقية للفقراء وقليلي الحظ في الدول الأخرى، لكنه في النهاية يصنع فيلمًا آخر ينتهي العالم به فقط في أمريكا.
من يجب أن ينظر؟
تعمل أفلام ماكاي وكأنها وثائقيات كوميدية تملك جماليات الأفلام التسجيلية التي يمكن وصفها بأنها لا جماليات مثل الكاميرا المهتزة والمونتاج السريع والرؤوس المتكلمة بل وأحيانًا الرواية المباشرة، لكنه هنا يختار ألا يكسر الحائط الرابع، ربما يضر ذلك بالفيلم لأنه يفقد الوعي الذاتي الذي ميز فيلميه السابقين العجز الكبير والنائب، تحكي كل أفلام ثلاثية آدم ماكاي الساخرة الجدية أحداثًا كارثية معروفة وقد وقعت بالفعل وغالبًا ما تكون صنيعة الأنظمة الأمريكية، عادة ما تكون تلك الأحداث كبيرة ومؤثرة ونعلمها تمامًا سواء أكنا مواطنين أمريكيين أو آخرين من حول العالم لكنه رغم ذلك يعاملها وكأنها معلومات جديدة تمامًا يجب علينا معرفتها منه كمصدر أساسي، يخاطبنا بنبرة فوقية ليخبرنا أننا لا نعلم شيئًا، لا نعلم شيئًا عن الاقتصاد والكوارث التي تسببت بها البنوك في أمريكا عام 2008 ولا نعلم شيئًا عن حرب العراق ومدى هزليتها ونتائجها المأساوية، ولا نعلم شيئًا عن التغيير المناخي وما يتوقع منه من نتائج كارثية سوف تفنينا جميعًا.
يرى ماكاي أنه يجب أن يأتي بمجموعة من أشهر وجوه هوليوود للصراخ مباشرة في وجوه المشاهدين أن جميعنا سوف نموت إذا لم نهتم بشكل كافٍ، ربما كان سينجح ذلك إن لم يظن صناع الفيلم أنهم أذكى من الجميع، فلقد قضى الفيلم وقتًا في السخرية من الرؤساء ومن الإعلام ومن البيت الأبيض، لكنه قضى وقتًا أطول في السخرية من فجوة الأجيال وطبيعة الشباب اللا مبالية، فكل ما يهم الشباب هو مواقع التواصل الاجتماعي وصناعة الميمز الهزلية والاشتراك في تحديات خطرة تتجاهل جدية ما تحتويه، لكن تلك النظرة تبدو مريرة قادمة من صانع أفلام لا يحاول فهم الثقافة المعاصرة بل يأخذ بالظاهر مثل جد غاضب من اهتمامات أحفاده، في المشهد الأخير من فيلمه النائب ودون سياق محدد يقرر ماكاي أن يجعل فتاة تبدو مراهقة أو في بداية العشرينيات من عمرها تخبر صديقتها بينما يتشاجر من هم أكبر سنًا حول الليبراليين والمحافظين أنها لا تطيق انتظار مشاهدة فيلم سريع وغاضب Fast and Furious الجديد، يعطينا ذلك لمحة عن مدى انفصال ماكاي عمن ينتقدهم بتلك القسوة، فهو حتى غير مدرك للأفلام التي يمكن أن ينتظرها ذلك الجيل لأنها بالتأكيد ليست سريع وغاضب.
في «لا تنظر للأعلى» يستخدم ماكاي رموز ذلك الجيل ليقوموا هم بالسخرية من أنفسهم، فيعين دورًا لمغنية البوب أريانا جراندي تقوم بنسخة معدلة من نفسها ويصبح الهدف من وجودها هو إثبات أن العامة لا تهتم غير بأخبار علاقات المشاهير، لكن في حقيقة الأمر إذا قضى بضع ساعات على الإنترنت سيجد أن الأجيال التي يسخر منها بسطحية ساذجة ربما تكون أكثر اهتمامًا بالعالم من غيرها حتى بجانب اهتمامها بانفصال تلك المغنية عن شريكها وعودتهما المفاجئة لبعضهما، لكن عندما يصل الفيلم لنهايته يقدم ماكاي شخصية يول (تيموثي شالاميه) شاب آخر من هؤلاء المستحقين للسخرية لكنه لسبب ما يجعله أكثر إنسانية من معظم شخصيات الفيلم، فطيلة ساعتين وربع لا يوجد من يمكن تشجيعه أو التماهي معه، حتى أبطال الفيلم الدكتور راندال وكيت تم رسم شخصياتهما دون اهتمام حقيقي وكأنهما فقط صوت الصانع الغاضب وليسا بشرًا يمكن تصور شعورهما.
في النهاية يجد ماكاي لحظة بسيطة تجعلنا نتعاطف مع ما يحاول قوله لكنها متأخرة جدًا وتغيبها المزيد من المشاهد الساخرة الساذجة رديئة الصنع، لذلك يصعب فهم الجمهور المستهدف من لا تنظر للأعلى، فإذا كان الهدف منه هو صرخة لتوعية غير المبالين فهو بالتأكيد لن يصل إليهم.