يقول الكاتب المسرحي الساخر جورج برنارد شو: «عندما يكون الشيء مثيراً للضحك، فابحث جيداً حتى تصل إلى الحقيقة الكامنة وراءه». تنطبق تلك المقولة على فيلم «بلاش تبوسني»كتابة وإخراج «أحمد عامر»،في أولى تجاربه الروائية الطويلة. فالفيلم يستند إلى الكوميديا كمنهج تعبيري عن رؤية المخرج لتوصيل مضمون فيلمه، لكن تلك الكوميديا وذلك السيل المنهمر من الضحكات مُبطن بسخرية لاذعة بطعم المرارة عن واقع يحمل سمات المأساة بجدارة، فَقَدَ جزءاً كبيراً من تلقائيته وطبيعيته، لصالح مد متزمت خانق للحريات كابت للإبداع.

تامر تيمور (محمد مهران) مخرج يسعى لإخراج فيلمه الأول بالتعاون مع الفنانة «فجر» (ياسمين رئيس) التي تقبل سيناريو العمل في البداية رغم احتوائه على مشهد قبلة تجمعها ببطل الفيلم، فإنها أثناء التصوير ترفض تأدية هذا المشهد، مما يضع الفيلم على جمر من نار خشية عدم إنهائه، لينتقل الفيلم باحثاً عن الأسباب والدوافع وراء ذلك الرفض المفاجئ.


ما بين الروائي والوثائقي

انقسم بناء الفيلم إلى شقين، روائي ووثائقي، توازيا معاً في السرد وتقاطعا لُيشكلا في النهاية الإطار العام للفيلم في مزيج سلس لم يشكل أي عائق في التلقي. فالشق الروائي يقوم على حكاية تامر تيمورالمخرج الذي يقوم بصناعة فيلمه الأول، وتقابله أزمة رفض بطلة الفيلم مشهد القبلة، ليُدخلنا السرد في قلب الصراع منذ الدقائق الأولى للفيلم، لتبدو تلك القبلة التي لن تستغرق سوى ثوان معدوة وكأنها قنبلة موقوتة على وشك الانفجار، في دلالة على الخواء الذي وصل إليه حال صناع السينما والمجتمع بطبيعة الحال.

أما الشق الوثائقي فيعتمد على المشاهد التي يصورها زميل تيمورالذي يُخرج هو الآخر فيلماً وثائقياً عن تجربة صناعة الفيلم الأول لصديقه المخرج، مشاهد متفرقة مع الأبطال من الزاوية الواقعية وليست المتخيلة، كل منهم يسرد ما يجري من وجهة نظره، وبالتالي يتعرض للمشكلة الرئيسية «القبلة»، ليعرض لنا الحدوتة من جانب آخر ورؤى متعددة بشكل جذاب، حتى وإن بدا المظهر العام كشكل من أشكال الريبورتاج، لكن تلك الأجزاء التوثيقية طُعمت في السرد الرئيسي بشكل متناسق مع بناء الفيلم ككل، بحيث لم يشعر المتفرج بأن ذلك الجانب طغى على الآخر، بل على العكس تلاقيا واندمجا بسلاسة.

يقول الكاتب الراحل مصطفى عبد الوهاب:

وبمطابقة تلك الجملة على شخصيات الفيلم التي انتقلت بين الروائي المتخيل والتسجيلي الواقعي، سنجد أن تلك الحوارات التي صورت عبرت عن الشخصيات بجوانبها النفسية وبررت أفعالها، وأضافت بعداً آخر لفهم الشخصيات بكافة جوانبها الحياتية، قد يكون أغفلها الجانب الروائي، لتبدو في النهاية الشخصيات مكتملة الروح من لحم ودم.


الصراع والسخرية المبطنة

الصراع أهم عنصر من عناصر الدراما، عليه تقوم الحكاية لتنطلق من بداية إلى أزمة أو فذروة، وترى الدكتورة منى سعيد الحديديفي كتابها «أسس الفيلم التسجيلي»أنه «في الفيلم التسجيلي تكون عناصر الصراع الدرامي هي في حقيقتها قوى اجتماعية أو سياسية. وليست صراعات بين شخصيات معينة».

ويُمكننا هنا أيضًا مُطابقة تلك الجملة على الفيلم بشقيه الروائي والوثائقي، لنجد أن الصراع يقوم على فكرة قد تبدو شديدة البساطة، فنانة ترفض أداء قبلة في فيلم، لكن مع تدفق السرد نُدرك أن الصراع يحمل بعداً آخر أعمق مُغلفاً بطبقة من السخرية اللاذعة والمقارنة أيضاً، مقارنة بين هذا الزمن الحالي المشوه، زمن تنحسر فيه الطبيعية والبراءة في مقابل تمدد مناخ مُتربص بالفن والتعبير بحرية، وزمن آخر يُمكننا تسميته مجازاً بالأبيض والأسود، قد تبدو الصورة فيه ليست على طبيعتها لاعتمادها على لونين فقط، لكنها أصدق وأكثر حقيقية بكثير.

وقد أضفت مشاهد القبلات المُقتبسة من الأفلام القديمة والأبيض والأسود حيوية علي المقارنة، على عكس ظهور المخرجين «محمد خان»،و«خيري بشارة»بشخصياتهما الحقيقية الذي بدا مفتعلاً ومُثقلاً للسرد بصورة واضحة.


تيمور وفجر

على الجانب الآخر بدت الشخصيات مُعبرة بوضوح عن الحالة العامة التي وصلت إليها صناعة السينما الآن، فقد قُدمت الشخصيات بلمحة كوميدية ساخرة، وكأنها تُخرج لسانها للواقع المأسوف على ماضيه الراقي، أمامنا فنانات لجأن للحجاب كمُخلص ومُطهر من الفن، «الحاجة سوسو» (سوسن بدر)، وفجرالتي لحقت مؤخراً بقطار المعتزلات، ومنتج لا يهمه سوى الربح المادي بعيداً عن تقديم أي قيمة فنية حقيقية «حسن البطاوي» (بطرس غالي)، في مقابل مخرج يُجاهد من أجل فيلمه وتقديمه بالشكل الذي يُرضيه. وبذلك نُسج الخيط الدرامي الرئيسي، مُدعماً بالصراع الذي يتأجج بين الشخصيات، ويتطور تدريجياً وفقاً لمعطيات الدراما.

وبتأملنا الشخصية الرئيسية «فجر»تبدو ضحلة الثقافة لا يعنيها الفن في حد ذاته بقدر الشهرة التي تعني الكثير لها ووالدتهاالتي دعمتها لولوج عالم السينما، وبالنظر إلى أدوارها السابقة التي قدمتها سنجد أنها جرئية إلى حد ما، ففي أحد المشاهد نراها وهي تجلس مع تيمورتناقش معه تفاصيل الشخصية، لا يعينها سوى تفاصيل تافهة مثل لون قميص النوم وغيرها من التفاصيل التي قد تبدو غير مهمة.

لذا بدا الانتقال من هذه المرحلة إلى مرحلة التدين، مُعبراً عن جوهر الشخصية المُذبذب الهوائي، غير المُقتنع بما يقدمه، الفاقد لأصالته، ويحوي سخرية كامنة تكاد تنفجر من شدة طرافتها وإسقطاتها على الوضع الحالي. ليبدو التحول الدرامي للشخصية بعد ارتدائها الحجاب وتقديمها للبرامج كحدث مُحفز يدفع الأحداث للأمام بالإضافة إلى إشارة صريحة للوضع الكاريكاتوري للمجتمع ككل.

في المقابل نجد تيمورالذي يرفض الانسياق وراء تلك الأهواء والرؤى، تبدو شخصيته أصيلة مُفعمة بالطبيعية وحب الفن، يُصارع من أجل إنجاز فيلمه بالشكل الذي يُرضيه. وكأنه وحده يُعافر في واقع يفقد جزءاً من هويته يوماً بعد يوم وفي طريقه للانحدار سريعاً.


كلمة أخيرة

في الفيلم التسجيلي تنبع الدراما فيه من خلال تأثير الصورة والتقاط وإظهار التناقض في المواقف بين ما نقوله ونصرح به وبين ما نمارسه ونعيشه بالفعل، وعندما نستمع إلى الحوارات الحقيقية الدائرة بين شخصياته نتعرف على ملامحهم النفسية.

مونتاج «عماد ماهر»بقطعاته السلسة بين الجزءين الروائي والتوثيقي بدت موفقة للغاية، يكاد لا يشعر المتفرج بها، كل منهما يُكمل الآخر في نسق متتابع مُشكلاً شكلاً سردياً جذاباً وشديد الخصوصية.

أداء ياسمين رئيسجيد ويحوي خفة دم تلقائية، عبرت عن الشخصية وما يعتمل في نفسها من أهواء بسهولة وتمكن، كما أن أداء الفنان شريف الخياطصاحب الجملة الساخرة «شبشب الشخصية»لطيف وطبيعي للغاية، والأداء التمثيلي عموماً جيد ومتسق مع السيناريو والإخراج الذي بدا مُحكماً ومتماسكاً.

المزج بين الروائي والتسجيلي في السينما المصرية نادراً إلى حد ما، ولعل من أبرز التجارب في السنوات الأخيرة فيلم «عين شمس»للمخرج «إبراهيم البطوط»، وإن كانت التجربة هنا أكثر نضجاً بدلالتها وجرأتها وتوقيتها أيضاً.

فيلم «بلاش تبوسني»قد يبدو فيلماً كوميدياً خفيفاً، لكنه بشكله الجديد ومضمونه المهم قد يُعد علامة يمكن الوقوف أمامها في وقت تمر فيه صناعة السينما بأزمات عاصفة، لتبدو التجربة صرخة ساخرة ضد ما يسمى بمصطلح السينما النظيفة، ذلك التعبير المبهم الفضفاض الذي نشأ فجأة في أواخر التسعينات، وكأن كل ما سبق من تاريخ السينما غير نظيف أو يحوي دنساً ما يجب التطهر منه.