دونالد ترامب والذين معه: نهاية تحالف متطرف
ترامب، ابن سلمان، نتنياهو وابن زايد؛ الحلف القوي الذي امتدت صولاته وجولاته وصفقاته ومؤامراته من موسكو إلى واشنطن وعصفت باليمن وليبيا وسوريا وأدت دورًا كبيرًا في مصر وأقل منه تونس والعراق. هذا الحلف الذي بدأ تشكله منذ زمن أبعد قليلاً مما نظن، ربما، بالماس بين أبو ظبي وتل أبيب، ويختتم مشاهده بالنفط بين الرياض وواشنطن.
كانت الأمور شبه طبيعية في الشرق الأوسط قبيل تشكل هذا الحلف، مصالح مشتركة، علاقات رسمية مقطوعة وعلاقات اقتصادية وسياسية وأمنية خلف ستار، وكان الحضور القوي لمصر والحضور الأقوى لمحورية القضية الفلسطينية عائقًا، ربما، لهذا التحول الكبير الذي أوصل الأمور للدفاع المستميت من تل أبيب عن والي الرياض.
في عام 2013، حضر رئيس دولة الاحتلال السابق شيمون بيريز،المؤتمر الأمني الخاص بدول الخليج في الإمارات، عبر تقنية الفيديو كونفرنس من مكتبه في القدس المحتلة وخلفه علم دولة الاحتلال، وصفق له الحضور الذي كان من بينهم 29 وزيرًا من الدول العربية والإسلامية، ذلك الاجتماع السري – وقتها – كشف كثيرًا عن العلاقات بين دولة الاحتلال من جهة، ومن الجهة الأخرى الأنظمة العربية بشكل عام، والخليج بشكل خاص، وأبو ظبي تحديدًا. فالجهة الأخيرة، الخليج، تتسابق فيما بينها على الرضا الأمريكي عبر البوابة الإسرائيلية المضمونة والمتلهفة لهم، بينما كانت أبو ظبي قد خطت خطوات واسعة في ذلك.
إلا أن تلك العلاقات اتخذت شكلاً أكثر حميمية مع وصول الملك سلمان بن عبد العزيز إلى كرسي الحكم في المملكة، حيث تولى الأمور ابنه الأكبر، الشاب الطموح البراجماتي لأبعد مدى، محمد، الذي بدا من أول وهلة أنه على استعداد تام لتقديم أي شيء في سبيل الوصول إلى طموحه الذي قد لا يقف عند وراثة عرش والده، وهو ما وجد فيه ابن زايد، ولي عهد الإمارات ورجلها الأقوى، فرصة لا تعوض لاستثمارها في دعم نفوذه وتوطيد علاقاته وروابط التحالف بين الخليج وتل أبيب.
بدأ الأمير السعودي الجديد رحلته إلى النفوذ بأسرع من الخيال. فبعد شهرين اثنين من تولي أبيه الحكم، قام بتشكيل تحالفه العسكري الكبير بدفع ودعم وتحريض من حليفه، ابن زايد، ذاهبًا به إلى جاره الجنوبي، اليمن، لتقديم نفسه للمجتمع السعودي بوصفه الرجل القوي الذي سيخوض غمار المواجهة مع العدو الإيراني الداعم للطرف الآخر في اليمن المتمثل في حركة أنصار الله، المعروفة بالحوثيين.
ولم تكد تبدأ تلك المغامرة الخارجية، حتى بدأ تقدمه الموازي داخليًا بالإطاحة بولي العهد، الأمير مقرن بن عبد العزيز، لصالح الأمير القوي –وقتها – محمد بن نايف. أما هو، فقد تولى منصب ولي ولي العهد الذي سيخلو من بعده عقب إطاحته بابن نايف واحتلال مقعده، وذلك بعد وصول الحليف الأقوى لكرسي الحكم في البيت الأبيض.
لكن هنالك طريقًا آخر تحتم عليه أن يسيره، وهو المجتمع الغربي، وبالأخص واشنطن؛ الحليف التاريخي الأكبر للمملكة. عبر ديكور ليبرالي مزيف، أوهم ابن سلمان المجتمع الغربي بأن الرجل الذي جاء ليصلح مملكته الرجعية، ويدخل مجتمعها عصر المسرح والسينما والحقوق المدنية للنساء. أما واشنطن، فلم يكن هنالك بوابة أسهل إليها من دولة الاحتلال الإسرائيلي التي ظن ابن سلمان أن ثمنها مقدور عليه، وهو قضية فلسطين برمتها وتقديمها قربانًا للصهاينة؛ وهو ما وجد، بالطبع، ترحيبًا وتلهفًا إليه من قبل نتنياهو، رئيس حكومتها.
خطا ابن سلمان خطوات شاسعة وسريعة في ذلك الطريق، عبر لقاءات لأشخاص مقربين منه مع مسؤولين إسرائيليين، وزيارات سرية وعلاقات اقتصادية وتعاون أمني، وتصريحات مذهلة كاعترافه بحق اليهود في أرض فلسطين، والضغط على السلطة الفلسطينية للتنازل عن القضية برمتها للصهاينة؛ وهي الخطوات التي أمست رأس حربة للتطبيع العلني المباشر الذي بدا أن أبو ظبي وغيرها من إمارات الخليج قد تبعته فيه، مثل زيارة نتنياهو لسلطنة عمان، والوفود الإسرائيلية السياسية والرياضية لأبو ظبي وقطر.
مع وصول دونالد ترامب إلى سدة الحكم في واشنطن، بدا أن الحلف قد اكتمل، ابن زايد وابن سلمان ونتنياهو وترامب؛ تحالف يمتلك المال والنفوذ والطموح للسيطرة على الشرق الأوسط وإعادة توزيع مناطق النفوذ فيه من جديد. بدأ ذلك بمحاولة عقاب خصم أبو ظبي، والعضو المتمرد خليجيًا على الطموح والرؤية الإماراتية-السعودية. إنها قطر؛ الإمارة صغيرة الحجم كبيرة الطموح، وذات النفوذ والثروة الكبيرة.
جاء التحرك سريعًا بحصار قطر دبلوماسيًا وجغرافيًا، والتخطيط لاجتياحها عسكريًا للقضاء على المنافسة على الطموح والنفوذ، وسحق الدعم الأكبر للإسلام السياسي؛ عدو أبو ظبي اللدود، وإنهاء التمرد الإعلامي الذي تقوده قناة الجزيرة. ثم تصاعدت الأعمال العسكرية في اليمن، وبرز التوغل الإماراتي في القرن الأفريقي وغيرها. لكن الرياح أتت بما لا تشتهي سفن ابن زايد، ليبدأ الانهيار أسرع مما توقع الجميع.
بداية النهاية
من البداية، بدا أن موقف المؤسسات الأمريكية تجاه حصار قطر مغاير لموقف ترامب ورافض رفضًا قطعيًا لمسألة التدخل العسكري في الإمارة التي تضم أكبر قاعدة عسكرية أمريكية في المنطقة، وتضم مقر القيادة المركزية الأمريكية في الشرق الأوسط، والقيادة المركزية للقوات الجوية الأمريكية، وغيرها من محاور الارتكاز العسكري الأمريكي في أكثر مناطق العالم التهابًا وأهمية لواشنطن. لكن ذلك الخلاف بين الرئيس ومؤسسات دولته لم يكن هو البداية، فطريقة مجيئه إلى هذا المكان كانت مثار شك وقلق منذ البداية، وهو الأمر الذي سيشكل أيضًا بداية النهاية لذلك التحالف.
ففي وقت قاتل، جاءت جريمة اغتيال الصحفي السعودي جمال خاشقجي داخل قنصلية بلاده في إسطنبول، لتحدث رجة في العالم أجمع، ربما لن تهدأ قبل اقتلاع ابن سلمان من منصبه والقضاء على طموحه بتولي العرش السعودي، وربما أبعد من ذلك.
لم تُحدث أصوات عشرات الآلاف من ضحايا اليمن ضجيجًا كالذي أحدثه صراخ خاشجقي داخل غرفة القنصل السعودي، ربما لأن هؤلاء الضحايا لم يكن بينهم كاتب بصحيفة الواشنطن بوست أكبر مؤسسات العالم الصحفية، أو أن عملية الاغتيال لم تكن بمشاركة طائرات أمريكية كالتي تقصف الأطفال في اليمن. لذا فقد أتى قرار مجلس الشيوخ بإنهاء الدعم العسكري الأمريكي للمذبحة الدائرة في اليمن بأغلبية 56 صوتًا، بينما جاء قرار تحميل ولي العهد السعودي مسؤولية قتل خاشقجي بالإجماع.
كل تلك العواصف التي تضرب عرش الأمير تواجه بدفاع كبير من حليفيه ترامب ونتنياهو، لكنهما ليسا أفضل حالاً منه اليوم. فمنذ اعتلاء ترامب كرسي الرئاسة، بدأت المؤسسات الأمريكية في التحقيق حول التدخل الروسي في الانتخابات الرئاسية لصالح ترامب، وهي التحقيقات التي شهدت تقدمًا مذهلاً تكلّل بالحكم مؤخرًا على محامي ترامب الشخصي، مايكل كوهين، بالسجن ثلاث سنوات بتهم تتعلق بالحملة الانتخابية لترامب، بينما ينتظر مدير الحملة ومستشار الأمن القومي السابق الحكم عليهما، بالإضافة لعدد كبير من المحيطين بترامب.
أصبح ترامب نفسه بشكل مباشر مستهدفًا بالتحقيقات، وأصبح قيد الانتظار ومعه أنظار العالم في تلك المسألة الكبيرة التي ربما ترقى إلى تهمة الخيانة العظمى؛ ذلك إلى جانب ملفات لا يدخر المحقق الخاص في القضية روبرت مولر جهدًا في كشفها يوميًا.
نتنياهو كذلك يخضع لتحقيقات الشرطة في جرائم فساد هو وزوجته، كان آخر نتائجها توصية الشرطة بمحاكمتهما بتهم الفساد والرشوة، بالإضافة إلى التصدع الكبير في تحالفه الحكومي بعد استقالة أفيغادور ليبرمان، وزيره للحرب، عقب وقف القتال مع فصائل المقاومة في غزة الذي اعتبره ليبرمان هزيمة عسكرية.
أما ابن زايد، فرغم الهدوء الذي بدا به مع اشتداد تلك العواصف، إلا أنه لم يكن بمنأى عنها. فقد أشارت التحقيقات الأمريكية في التدخل الروسي إلى دور أبو ظبي والرياض وتل أبيب في تلك الجريمة، بالإضافة إلى تسليط الضوء على جرائم الحرب و الاغتيالات والسجون السرية وغيرها من الجرائم التي ارتكبتها أبو ظبي في اليمن.
نتائج تصدع ذلك الحلف سرعان ما ستظهر في المنطقة؛ فقد أصبح أمير الرياض في أضعف موقف يمر به مسؤول سعودي منذ تأسيس المملكة، وأصبح طموحه بالجلوس على العرش ضربًا من الخيال، فضلاً عن أن استمراره في موقعه بات مسألة وقت. كل ذلك أثّر سريعًا على الأوضاع في اليمن ببدء محادثات التهدئة في السويد والتوصل السريع لبعض التفاهمات المبدئية، كذلك تغيرت اللهجة تجاه قطر. لكن كثيرًا على نطاق المنطقة بأكملها سيتأثر أيضًا؛ حيث ربما يتغير المشهد في كل من الأراضي الفلسطينية، وكذلك في مصر وليبيا.
ربما تأخذ الأمور بعض الوقت لرؤية مشهد جديد ومختلف كليًا في الشرق الأوسط عن ذلك الذي نراه اليوم وخلال السنوات الماضية، خاصة وأن عزل رئيس الولايات المتحدة وتغيير نظام الحكم في السعودية ليس بالأمر الهين، إلا أن ما يمكن الجزم به هو أن القادم مختلف تمامًا عن الماضي، وأن هذا الحلف القوي أصبح تاريخًا أكثر منه واقعًا.