مكابدة الحقيقة: هل للواقع قيمة في منطق المصالح البشرية؟
في جلسة المحاكمة الأخيرة، يُستدعى الكولونيل «ناثان جيسوب» للإدلاء بشهادته، كونه من أصدر أمراً بقتل أحدهم في المعسكر، ويحاول المحامي الشاب «دانييل كافي» استنطاقه ليقول الحقيقة. وبعد ضغط كبير، يضطر كافي إلى إعلاء صوته في القاعة مُطالباً جيسوب بقول الحقيقة، فيرد جيسوب بصوت أعلى: «أنت لا تستطيع تحمُّل الحقيقة».
يدل هذا المشهد على موقع الحقيقة في النظام الأخلاقي لدى مؤسسة الكولونيل جيسوب، فالواجب الأخلاقي الذي حوكم عليه كان عنده خيراً، وخيريته مطلقة وثابتة، لكن مؤسسته قررت فجأة أن تحاكمه، وهو ما جعل جيسوب يستغرب أشد الاستغراب.
المؤسسة، بحسب الفيلم، ترتكب على الدوام تلك التصفيات الدموية خلف الستار، لكن حتى تحافظ على سمعتها أمام الرأي العام، فيجب هنا أن تدين ما فعله جيسوب، باعتباره أتى بأمر شاذ وغير إنساني، وهنا نلاحظ كيف أن الحقيقة فجَّة ومتأرجحة بين المثل العليا التي يؤمن بها الرأي العام، ووحشية جيسوب التي لم يتحملها دانييل كافي، فالأولى حقيقة، والثانية حقيقة كذلك.
الضربة التي نهشت جسد الحقيقة
لو أوجزنا الحديث عن قيمة الحقيقة في تاريخ الفكر الإنساني فسنرى أنها مرَّت، وما زالت، في مخاض عسير، تلك الحقيقة التي حوكم سقراط بسببها، وقال إنه لا يستطيع أن يتنازل عنها فأُعدم [1]، هي نفسها الحقيقة التي سُجن من أجلها أفلاطون في صقلية فعرف قدرها وأسس أكاديميته المشهورة لاحقاً، وحديثاً هايدغر، الذي أصر على أن العلاقة المشدودة بين الإنسان والحقيقة هي ما تمده بمفاتيح التحرر من قيود فلسفات الذاتية التي حكمت الإنسان في عصور الحداثة، ولمدة تزيد عن 250 عاماً.
من هنا يمكن أن نستشعر الدافع الذي يبعث في الإنسان طاقة الاستماتة، طويلة الأمد، من أجل إعلاء الحقيقة على حساب أي شيء آخر، لأنها حجر الزاوية في مبنى الفكر الإنساني، وإزالتها من خارطة الاستدلال يعني إزالة المشروع الفلسفي برمته، وحتى من كفر بها وقال بالمثالية المطلقة، فإنه يثبت أمراً ما، ولا يستطيع أن يزعزع مقام الثبوت من جوهر اعتقاده.
وقد كان لمنعطف السيولة -على حد تعبير زيغمونت باومان- أحد الدوافع الرئيسية الذي أودى إلى نتائج فلسفية واجتماعية كارثية، فقد جاء هذا المنعطف ثمرةً لما يمكن أن نسميه بحالة اليقين المُقلِق، وهو تناقض بنيوي غريب تشكَّل شيئاً فشيئاً في جسد الفكر الغربي، فكان سبباً من أسباب ما يُعرف بالسيولة وحالة اللاثبات في المعرفة الإنسانية.
اليقين المُقلِق: الإفراز الحداثي الذي أزاح المطلقات
وضعت الحداثة العالم بين مسارين متضادين يتساويان في الأهمية بالنسبة للفرد، بل تلزمه بالسير عليهما، ألا وهما الحاجة إلى الصدق والشك في حقيقة الواقع في آن واحد، فأصبح الإنسان في مفارقة مُقلِقة لا تمكِّنه من العيش في سلام وجودي مع نفسه، فالحقيقة مثلما هي غاية الحداثة فإن الشك المستمر فيها أحد أسسها المركزية، ولذلك فإن الإنسان الحداثي خالٍ من الصلابة، ومُقدَّر عليه أن يكون فريسة سهلة للشعور بالعذاب الداخلي والريبة والحيرة واليأس، الأمر الذي يفسر تكرر عبارة «لا أحد بوسعه امتلاك الحقيقة» في كتب الحداثة.
ويعني ذلك أننا سنظل في مرحلة زمنية مزعجة من اللايقين، واللاثبات، واللامطلق، وستستمر الحركة المعرفية للإنسان في دائرة واحدة، يقف فيها أولاً عند مشاهدة الظواهر التي أمامه، ثم التشكيك فيها، ثم الوصول إلى حقيقة، فالتشكيك فيها وعدم الثقة بها، وهكذا باستمرار.
الإنسان الحديث: بأي منطق تشتغل منهجيته المعرفية؟
لا يمكن فهم آلية المعرفة لدى الإنسان الحديث دون معرفة الآلية التي يعمل بها العلم الطبيعي، فهو لا يعمل إلا بمسلمة وجود مشكلة في الواقع واضطراب ما، مهما بدا ذلك الواقع مُستقراً، ووجود المشكلة تعني أن هنالك تناقضاً ما في ذلك الواقع، حتى لو أوصل الإنسان نفسه سلفاً إلى حل مشكلته، لكنه سيظل غير متسق ومعرَّض في أي سياق لأن تتبدل حقيقته.
هذا كله يعني أن الإنسان الحديث لو أراد أن يؤمن بحقيقة ما، فسيظل عالقاً في هذه الإشكالية، وعليه فلا بد أن يلتفت إلى عدد المظاهر الأخرى التي تحيط به وتزاحم وجوده للاكتفاء بها، بعيداً عن صراع الحقيقة وأي نداء تبعثه وتهجس داخله. وفي الوقت الذي تتعدد فيه الأسباب التي تقود الإنسان لمسار الفردانية والانقطاع عن مدد السماء، فإن تعلقه بمستنقع الدنيا جعله تحت رحمة منظومة مصلحية مهيمنة، فتجعله في دور وظيفي استهلاكي أناني لسد احتياجه، دون اكتراث بالواقع.
ويتجلى ذلك في فرض الإنسان الحديث لمجموعة من الحقائق المصلحية، مثل إضفاء دلالات على ألفاظ معينة قابلة للتغير زمنياً لخدمة مصالحه الشخصية، لأن العملية الإدراكية كلها أصبحت استهلاكية إشباعية، فالإنسانية مثلاً تعني اليوم شيئاً قد لا تعنيه بعد عشرة أعوام وفقاً لدلالتها المصلحية التي وُظفت لغاية ما، وستبقى هذه الدلالة مقترنة بها ما دامت العلاقة النفعية قائمة، وهذا يعني أن مصحح أي دلالة لدى الإنسان الحديث هو المصلحة، في الوقت الذي تقول لنا الرؤية الإسلامية بكل وضوح؛ إن الحقيقة واحدة، وفي جميع الظروف السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية، ولا علاقة لها بمنفعة إنسان أو ضرره، فمن آمن بها أصاب ومن كفر بها فقد أخطأ، ومن المستحيل أن يكون الإيمان والكفر على حد سواء في الكشف عن الواقع.
قيمة الواقع لدى الحداثة: تحقير وتسخيف
والكلام السابق لا يعتمد على استنطاق نص حداثي، بل جاء بصريح عبارة «ويليام جيمس» [2]، عرَّاب البراغماتية الأول في العصر الحديث، الذي يرى أنه «لما كانت الحجج تتعادل قوة، فنحن نحكم بأنه لا فرق بين النظريتين، وما علينا إلا أن نبحث فيما هو الأفضل لنا من حيث النتائج». [3]
والحقيقة الموضوعية كما يؤكد «ويليام جيمس» لا وجود لها ولا يمكن العثور عليها، ويرى أن كل الحقائق تسمى كذلك لأسباب إنسانية، أي لأنها كانت تشبع رغباتنا، في حين أن الحق يجب أن يعني ما هو مفيد لنا ولحياتنا. ليس هذا فحسب، بل يصر جيمس على ذلك بقوله: «لو كانت الأفكار الخطأ هي المفيدة للزم أن نتجنب ما ندعوه حقاً وألا نسعى في طلبه»، وعليه فهو لا يمانع أن تتغير هذه الحقيقة، فيقول: «الحق يمكن أن يتغير، بل يتغير كلما تغيرت حاجاتنا ورغباتنا، وليس لنا أبداً أن نقيس الحق بأي مقياس آخر غير مقياس المنفعة في الحياة العملية». [4]
والضرر الأخلاقي الناشئ عن إضفاء الصبغة الشرعية على هذا التوجه الفكري يؤدي إلى فظائع لا تغتفر، فإن صيرورة الحياة تفرض تغير المصالح الدنيوية بين عام وآخر، وهذا حال بعض البشر والمنظمات الكبرى، التي تضع أمامها عدداً من الأهداف والمصالح الجديدة بعد نهاية كل فترة زمانية، وأحياناً تفرض عليها كوارث الحياة الالتزام ببعض الاستراتيجيات للوصول إلى استقرارها.
وطالما أن المنفعة على قمة الهرم على حساب الواقع، فإن هذا يؤدي بكل وضوح إلى النسبية وانتفاء الثبوت في اتصاف الأفعال بالخير أو الشر، مهما بلغ قبح الفعل وهوله، ومهما بلغت آثاره على البشرية، فيصير الكذب مثلاً مُشرَّعاً في عام ومذموماً في آخر، ويصبح الاتجار بالبشر مُشرَّعاً في عام ومذموماً في آخر، وكل ذلك بحسب ما تقتضيه المصلحة البشرية، وهذا يعني انتفاء مفهوم الحقيقة عن ذات الفعل، فتنقلب مفاهيم الأفعال بحسب المنافع التي تؤطر المجتمع وتحكمه، وتنقلب هوية الشيء لآخر.
وبسبب تقدم المنفعة البشرية خط الاعتبارات والضرورات، فإن الإنسان الحديث يلزمه على هذا النحو أن يكون معتقداً بأن القتل العمد وعدمه صواباً على السواء، والقتل هنا بمعنى سلب الحياة بنيَّة ارتكاب الفعل، فلو حقق هذا القتل المنفعة للإنسان الذي يعيش في شرق العالم، فمن المفترض ألا يختلف عن عدم القتل الذي يحقق المنفعة للإنسان الذي يعيش في غرب العالم، لأن حمل القتل هنا لم يكن على معناه الذي نتفق عليه جميعاً، بل على مآلاته، فلو حقق ذلك المنفعة والارتياح وجلب السلام لشرق العالم فهو شرعي مهما بلغت بشاعته وقسوته على النفس البشرية.
فالداعي مثلاً للإنسانية وحقوق الإنسان ومبادئ التنوير، أي ذلك الناقد لهتلر على سبيل الافتراض، من الوارد أن يسلك مسلكه ويشرعن ما يفعل، باعتبار أن ما فعله الألماني غير شرعي، بينما فعله هو في أتم أشكال الشرعية. هذه الازدواجية في اختراع الحقيقة واصطناع الواقع، لأن يكون ظرفياً ومرحلياً وسياقياً ثم رميه في القمامة، لا دليل أظهر منه على حقارة التعاطي مع الواقع، الذي هو معدوم القيمة لدى الإنسان الوظيفي الحديث.
- في محاورات أفلاطون، يقول سقراط إنه أُمر بإبلاغ الحقيقة للناس، وقد جاءه هذا الأمر من عالم الغيب، ولن يتراجع عن قول الحقيقة مهما جرى، وعدم إيصال الحقيقة للناس ذنب سيتحمله هو وحده، لا غيره. ويختلف الباحثون التاريخيون في مجال الفلسفة في تفسير ذلك القول، ومن الآراء الشائعة من يرى أن العبارة رمزية ومقصود سقراط هو أن عالم الغيب مصحح حقائق الوجود، والرأي الآخر يقول إن سقراط ادعى النبوة بقوله.
- ويليام جيمس (1843-1976م) عالم نفسي وبراغماتي، كتب بعض الكتب المؤثرة في علم النفس الحديث وعلم النفس التربوي، وعلم النفس الديني، والفلسفة البراغماتية، ويرى أن الاعتقاد بالحقيقة يعتمد على مبدأ الفائدة، فما نفع هذا الإنسان سيكون هو «الحق»، ويطبق جيمس هذا المذهب في مجال العلم الطبيعي، والتجربة النفسية، والتجربة الدينية، فالحق هو ما يطابق المنفعة. موسوعة الفلسفة، عبدالرحمن بدوي، ج1 ص447، المؤسسة العربية للدراسات والنشر (الطبعة الأولى).
- مدخل جديد إلى الفلسفة، عبدالرحمن بدوي، ص143، وكالة المطبوعات الكويتية (الطبعة الأولى).
- المرجع السابق، ص416.