هل يفضل جوارديولا أجواء العمل في مانشستر أم في برشلونة؟

الجيل الحالي من متابعي كرة القدم، وحتى ذوي الأعمار الكبيرة منهم، يضعون فترة «بيب-برشلونة»، والتي بدأت من منتصف العقد الأول من الألفية الجديدة، كأحد أفضل الفترات الكروية لمدير فني رفقة إحدى الفرق. أداء ممتاز، بطولات كبيرة وأرقام قياسية وإضافات تاريخية على كل صعيد. لذا كانت محاولة تكرار تلك التجربة أشبه بالمستحيل حتى الآن، حتى لاح في الأفق بصيص من أمل في التجربة الحديثة: «بيب-مانشستر سيتي».

بدأت رحلة المخضرم الإسباني داخل المملكة بمنتصف عام 2016، والمتوقع ألا تنتهي هذه الرحلة قبل حلول عام 2021، وفقًا للعقد المُبرم أخيرًا. وبعدما توّج بلقب الـ«بريميرليج» الأغلى في موسم 2017-2018 وبأداء جذب العالم كله لمتابعة الجانب الأزرق من مدينة مانشستر. دُفع البعض للتفكير في إذا ما كانت تلك هي السنين الأولى لتجربة كبيرة كالتي رأينها داخل مقاطعة كتالونيا. المؤكد أن أغلبية الأمر يقع على عاتق بيب شخصيًا، لكن هناك جانبًا لا يمكن إهماله يكمن في مدى ارتياحه داخل النادي، داخل المدينة وبين الجماهير.

ذات مرة وجه أحد المراسلين سؤالًا لـ«دومينيك تورنت»، رفيق رحلة بيب طوال سنوات ومدربه المساعد، عن إذا ما كان وجد الإسباني نفس مشكلات مواطنه «دي خيا» في العيش داخل مدينة مانشستر المعروف عنها أنها صناعية. المفاجأة أن إجابة تورنت كانت ساخرة جدًا، فبعد ضحكة قصيرة، أكد أن «جوارديولا» يُحب العيش في مانشستر، وتلك هي المفاجأة بالنسبة له شخصيًا.

اقرأ أيضًا:زوجات النجوم: الخطر الذي يهدد عرش وكلاء اللاعبين

ضريبة كونك أسطورة

بعد فترة ذهبية جدًا في برشلونة قرر بيب الرحيل عن أسوار النادي بعد أن خسر نظير هناك لمدة 4 سنوات الشعر والوزن وحتى التقاليد والارتباطات الاجتماعية. لكن الخسارة الأكبر كانت الهدوء وقلة الضغوط من العامة والمحيطين. وبعد أن نجح الإسباني في فك ارتباطه المهني بفريق طفولته، تحرك نحو ولاية «نيويورك»، بالطبع السبب واضح: وهو ابتعاد السكان هناك عن كرة القدم بشكل شبه كامل، بالتالي كانت فرصة سانحة ليعيش سنة كاملة دون ضغط الشهرة القاتل في إقليم كتالونيا.عاش بيب في إحدى الوحدات السكنية النفيسة جدًا هناك، كان ثمنها في ذلك الحين يُقدر بـ 31 ألف دولار أمريكي. كانت تطل تلك الشقة على حديقة «سنترال بارك» وعاش بالقرب من تلك المنطقة العديد من الشخصيات المشهورة من أمريكا أو حتى من خارجها. كانت منطقة سكنية بالكامل وبعيدة عن صخب قلب مدينة «مانهاتن» بأميال قليلة، مليئة بالسكان لدرجة أنهم من النادر ان يتعرف أحدهم على الآخر، حتى حارس العقار الذي سكن به جوارديولا نفسه كان لا يعرف ماهيته، وكان يظن أن اسمه هو: السيد «جاردومي»، الذي لا يفضل استقبال أي زائر لم يتوقع مقابلته قبل وصوله.

تلك الفترة من الاستقرار العائلي والنفسي التي عاشها بيب داخل الولايات المتحدة بعيدًا عن صخب الشهرة كانت مؤثرة جدًا عليه، خاصة بعد صعوبة الحياة التي عاشها في برشلونة، حيث كان لا يمكن له الذهاب إلى السينمات أو المطاعم في هدوء دون ازدحام المحبين من حوله. يعود ذلك طبعًا لكونه أسطورة حية في موطنه، ولا يمكن التعامل معه كأنه فرد عادي من ضمن العامة.المؤكد أن تلك الفترة هناك قد ساعدته على تجديد نشاطه، لكن الصادم كان أنه عاد لنفس الحياة سريعًا في ميونخ، ولأنها مدينة تضج بكرة القدم وبجماهير كبيرها بايرن، لكن لذات السبب تعاظمت قيمة مدينة مانشستر بالنسبة للمدرب الحالي لـ«سيتيزنس».

جوارديولا متحدثًا عن فترته في كتالونيا بقرب انتهائها عام 2012.

في الحوار الأخير الذي أجراه «دومينيك تورنت»، المدرب المساعد للإسباني ورفيق رحلته، والذي تحدث فيه عن شئون كثيرة تخص حياتهما المهنية معًا،أكد أنهما قد تم تحذيرهما من الذهاب إلى مانشستر كثيرًا، للأسباب المعروفة لدى الأغلبية أنها مدينة صناعية وليست بتحضر ميونخ أو نيويورك أو حتى برشلونة، لكن المفاجأة أن بيب وجد في تلك المدينة ضالته.

الصورة كانت واضحة لطريقة المعيشة هناك، بالرغم من تشبيه صديقة «دي خيا» لهذه المدينة بأنها تُشبه ظهر الثلاجة، لكن تلك المنطقة كانت مفيدة جدًا لكل من جوارديولا وصديقه «تورنت» وفريق عملهما. أخيرًا تمكنوا من الذهاب حيثما شاءوا بدون مضايقات من الجماهير، لأن الجماهير في تلك المدينة أقصى ما تطلبه هو صورة تذكارية معه في حالة كان لديه وقت فقط! تلك الحالة كانت شبه مستحيلة في مدينتهم الأولى. بما يعني أن بيب وجد هناك جزءًا من الاستقرار الذي ساعده على تجديد طاقته في أمريكا.

غذاء الروح ورفيق العمل

بنى بيب تفاصيل فريق عمله بكل دقة، يمكنك أن ترى التناغم فيما بينهم في كل تفصيلة عمل داخل أي منشأة وجدوا فيها. في ميونخ حينما طرأت مشكلة ما بين المدرب الإسباني وأحد أفراد العمل هناك، الطبيب الألماني «هانس فوليهم مولر فولفارت»، حاول الجميع الانتظار من أجل تصيّد أية مشكلة يقع فيها الفريق من أجل لوم جوارديولا عليها، لكن الحقيقة أنه، وكما أكد في المؤتمر الصحفي الأول عقب رحيل الطبيب الذي عمل في النادي منذ عام 1977، أن الفريق لن يتأثر والجهاز الفني لن يتأثر وسيجري كل شيء على ما يرام، وقد كان.

اللوم الذي أوقعه بيب على الطبيب وتحميله خسارة أحد المباريات ربما نُفِيَ فيما بعد. لكن ذلك لم يغير في حقيقة الأمر شيئًا، حيث كان ذلك الطبيب، وبالرغم من سعة شهرته ومن قدراته المهنية، لم يكن متجاوبًا مع المدرب بالشكل الكافي. هناك كيمياء خاصة يصنعها «جوسيب» في طاقمه دائمًا وعلى الجميع التعايش معها، عل أبرزها،كما ذكر «دومينيك»، هي الموسيقى.

المدرب الإسباني الذي يتولى حاليًا القيادة الفنية لفريق «نيويورك سيتي»، قد عمل مع مواطنه لمدة 11 عامًا، منذ أن كانا في الأكاديمية الخاصة بنادي برشلونة وطورا طرق العمل هناك، حتى وصلا إلى مدينة مانشستر التي يدعي الأكثرية أنها صناعية إلى أقصى درجة.

خلال تلك الفترة من العمل تشاركا غرف العمل لساعات مطولة بلا كلل، كما يقولون عنه، بيب لا يمكن إلهاؤه عن كرة القدم أكثر من 32 دقيقة فقط، يعود للحديث ذاته من جديد، حسبما ذكر مساعده «مانيل استيارتي» في الكتاب الذي صدر عن رحلة المدرب الإسباني داخل الأراضي الألمانية. خلال الحديث عن الكرة يفضل بيب دائمًا سماع الموسيقى، تحديدًا موسيقى الــ«جاز-Jazz».

يفضل دومينيك وجوسيب نفس النوع من الموسيقى تقريبًا، وبالتالي تعمل دائمًا في خلفية الغرفة التي يتشاركانها من أجل العمل على دراسة خصم اللقاء القادم أو استكشاف أخطاء الفريق فيما مضى من مباريات. يوضح هذا السر الذي كشفه «تورنت» مؤخرًا الطبيعة الموسيقية للأسطورة التدريبية.

تلك الصورة ليست غريبة على المدربين إجمالًا، فسبق أن تحدث الكثيرون عن تفضيل «يورجن كلوب» لموسيقى الـ«هيفي ميتال-Heavy Metal» كمثال شهير واضح. وفي الغالب ما تُعبر نوعية الموسيقى المفضلة عن الطريقة التي يفضلها هؤلاء المدربون في لعب كرة القدم، ومن جهة بيب فهو يرتاح إلى الموسيقى الهادئة التي تريح الأعصاب أكثر من التي تسحب الأذن بعنف سماعي.

وبعد التحذيرات التي تلقاها كلاهما وكل فريق العمل حول الذهاب إلى مانشستر، كلاهما تفاجأ بالطبيعية الموسيقية التي تحتفظ بها مدينة مانشستر. أحد الأشياء التي جذبت الإسباني وفريق عمله نحو تلك المدينة هي طبيعتها الموسيقية، هناك دائمًا حفلات تقام بشكل يومي في كل شارع هناك. عربات تعزف الموسيقى بأنواعها المختلفة.

حب بيب للموسيقى لم يكن فرديًا إطلاقًا، فحسب كلام مساعده الصدوق أن فريق عملهم في مانشستر يمكنه بسهولة تكوين فريق غنائي سيكون المطرب فيه «ميكيل أرتيتا»، وسيتكفل البقية بعزف البيانو والجيتار والدرامز. تلك الحالة الموسيقية التي تستحوذ على المدينة ويتجاوب معها فريق العمل، مريحة جدًا لقائد الدفة الفنية للجانب الأزرق من المدينة، وتساعده في قضاء وقته بشكل أمثل.

يمكن القول بأن المساعدين الحاليين للإسباني في مان سيتي هم الفريق الذي لطالما حلم بتكوينه طوال هذه المدة من العمل في الأندية المختلفة.

صراع الطعام الإسباني والإنجليزي

أصدرت صحيفة «ديلي ميل-Daily mail» الإنجليزية تقريرًا مُطولًا عن الإنجاز الذي حققه جوارديولا في مانشستر سيتي خلال موسمين من العمل، العنوان تم اقتباسه وتحويله لعدة لغات في صحف مختلفة حول العالم، حيث كان يدور في أفق السر وراء نجاح بيب داخل أروقة ملعب الاتحاد.

المفاجئ كان ذكر الصحيفة لأشياء بعيدة جدًا عن العمل التكتيكي والخططي، فقط كان فيما يخص الروح الجديدة التي أضافها داخل طاقم العمال بالنادي، سواء الطهاة أو المحاسبين أو حتى عاملي غرف الملابس. شيء ما من عبق تاريخ «فينجر» و«السير أليكس فيرجسون»، حيث بات يعرف أكثريتهم بالاسم واللقب، وأيضًا الحديث كان عن الطعام.

بيب يقدر قيمة الطعام جدًا، ظهر ذلك في سعيه وافتتاحه لأحد المطاعم التي تقدم الطعام الإسباني داخل مدينة مانشستر، حيث اختار له اسم «تيست-Tast»، وكذلك ظهر في منعه أحد أكثر الأشياء شيوعًا في إنجلترا وهي «البيتزا».

الوجبة المفضلة لدى اللاعبين في إنجلترا وكل العالم عقب المباريات، حتى أن المدرب الإيطالي «كلاوديو رانييري» كان يعد لاعبيه بوجبة منها عقب كل مباراة لا يستقبلون فيها أهدافًا، وكانت أحد أهم عوامل التحفيز لهم للفوز بالدوري، كذلك كانت عاملًا محفزًا للدون «كريستيانو رونالدو» أثناء فترته داخل مانشستر يونايتد، لكن المفاجئ كان منع بيب أكلها بين لاعبيه وتوقيع عقوبات شديدة على المخالفين.

الإيجابي في الأمر أن البيتزا من طقوس الطعام الإيطالي، وأنها تعتبر دخيلًا على قوائم الطعام، سواء في إنجلترا أو في إسبانيا، بالتالي اعتماد بيب للنظام الإسباني في الطعام داخل النادي، باستقدامه الخبيرة «سيلفا تريمولدا»، لم يكن هدفه هو استنكار الطعام الإنجليزي نفسه، لكنه كان اعتمادًا واضحًا على أهل الثقة فقط!

كان قد نصح اللاعب البلجيكي «كومباني» مدربيه بتجربة السمك وبطاطس الشيبس كأحد التقاليد المحلية، وقد راق لهم ذلك جدًا،وبتأكيد من المدرب الإسباني، فإن المطاعم الإنجليزية كانت ولا زالت مفضلة بالنسبة له ولفريق عمله.

المظاهر حول استمتاع بيب بوقته في مانشستر لا تنضب، فسواء كان الأمر فيما يخص التعامل مع الإدارة أو الإعلام أو اللاعبين، أو حتى تلك الأشياء التي تُعد في نظر البعض ثانوية، فإن النتيجة النهائية تُشير إلى أن النجاح هناك لن ينتهي سريعًا، وربما يكون بقيم مضاعفة؛ لأن الظروف تحمل من الصعوبات أكثر من أي وقت مضى.