هل يعالج مسلسل «Moon Knight» مشكلة الاستشراق؟
تمتلك شركات والت ديزني الضخمة معظم الحقوق الملكية للشخصيات والمنتجات الثقافية الأمريكية والعالمية في وقتنا الحالي، بعدما كان اسمها مرتبطًا بأفلام الرسوم المتحركة الموجهة للأطفال والعائلات، أصبحت أحد أكبر المؤسسات وأكثرها سيطرة على عائدات الأعمال البصرية والترفيهية والثقافة الشعبية نفسها، لطالما كانت مؤسسة محافظة أمريكية وطنية، لكنها وعلى مر تاريخها حاولت أن تكسر تلك الأمريكية البحتة مجاراة للتطور، فأصبح من مميزاتها الاهتمام بالتمثيل الثقافي والهوياتي، بدأ الأمر بشكل منقوص وجالب للنقد أكثر منه للإشادة، ففي عصر نهضتها في التسعينيات صنعت أفلامًا مثل علاء الدين 1992 الذي تم انتقاد ترسيخه للصورة النمطية للعرب والمسلمين، ومولان 1998 الذي تم استقباله بشكل أفضل، لكنه لم يسلم من الوقوع في فخ أمركة الثقافات المختلفة.
أصبحت المؤسسة مؤخرًا أكثر حرصًا في تمثيلها الثقافي والعرقي، وبدأت موجة من صناعة الأفلام العائلية التي تصور ثقافة أو عرقًا بعينه، بإشراك فنانين وصناع أفلام ينتمون لتلك الثقافات لتمثيلها بأفضل صورة، فأصبح هنالك بطل من خلفية مختلفة سنويًّا تقريبًا يرى فيه الأطفال أنفسهم في شخصيات مختلفة عن الشخصيات بيضاء البشرة أمريكية اللهجة التي لا ينتمي إليها غير قلة في العالم، ومع سيطرة ديزني على عالم مارفل بدأ الاهتمام بالتمثيل الثقافي في تلك الأفلام كذلك، بتمثيل الأعراق والثقافات المختلفة والهويات المتعددة، حتى إن ظهر ذلك منقوصًا أو محسوبًا وموجهًا في أحيان كثيرة، إلا أنه فتح المجال أمام صناع السينما من خلفيات وثقافات غير أمريكية أو ثقافات مزدوجة بأخذ فرصة للمشاركة في ذلك العالم الفسيح المدر للأموال والشهرة والتأثير الشعبي.
لذلك عندما بدأت ديزني ومارفل صناعة عمل درامي عن شخصية فارس القمر Moon Knight الذي يكتسب قوته الخارقة من قوى إله مصري قديم، وتقع الكثير من أحداثه على أرض مصر، بل يستقي جمالياته من الحضارة الفرعونية، وقع الاختيار على مخرج مصري لصياغة عالم يعرفه، وهو المخرج محمد دياب، يملك دياب شهرة عالمية في سياق المهرجانات السينمائية المرموقة مثل كان وفينيسيا، ويعرف محليًّا وعالميًّا بأفلامه الدرامية السياسية، فكيف تعامل مع مادة ذات شعبية كبيرة وعالم متشعب وشبكة واسعة من التمثيلات الثقافية؟
الخير والشر والمصري القديم
يدور مسلسل فارس القمر المكون من ست حلقات حول شخصية ستيفن جرانت (أوسكار أيزاك)، وهو شاب إنجليزي يعمل في المتحف البريطاني في لندن، لكنه يأمل في الترقي ليصبح مرشدًا لأن لديه ثقافة واسعة فيما يتعلق بالآثار والحضارة المصرية القديمة، يملك جرانت لهجة إنجليزية ثقيلة تضيف طابعًا خفيفًا وكوميديًّا على شخصيته، أهوج ومتسرع ومرتبك ذو روح مرحة ومشكلات في النوم، يربط نفسه في سريره ليلًا مخافة السير نائمًا، يستيقظ مرارًا في أماكن لا يعرفها مرتكبًا أفعالًا لا يتذكرها، حتى يتضح أنه ذو هوية مفككة ويعيش داخل جسده أكثر من شخصية، منها شخص أمريكي يدعى مارك سبكتور يملك قوة خارقة ويتحول فجأة إلى بطل خارق يلتف حول جسده قماش أبيض مثل الذي يغطي المومياوات، ويتوسط قلبه قمر هلال يعلن عن شخصيته كفارس القمر.
نختبر العمل من البداية من خلال ستيفن غير الواعي بقدرة شخصيته الأخرى على القتل والتدمير، ويواجه شرير كاريزماتي هادئ مهووس آخر بالحضارة المصرية يدعى هارو (إيثان هوك)، يدعي أنه يملك القدرة على وزن خطايا الناس ومعاقبتهم على أفكار شر لم ينفذوها بعد، ولكنها مكتوبة في صحفهم المستقبلية، يمثل هارو وعاء (أفاتار) للإلهة المصرية أميت التي تلقب بآكلة الموتى وملتهمة القلوب،والتي تسعى لإرساء العدل بالقضاء على الشر قبل حدوثه، في المقابل فإن مارك/ستيفن يمثل وعاء الإله خنسو أو خنشو إله القمر الذي يقف على عداء وخلاف فكري وأخلاقي مع أميت، ويقدم على أفعال العنف والقتل، لكنه لا يصدق في أخلاقية الخلاص من الشر قبل وقوعه، بل معاقبة الشر بعد وقوعه، وفي وسط ذلك الصراع تظهر شخصية ليلى الفولي (مي القلماوي) زوجة مارك التي يقابلها ستيفن غير عالم بوجودها، وهي فتاة مصرية أمريكية ابنة عالم آثار مصري شهير لقي حتفه في الماضي.
يسعى كل من ستيفن ومارك خلال الحلقات للتعامل مع واقع أنهما يعيشان في جسد واحد، تتبادل الشخصيات في الظهور بين مارك وستيفن وفارس القمر، بل الشخصية البديلة لستيفن أستاذ فارس Mr.Knight الذي يملك قوة وزي بطل كذلك، لكنه يملك حس دعابة وسذاجة تفصله عن البطل الأكثر قتامة، تتشابك القصة وتتعقد كلما زادت تفاصيلها، لكن ذلك التعقيد يتم تناوله وكأنه يقع في دوائر منفصلة، ومع تفسخ هوية مارك/ستيفن تتفسخ البنية الموحدة للعمل، ويصبح مكونًا من صراعات مصغرة داخل صراع أكبر، وبدايات عشوائية لمشاهد الحركة تنتهي فجأة كما بدأت، مع تغيرات مفاجئة في أسلوب المسلسل من حلقة أولى تؤطر التشظي الذاتي وتستقي إلهامها من «نادي القتال – Fight Club»، إلى حلقات أشبه بمغامرات مسافرين أجانب يستكشفون الحضارة المصرية الصحراوية، إلى حلقات أشبه بمسلسل رعب يملك جماليات رعب الأحياء الأموات ونمط لعنة الفراعنة، ثم حلقات تحكي قصة نشوء الشخصية في إطار الإثارة النفسية التي تتسم بها الأعمال المتناولة لأمراض مثل الفصام أو اضطراب الهوية الانفصالية، التي تضع المشاهد في حيرة أبطاله عما إذا كان ما يرونه حقيقة أم خيالًا داخل عقل مضطرب، تقع كل تلك التفاصيل المربكة في إطار شبكة واسعة من التمثيلات الثقافية والهوياتية التي ومثل العمل نفسه وبطله من كثرتها يصعب تناولها بشكل مستقر أو معرفة الهوية الأساسية التي يجب استكشافها.
شبكة واسعة من التمثيلات الثقافية
تظهر نقاط قوة فارس القمر حينما يسمح للتمثيل الثقافي المتعلق بصانعه أن يلمع، انتقد «محمد دياب» المشرف على العمل ومخرج معظم حلقاته في حوارات صحفية متعددة التصوير النمطي لمصر والثقافة المصرية في أفلام هوليوود، وخص بالذكر فيلم الأبطال الخارقين «المرأة الخارقة – Wonder Woman» الذي أنتجته شركة «دي سي – DC» المنافس الأول لمارفل، فيه تم تصوير مصر كصحراء قاحلة يسكنها بدو وشيوخ عرب، وتعج بالإرهابيين والتصورات بالغة القدم التي تعتبر كل ما هو عربي خاليًا من المدن أو المدنية، أو ما يمكن تسميته مجازًا بالاستشراق.
بالطبع توجد معضلة أساسية وهي أن شخصية «مارك» (فارس القمر) في القصص المصورة هي شخصية استشراقية داخليًّا، ولا يوجد ما يمكن تعديله بدون تغيير الشخصية تمامًا، وهو ما استعيض عنه بتغيير شخصية الزوجة، لأن مارك بعد كل شيء هو رجل غربي الملامح والثقافة يملك قوة إله مصري ويقوم بمغامرات داخل مصر كأجنبي مبهور.
في حلقات فارس القمر تتصاعد الأحداث حتى تنتقل إلى القاهرة والجيزة، لكن تم تصوير تلك المشاهد في المجر نظرًا لصعوبة التصوير في مصر، بسبب تأخر تصريحات التصوير والتعقيدات الرقابية، لكن دفع ذلك محمد دياب بمساعدة مصممي الإنتاج على رأسهم «ستيفانيا شيلا» وفنانو الصور الرقمية CGI لمحاولة خلق نسخة من القاهرة والجيزة بشكلهما الحالي، كمدينتين حيويتين صاخبتين، تعج بوسائل المواصلات والأصوات والناس والبائعين والزخم المدني البعيد عن البداوة التي يمكن أن تتواجد على أطراف المدينة، بالطبع نظرًا لطبيعة القصة لم تأخذ تلك المشاهد المدنية وقتًا طويلًا على الشاشة وحلت الجماليات الصحراوية محلها، لأن الموضوع يعتمد على الآلهة القدامى والأهرامات والمقابر واللعنات والعوالم الماورائية.
في الظهور الأول للقاهرة وجد مارك/ستيفن نفسه في مواجهة مع بعض أتباع هارو وأميت، وهم مجموعة من الشباب المصري المنتمين للأحياء الشعبية بملابسهم وأكسسواراتهم الدقيقة وتسريحات شعرهم المنمقة المميزة، لكن اتسم المشهد بمغالاة أخرجته من التمثيل الدقيق لمصر المعاصرة ليصبح نسخة جديدة من أشرار علاء الدين الممسكين بالسيوف في شكل نمطي لأشرار الجاهلية، تصبح المدينة مسرحًا للأحداث مجددًا بعد نسيانها لعدة حلقات في القتال الأخير بين خنسو/ستيفن/مارك وأميت/هارو، تصبح أيقونات الشارع المصري ظاهرة ومسيطرة على المشهد من الميكروباصات البيضاء ومحلات الفول والفلافل التي تم خلقها من العدم فظهرت منمقة أكثر من اللازم، لكنها على أي حال صورة أكثر طزاجة للقاهرة مما يعرض عالميًّا.
لكن ما رفع المشهد من كونه متوسطًا ومتوقعًا هو شخصية ليلى التي وعلى الرغم من عدم إفساح المجال الكافي لتطورها، إلا أنها أصبحت إحدى مفضلات معجبين المسلسل حول العالم، فهي تنويعة على شخصية زوجة مارك التي كانت أمريكية بيضاء في القصة المصورة، لكنها هنا مصرية مزدوجة الهوية، وعلى الرغم من عدم استغلال العمل لدراسة ازدواج هويتها، إلا أنه استغل تطور منحنى شخصيتها للكشف عن بطلة جديدة ذات زي مستوحى من الحضارة المصرية القديمة بأجنحة ذهبية معدنية وشعر بني مموج، تمثل ليلى نموذجًا تبحث عنه ديزني دائمًا، وهو لفظ “أول”، أول بطلة خارقة مصرية، أو أول بطل خارق يهودي، وهو التمثيل الآخر الذي لم يتم استكشافه أو تم التعامل معه بسطحية عابرة.
وقع الاختيار على محمد دياب للإشراف على وإخراج فارس القمر لسعي المؤسسات الضخمة على التمثيل الدقيق للثقافات والأعراق وتناول الموضوعات الحساسة التي حتى لحظتنا تلك يتم التعامل معها دون اهتمام، لكن فارس القمر يملك تمثيلات متشابكة لا تقتصر على إظهار مصر أو الثقافة المصرية بشكل دقيق، اهتم العمل بإصلاح أخطاء الماضي لكنه أغفل أو أقحم تمثيلًا آخر دون دراسة أو اهتمام. يملك مارك سبكتور قصة نشوء مأساوية في القصص المصورة فهو ابن لحاخام ناجٍ من الهولوكوست، لذلك فإن يهوديته تمثل جزءًا كبيرًا من هويته الثقافية وتشكيله النفسي لكونه أمريكيًّا يهوديًّا ابنًا لأب لاجئ على الأغلب، تكشف نسخة المسلسل عن يهودية مارك في مشهد عابر لا يشكل أي تغيير في رؤيتنا له كشخص أو بطل خارق، خاصة أن العمل يختار أن نختبر القصة من وجهة نظر ستيفن الذي خلقه مارك كرد فعل على طفولته المعذبة التي أرغمته على تطوير اضطراب الهوية الانفصالية.
كل قصة بطل خارق تقريبًا هي قصة عن ازدواج الهوية، عن عيش حياتين في جسد واحد، عن امتلاك حياة ليلية سرية وحياة نهارية علنية، لذلك يضيف ازدواج الهوية الثقافية والعرقية لتلك السردية بشكل أعمق إذا تم معاملته بحساسية وجدية.
في فارس القمر يوجد نوع آخر من الازدواج، وهو ازدواج حرفي يصنعه إصابة مارك باضطراب الهوية الانفصالية، يجعل ذلك حياته أكثر تشابكًا، يصعب حتى تسميتها بالمزدوجة فهو يملك عشرات الهويات وكل هوية منها تملك هوية أعلى في صورة بطل خارق، يصبح جسد مارك، وفي هذه الحالة أوسكار أيزاك، ملعبًا واسعًا لاستكشاف الدوافع الأخلاقية المتصارعة والهويات الثقافية والهويات الشخصية كذلك، لكن المسلسل لا يستغل ذلك بشكل متمهل كونه مغلفًا بميل ديزني لتوجيه كل ما تنتجه للعائلات، بتخفيف العنف الجسدي والنفسي لصالح منتج يسهل استهلاكه على أوسع نطاق.
يمثل فارس القمر نقلة ضخمة في تمثيل هوليوود للثقافة المصرية المعاصرة، تمتد من التمثيل البصري للمدينة بفوضاها وحيويتها التي لا تنتهي، إلى استكشاف الموسيقى المصرية المعاصرة الشعبية وخلطها بألحان وتوزيعات هشام نزيه الأوركسترالية، التي تدمج ما هو نمطي عن الحضارة الفرعونية، أي الملحمية الموسيقية الأوروبية ذات النزعة الشرقية، وما هو شعبي مثل أصوات الربابة والمواويل الشعبية، لكنه يتعامل بخفة وارتباك مع تعقد قصته وتشابكها فيصبح في النهاية تجربة مختلطة تملك مقومات النجاح الشعبي لكنها لا تتعمق في أي موضوع أو خط قصصي تتناوله.