«نصف الكوب الممتلئ»: هل لجائحة كورونا وجوه إيجابية؟
في أوقات الكوارث والأوبئة يكون الوجه السيئ هو الأطغى والأوقع، لكنها -منطقيًّا- ليست شرًّا مطلقًا، وبالتالي فإن «فيها حاجة حلوة».
وقد أسهب الجميع في الحديث عن الأضرار، لذا دعنا نبحث عن ومضات ضوء في وسط العتمة، ونرصد أمورًا إيجابية وسط هذا السوء الطاغي، لا نكذب أو نبالغ، لكننا نسلط الضوء عليها فقط؛ لنجيب عن هذا السؤال: هل لجائحة كورونا جوانب إيجابية؟
«بتعرف تعد لحد كام؟»
للإجابة عن السؤال السابق يمكن أن تشاهد حلقة «الدحيح» عن الحياة في زمن الكورونا، والتي يشير فيها إلى أن الأزمة أدت إلى العمل من المنزل، وهذا ما أدى إلى توفير وقت طويل نهدره في زحام الطرق والمواصلات ذهابًا وعودة من العمل، والذي يزيد -بحسب دراسة أوردها الدحيح- أخطار الإصابة بأمراض الضغط والقلب والسمنة، كما لفت العمل من المنزل نظرنا إلى عدم أهمية بعض الأعمال، والإجراءات والمهام الوظيفية، في ظل توقفها بسبب الحظر، كذلك عدم أهمية بعض الرتب الإدارية، مقارنة بأهمية وظائف أخرى في حياة البشر، كالأطباء والممرضين، كما أن الأزمة زادت من دعوات اتخاذ إجراءات حماية للعمالة اليومية، ومراجعة لميزانيات الصحة ورواتب الأطباء عالميًّا.
ويمكن أن نستعين برأي أحد باحثي أكسفورد، بأن الأزمة قد تُغيِّر مفاهيم القومية والديكتاتورية، وتزيد التعاون بين الدول لمكافحة الوباء، وتقلل من احتمالية انتشار الأوبئة مستقبلًا، وتجعلنا أكثر واقعية بشأن الإمكانات العلاجية ومخاطر الفيروسات ومفاهيم الصحة العامة، وتساهم في تطوير اللقاحات ضد التحديات الفيروسية المستقبلية، وتساعدنا على اكتشاف قدرات وأخلاقيات مجتمعاتنا المحلية، وتُذكِرنا ببعض الدوائر المهملة وضرورة الاهتمام بها، كالفقراء وكبار السن.
كذلك يمكن الاستعانة بفيديو لناشيونال جيوجرافيك يؤكد أن الحظر وتراجع النشاط الاقتصادي أديا إلى قلة حركة المركبات والنشاط الصناعي، مما أدى إلى تقليل الانبعاثات الضارة، وتراجع قياسي لمستويات التلوث، وتحسُّن جودة الهواء، والتئام ثقب الأوزون فوق القارة القطبية الجنوبية.
«يا نعيش عيشة فُل، يا نموت إحنا الكُل»
هذه العبارة الشهيرة من فيلم «سلام يا صاحبي» تعبر عن أبرز الوجوه الإيجابية للأزمات مجتمعيًّا؛ إذ تجعلنا نهتم بمشاركة المعلومات التوعوية والوقائية، والحث على اتخاذ الإجراءات اللازمة لتخطي الأزمة؛ لأن مواجهة الأوبئة تتوقف على الوعي الجماعي لا الفردي.
ومنذ بداية أزمة كورونا كثرت دعوات الوحدة من أجل سلامة المجتمع ككل، فظهرت مبادرات عدة لمساعدة عمال اليومية والمتضررين، وتبرع آخرون بتوصيل الناس إلى المستشفيات في أوقات الحظر، باركنا و«شيرنا» تبرعات «مطعم البرنس» و«مطعم صبحي كابر» و«محمود العربي»، وتصريحاتهم المسئولة، وحَّدنا الغضب على «ندالة» تصريحات «ساويرس وغبور وصبور». حتى الموقف المشين لرفض أهالي «شبرا البهو» لدفن الطبيبة المتوفاة طغت عليه ردود أفعال إيجابية تنتصر للإنسانية، وهو جانب أخلاقي يظهر وقت الأزمات، وكأنه حسنات يُذهِبن سيئات أعمالنا.
دفعتنا الأزمة إلى ألا نعارض الحكومات لخصومة سياسية، إنما لما فيه مصلحة المجتمع، فصرنا نثمِّن الإجراءات الإيجابية لحكومات سلطوية وديكتاتورية، وهو ما يعد ممارسة «صحية» للمعارضة.
كذلك، صرنا نرى –للمرة الأولى- «تروليات الهايبر ماركت» يتم تطهيرها، وبدأ الناس ينتبهون لتقصيرهم الديني والصحي والمجتمعي، وربما أعادوا التفكير في كثير من تصرفاتهم وعاداتهم، وبدأ الكثيرون في تعلُّم أمور جديدة، ربما تفتح لهم أبواب عمل أو تكون بداية تغيير شامل في حياتهم.
أصبحنا نتبادل المنافع، ونشارك المعلومات الوقائية أكثر من «الميمز» و«الكوميكس»، اختفت «ترندات التفاهة والمهرجانات»، وأصبحنا نقدِّر من يستحقون التقدير، فحل الأطباء محل المشاهير، وراجت أخبارهم ويوميات كفاحهم في مواجهة المرض، وبدأ الطلاب والمعلمون والحكومة في تكثيف التعلم عن بُعد والتعلم الإلكتروني.
أتيحت مكتبات ضخمة من الكتب التي لم يكن أحد يتوقع توفرها مجانًا، وعدد كبير من المحاضرات والدروس والدورات التي صارت مجانية أو بأسعار مخفَّضة، بدأنا في نشر المعرفة، والاستوثاق من المعلومات الطبية، وكثرت الردود على الشائعات وتفنيدها، وجعلتنا الجائحة نستوثق من المصدر والشائعة، وهو أمر لو تعلمون عظيم.
الوعي أهم من غسل اليدين
رغم ما يبدو من سخرية الرد إلا أنه أمر مهم؛ فهو أول وسائل مواجهة الفيروس، وكثيرًا ما «كَرْوِتنا غسل إيدينا» أو أهملنا هذه العادة البسيطة التي تمنع الإصابة بأمراض الإسهال والالتهابات الرئوية، والتي أدت معًا إلى وفاة أكثر من 3.5 مليون طفل عام 2008، وفي عام 2013 بلغ عدد الأطفال المتوفين بسبب الإسهال الناتج عن عدم غسل اليدين حوالي 1000 طفل يوميًّا، وفي 2018، كان حوالي 50% من حالات سوء التغذية ناتجة عن إهمال النظافة الشخصية، ولذلك يمكن أن يعد الاعتياد على غسل اليدين صورة من الصور الإيجابية لأزمة كورونا، والتي تتعلق بالوعي بأهمية هذا الفعل البسيط، والوعي بضرورة القيام به.
لذلك، فالوعي هو أكثر ما نستفيده من الأزمات؛ فهو وسيلة الانتصار والتعافي، وأهم استراتيجيات مواجهة الأزمة والمرور منها، لا نتحدث هنا عن وعي طبي وعلمي يتمكَّن من الوصول إلى علاج للفيروس فقط، بل أيضًا وعي اجتماعي بالإجراءات، والمعرفة اللازمة لمواجهة الفيروس وأخطار انتشاره.
حيث إن قلة الوعي هي التي جرَّدت أهالي «شبرا البهو» من إنسانيتهم ليرفضوا دفن الطبيبة المتوفاة، والوعي هو الذي جعل أهل «شباس عمير» -قرية فاطمة تعلبة- يخرجون لاستقبال جثمان المتوفاة من قريتهم في نظام وتباعد، مرتدين الكمامات. قلة الوعي هي التي تسببت في التنمر على الآسيويين، وبخاصة الصينيين، وهو الذي تسبب في مشهد تنمر فيه المصريون على شاب صيني، أما الوعي فهو الذي دفع أهل قرية إلى التبرع لمساعدة عمَّال اليومية. لذا فإن الوعي في أزمة كورونا هو أهم الدروس المستفادة منها وأهم نقاطها الإيجابية، والوعي بأهمية غسل اليدين لعشرين ثانية أهم من غسل اليدين؛ فالوعي بالفعل وتبعاته أهم من فعل الفعل نفسه.
الكوارث «فيها حاجة حلوة»
في حين تعد الكوارث بمثابة صدمات للأنظمة الاجتماعية والاقتصادية؛ فقد تقضي على مدن كاملة، وتدمِّر حيوات ووظائف الملايين، وتزيد من معاناة الفقراء، إلا أن الوقائع تشير في الوقت نفسه إلى أنها تؤدي -أحيانًا- إلى نتائج اقتصادية إيجابية، ففي أكتوبر/تشرين الأول 1998، ضرب إعصار «ميتش» هندوراس، مسببًا فيضانات وانهيارات ضخمة، وبالرغم من ذلك فإن التعافي من هذا الحدث أنتج تحسنًا اجتماعيًّا واقتصاديًّا، فقد وجد الباحثون أن أحد المجتمعات الريفية الفقيرة المتضررة من الإعصار أصبحت في وضع أفضل مما كان عليه قبله؛ فقد وُزع الدخل بشكل أعدل، وامتلك الفقراء مزيدًا من الأراضي، وصارت مصادر الدخل وفرص العمل أكثر تنوعًا، وصار المجتمع أكثر مقاومةً للصدمات المناخية المستقبلية، وكأن الإعصار أعاد ضبط الآلية الاجتماعية والاقتصادية والمؤسسية؛ فأنتج آليات ومصادر دخل جديدة، مما يسلط الضوء على أن الكوارث تخلق استراتيجيات للتنمية، ومواجهة الفقر، والتكافل الاجتماعي.
وقد تناول باحثون العواقب الإيجابية للكوارث، وتوصلوا إلى أن أهمها هو الزيادة في نمو الناتج المحلي الإجمالي بعد الكارثة؛ بسبب استبدال رأس المال المتأثر بآخر أكفأ استطاع التعافي من آثار الأزمة، مستفيدًا من جهود إعادة الإعمار المواكبة للكوارث، فضلًا عن القدرات المالية الضخمة التي توجَّه غالبًا لإعانة المتضررين، وكذلك تطبيق استراتيجيات جديدة أكثر ابتكارًا وأدق تركيزًا على حل الأزمات. وقد أيَّد الباحثون نتائجهم بدراسة تجريبية عام 1993، فحصت عواقب 28 كارثة طبيعية على 26 دولة بين عامي 1960 و1979، ووجدت أن نمو الناتج المحلي الإجمالي يزداد في معظم الحالات بعد وقوع كارثة.
إلى جانب ذلك فإنه يسهل الحصول على دعم دولي في الكوارث والأوبئة، على عكس الأمراض أو الحوادث البسيطة، فمثلًا: لم يحظ ضحايا الفيضانات في بنجلاديش عام 2004 بالدعم ذاته الذي حظي به ضحايا «تسونامي» في العام نفسه، وهو ما قد يدفعنا إلى القول بأنه كلما زاد حجم الكارثة زاد معها الدعم الدولي، وهو وجه إنساني لا نراه إلا في الأزمات الكبرى.
من رحم الكارثة تولد النهضة
يشير بعض المؤرخين إلى أن الطاعون كان من الأسباب التي أدت إلى دخول أوروبا عصر النهضة؛ إذ حوَّل نظرة الأوروبيين للعالم؛ فالألفة مع الموت جعلتهم أكثر تأملًا في الحياة، وبحسب كتاب «عصر النهضة: مقدمة قصيرة جدًّا»، كان للطاعون فضل كبير في تلك الفترة، خاصة بعد عجز الكنيسة عن تقديم المساعدات ضد الوباء، فبعد تعافي أوروبا من الطاعون، دخلت مرحلة جديدة من تاريخها، حيث انهار النظام الإقطاعي؛ بسبب موت الكثير من العبيد، وخسارة الطبقة الأرستقراطية المالكة للإقطاعات، وصعود طبقات الفلاحين والفقراء، وحصل العمال الذين كانوا في بطالة قبل الطاعون على وظائف بعد كثرة الطلب عليهم؛ نتيجة كثرة الوفيات، وظل الصعود حتى دخلت القارة العصور الحديثة.
وفيما يخص جائحة كورونا، فقد ساهمت في الدعوة إلى الاستثمار في الحد من مخاطر الكوارث، وهو استثمار وصفه الأمين العام للأمم المتحدة بأنه «الشيء الصحيح الذي يجب فعله»، موضحًا أن أضرار الكوارث التي تقضي على عقود من التنمية في لحظة، يجب أن تكون أساسًا لتريليونات الدولارات التي سيتم استثمارها بعد الكارثة في البنية التحتية وخلق فرص عمل.
ربما أوقف فيروس كورونا طبول الحرب العالمية الثالثة التي دقت مع مطلع 2020، وقد تكون أكثر إيجابياته هي التغيير الشامل في الممارسات الصحية والاجتماعية والاقتصادية، وانهيار أسطورة الدول العظمى التي ربما كانت الأضعف والأبطأ في مواجهته، مقارنة بما تمتلكه من إمكانات ضخمة صحية ومادية ولوجيستية، وربما انتهت أسطورة الأمريكي «الهوليوودي» الخارق الذي ينقذ العالم من كل سوء.
وبالتأكيد فإن «فاتورة» هذا التغيير لن تكون هينة، بل هي قاسية على المستوى البشري والمادي، وربما يكون العالم بعد كورونا أكثر تأزمًا وقسوة، لكن في النهاية سيكون للتغيير –بالطبع- جوانب إيجابية، ربما أقلها أن العالم سيفكر بشكل مختلف ومبتكر لوضع استراتيجيات للتعافي من آثار الأزمة، في ظل أن الأزمات تمثل حدًّا فاصلًا ومؤشرًا واقعيًّا لحياة البشر، يكون فيه الصواب بيِّن والخطأ بيِّن، دون شبهات، فيستطيع الإنسان التفكير بدقة وواقعية بغير مشتتات.
ربما لن يكون فيروس كورونا ضيفًا يتبع المثل الشعبي «يا بخت من زار وخفِّف»، بل ربما تطول مدة بقائه أو يظهر له رفاق يجعلون العالم يعيش هذا الموسم الحَجْري والعَزْلي بصفة سنوية، وربما موسمية. وبالطبع يكون الجانب السيئ أبرز وأوقع تأثيرًا، لكن هناك نقاطًا إيجابية نحتاج رؤيتها في هذا السوء؛ لكي تدفعنا للتحسُّن والتعافي، وتمثل نصف الكوب المملوء، في مقابل نصفه الفارغ، وتكون بمثابة نقاط بيضاء في ليل مظلم، نسميها نجومًا، ونسعد برؤيتها؛ لأنها تعطينا الأمل والضوء.