المعادلة بسيطة، أنت تدفع مبلغًا من المال في مقابل الاستمتاع بمشاهدة مباراة ما. الأجواء مثالية تمامًا لمشاهدة ممتعة والأجواء في الوقت الحالي تصنع لا تتشكل من قبيل المصادفة فكل شيء يقدم للمتعة في وقتنا الحالي أصبح صناعة خالصة، سواء كانت مباراة كرة قدم أو عرضًا مسرحيًا أو حتى عرضًا في السيرك.

إذا قمت بحجز تذكرتك الخاصة لمشاهدة أحد عروض السيرك ذي الشهرة العالمية، فمن المؤكد أنك ستلاحظ ذلك التطور الرهيب الذي أتى على تلك العروض. الإضاءة تخطف عينيك لمشاهدة شخص محدد سيقوم بحيلة ما في الهواء، الموسيقى تدق بوتيرة متصاعدة لتناسب انفعالك الشخصي بالمشهد أو لتهيئك لذلك الانفعال في الأغلب، قميص البطل ذو لون مختلف في إشارة لأنه البطل ليعرفه الجميع بمجرد ظهوره، ألف تفصيلة تم وضعها بعناية ليكتمل المشهد.

لكن دعنا ننسلخ من ذروة المشهد، فلنترك بقعة الضوء التي تصاحب البطل ونجول مبتعدين بأعيننا، ربما تستطيع أن تلحظ عيونًا أُخرى تلمع في الظلام، إذا كنت تنتمي لعصور ماضية فمن المرجح أنك توقعتها كلابًا شرسة تقبع في سكون تتأهب لتمزيق كل من يحاول أن يفسد العرض. تنتظر أن ينير المسرح بكامل إضاءته لتتأكد من ماهية تلك العيون، لقد تطور الأمر كثيرًا إنها ليست حتى كلابًا للحراسة إنها روبوتس (آليين).

تلك الآلات الميكانيكية القادرة على القيام بأعمال تمت برمجتها لعملها سلفًا، روبوتس تلقف البطل حتى لا يقع أرضًا وروبوتس تشير لمساعدي البطل لأن دورهم قد بدأ الآن روبوتس في كل مكان لكن لا يراهم أحد، أصبحت المتعة تقدم في عصرنا الحديث بفضل هؤلاء: أبطال في الضوء وروبوتس في الظلام، لكن دعنا من ذلك المشهد الآن ولنعد لكرة القدم.


التطور أنتج هؤلاء

يقول جوناثان ويلسون في كتابه «الهرم المقلوب» إن كرة القدم في شكلها البكر – قبل ظهور فكرة الخطط والتكتيكات – كانت شكلًا من أشكال التعبير عن الرجولة وما يلزم ذلك من عنف ورفس وضرب للمنافس وهو ما استلزم الاهتمام بفكرة المراوغة ثم وضحت بعد ذلك أهمية التمرير وتبادل الأدوار.

وبعيدًا عن فكرة التطور الخططي الذي عاشته الكرة وهو ما يستعرضه الكتاب جيدًا إلا أن كرة القدم دومًا ما كانت تتأرجح بين الفوز كنتيجة للفنيات والسيطرة على الملعب من جهة والفوز كنتيجة للتأمين الدفاعي وإفساد الهجمات والقيام بهجوم منظم، ولكنه غير جمالي من جهة أُخرى.

وما بين طرفي المعادلة وتحقيقًا لأهداف كل شق ومعتنقيه تطورت كرة القدم بشقيها الفني والبدني وتطور كذلك الجانب الخطي ليشمل شكلًا من الجانبين، فلا هجوم من دون دفاع ولا دفاع من دون هجوم بالضرورة.

ظهر في الصورة أهمية لاعب الوسط، الرجل القادر على افتكاك الكرة ومقابلة مهاجمي الوسط في الحالة الدفاعية وكذلك قادر على توزيع اللعب ودعم الهجوم والتسديد في حالات الهجوم. ولأن هذا الدور هو دور صعب للغاية فلجأ بعض المدربين لمحاولة تقسيم الأدوار بين لاعبي خط الوسط، ما بين لاعب يميل للدفاع وآخر يميل للهجوم.

ومع تطور كرة القدم ورغبة الجميع في الفوز كان لابد من ملاءمة لاعبي كرة القدم لاحتياجات المدربين وأفكارهم أيضًا رغم وجود لاعبين أفذاذ في خط الوسط على مر العصور أمثال لوثر ماتيوس وريكارد وميكاليلي وفييرا، إلا أنه مع الوقت بدأ يظهر أيضًا في المشهد اللاعب الروبوت، لاعب يلعب كرة القدم في وسط الملعب الدفاعي بشكل مبرمج تمامًا مهمته أن يقتنص الكرة من المهاجم أو من الوسط المهاجم ويسلمها لأقرب لاعب له وهو متطابق مع أمثاله في كل الفرق تمامًا، وإذا كان افتكاك الكرة من المهاجم هو إحدى المهارات المهمة في كرة القدم الحديثة إلا أن الأمر يتطلب أيضًا مهارات أخرى.


حسام عاشور والنني: صنيعة جوزيه والتحول إلى روبوت

فلنأخذ مثلًا محليًا باللاعب «حسام عاشور» لاعب الأهلي المصري، من المعروف للجميع أن حسام عاشور هو أكثر لاعب خاض مباريات بقميص النادي الأهلي، كما أنه يملك من البطولات ما يفوق سني عمره.

بدأ الأمر عندما قرر المدير الفني البرتغالي «مانويل جوزيه» أن يستعين بالناشئ الصغير آنذاك حسام عاشور في مركز خط الوسط المدافع ثم استمر الأمر بمهام محددة، افتكاك الكرة وتسليمها لأقرب لاعب مع تهديدات بالاستبعاد من المباريات من قبل البرتغالي إذا قام حسام عاشور بعبور نصف الملعب.

الأمر يتطلب إمكانيات مثل القوة البدنية والقدرة على التمركز، إلا أنه ومع مرور الوقت أصبح حسام عاشور لاعبًا نمطيًا للغاية لا يملك حتى القدرة على التسديد. فهل أفاد مانويل جوزيه بتعليماته حسام عاشور واستطاع تطويره أم أنه حوله إلى روبوت؟

فلنأخذ مثلا مصريًا آخر ولكنه يلعب لأحد أهم فرق إنجلترا، «محمد النني» لاعب أرسنال الإنجليزي. حسنًا، المشهد يسير كالتالي:

النني يطلب الكرة، يشير لزملائه في إصرار ليستلم الكرة، يسلمه أحد الزملاء الكرة فلا ينظر حتى النني للملعب بل يعيد الكرة لنفس اللاعب الذي استلمها منه ثم يعود ليطلبها من جديد.

إنها أحد أهم مظاهر التخصص وتقسيم العمل المعروفة، الاستغراق في دورك بصورة كبيرة مع عدم إدراك دورك كجزء من المنظومة ككل، هذا ما تشعر به عندما ترى محمد النني في نسخته مع الأرسنال. فاللاعب الذي استطاع أن يتطور مع بازل وأضاف لقدرته على الافتكاك قدرات أُخرى مثل التسديد والتمرير الجيد، أصبح مع متطلبات فريقه الإنجليزي «روبوت» آخر لا يعرف له دورًا سوى التمرير لأقرب لاعب أو محاولة افتكاك الكرة.


بوسكيتس: علامة على الطريق

يبقي هذا المركز في أكثر أشكاله تطورًا مرتبطًا دومًا بالقدرة على إفساد الهجمات والقوة البدنية الهائلة، وآخر المنضمين إلى سلسلة من هؤلاء المنطبق عليهم المواصفات السابقة هو «نجولو كانتي» الذي استطاع أن يحصد جائزة أفضل لاعب في الدوري الإنجليزي، ولكن يبقى الأمر نمطيًا أيضًا، يبقى الأمر أشبه بروبوت متطور وآخر أقل إمكانيات وتطورًا. ماذا عن مهارات الكرة الأصيلة، ماذا عن المراوغة وتبادل المراكز والتمرير الدقيق بين الخطوط والرؤية الثاقبة للزملاء نتيجة لفهم اللاعب لمكانه ودوره في الفريق، هل يحتمل ذلك المركز بشكله المتطور أن تضاف إليه تلك الصفات؟

الأمر أشبه بثورة بين الروبوتس كتلك التي حدثت في فيلم ويل سميث الشهير «I robot». فالروبوتس في الفيلم كانت لا تعرف سوى ثلاث قواعد تسير من خلالها، إلا أن أحدها كان يملك إمكانات حسية أكبر فاستطاع أن يتمرد على وضعه دون كسر أي من القواعد.

إذا دققنا النظر في فرق العالم لن نجد غيره يصلح كنواة لإحداث تلك الثورة، إنه «سيرجيو بوسكتس» لاعب برشلونة. هو النسخة المتطورة من لاعب خط الوسط المدافع، الرجل الذي يجب التركيز على صناعة لاعب مثله وتطوير نسخته إلي نسخه أكثر فعالية على المرمى كذلك، لكنه يستطيع أن يمرر ضاربًا الخطوط، أن يراوغ إن لزم الأمر وأن يتحصل على الكرة ويمررها أيضًا، بوسكيتس ليس النسخة الأكثر كمالًا ولكنه علامة مهمة علي الطريق.

فلنعد إلى السيرك الذي تركناه سلفًا، بالطبع لا يوجد روبوتس في السيرك، ولكن يوجد كثير من النمطيين الذين لا دور لهم سوى الحماية والتهيئة فأصبحوا مثل روبوتس متشابهين للغاية في أدوارهم ومبرمجين لفعلها كل يوم دون تفكير.

كرة القدم لعبة تقدم للمتعة في كل الأحوال وإذا كانت المتعة شيئاً نسبياً بالطبع إلا أنه إذا أصبح من لا يملك من مهارات كرة القدم شيئًا سوىي الافتكاك هو الأهم على أرض الملعب بل أصبح هو محور العرض فستظهر مقولة كتلك «من يرد المتعة فليذهب إلى السيرك أفضل».