«أبيض» هو لون ثيابه
يظن المرء أن مهنته هي أصعب وأخطر مهنة في العالم حتى يكتشف أن هناك ما هو أخطر: مهنته وقت الوباء!
في كل مرة أتذكر أنشودة الأطفال الألمانية الراقصة أشعر بشجن سياق معرفتي لها، ورغم أن الخبّاز أنسب بالطبع لأغنية من القرن التاسع عشر، وأنسب في كل وقت، إلا أنني دوماً أتوقع أن يكون الأبيض مرتبطاً بالطبيب.
كان الأبيض الذي يغلب على المستشفيات يُذكِّر «أمل دنقل» في مرضه بشيء آخر «كل هذا يشيع بقلبي الوهن… كل هذا الأبيض يُذكِّرني بالكفن». هذه هي الحقيقة دوماً، هذا شعور الناس تجاه الأطباء، صورة للشفاء وللموت، وكذلك يشعر الأطباء، أغلب الوقت، تجاه أنفسهم.
الأبيض مجاز يجمع الأطباء بما لا يخبر عن تباينهم، تتباين أشكال وألوان ما قد يرتدونه باختلاف تخصصاتهم ومواقعهم، الكثير يتباين في حياتهم بعد التخرج، لكنهم الآن يعليهم غبار المعركة، فلا تكاد تُميِّز ألوانهم، كلهم يذهب إلى محل عمل شديد الخطورة ويعود إلى المنزل في غاية القلق، يتداولون، رغماً أو عمداً، ما خفي عن بعضهم البعض وما لم يعترضهم من وجوه الأزمة وعواقبها، وكلهم يشعرون بالمسئولية والذنب لسبب أو لآخر.
في أوقات الذروة، حين يطغى إعلان الوفاة على استمرار الحياة، مجازاً أو عدداً، لا يعرف حتى أولئك الذين في الصفوف الأولى لماذا هم هنا، لا هم يحاربون الوباء حقاً ولا هم يهربون ولا يُصابون أو يموتون، إنهم محاصرون، والحصار يستنزفهم، صورة مُكثفة من حياة ما قبل الوباء، يوم عمل مرهق وقاس مُركز في ساعة واحدة، وهذه الساعة لا تنتهي منذ أشهر، شعور متسارع بالضغط، أجزاء من روحك ونفسك وعقلك وكل هذه الأشياء المجازية كأنها تنهار بشكل حرفي، ولا يسعفك نظامك الصحي أينما كنت، حتى في العالم الأول ليس مقبولاً منك الآن أن تطلب إجازة لأنك ستجن، ربما يقبلون إن كنت ستجن وحرارتك عالية وتسعل.
في وقت لم يكن فيه وباء، كوّنت رأياً بأن البشر غير مؤهلين ليكونوا أطباء بالشكل الحديث، لأن كل الأطباء في العالم يعانون نفسياً، وكلهم يشتكون لعنة اختيارهم، هناك مشكلة فيما هو مطلوب منهم، في الدراسة وساعات العمل وحجم المسئولية وعواقب الخطأ ومسارات الخبرة والترقي والتضحيات الاجتماعية، لكن عندما كوّنت هذا الرأي كنت عاقلاً؛ أعلم أن هناك أنظمة صحية أكثر دعماً من غيرها لأطبائها، لكن كل الأنظمة الصحية أظهرت خللاً وضعفاً وربما انهياراً في الأزمة، وفي حالتنا أدركنا أن الظلام الذي تكيفت معه أعيننا من الممكن أن يكون أحلك، فتجد زملاء في تخصصات قاسية، قضموا أمرّ ما في الطب من قبل، يصيحون في ذعر، أو ينشرون على مواقع التواصل أنّات مكتومة لا حول لها ولا قوة، وكأن كل شيء قد انتهى بالفعل.
ليس الأطباء ملائكة وليست معاطفهم البيضاء أجنحة، لا حقيقة ولا مجازاً، وهذه هي نقطة ضعفهم، إنهم بشر يشترون الطعام ويمشون في الأسواق، يذهبون إلى البنوك والمصالح الحكومية، ويرتادون قاعات الدراسة والامتحانات، وأغلبهم لا يُجنِّبهم دخلهم المواصلات العامة، وما زالوا يشعرون بحرج الاعتذار عن المناسبات العائلية، لا يُجنِّبهم كارنيه النقابة الفيروس في هذه الأماكن، ويحملهم على أن يلاقوه في أوقات العمل الرسمية أيضاً، ليست الاحتمالات في صالحهم، خاصة حين تتسارع الوتيرة وتقل الإمكانيات ويرخص ثمنك ويرتفع ثمن الـPCR، ولكن الخوف من هذا يأتي ثانياً؛ بعد الخوف من احتمالات أن تحمله لمن ولدك أو لمن ولدتْ، للأطباء آباء وأبناء؛ ولذلك هم ليسوا ملائكة ولا آلهة، حتى إن رغبوا في هذا.
كلنا أدوات لله وقدره، أحياناً نقبل على هذا بوعي وعن عمد، لكن عندما يكون هذا القدر هو الموت لا يكون هذا الوعي مُرحباً به. في الحالات الحرجة يقف الأطباء على حافة بين الوعي والإنكار، بالنسبة للشخص السوي ليس ممتعاً أن تعرف أنك تُقرِّر حياة شخص أو وفاته، لا يساعدك هذا ولا يُشعِرك بالقوة والسيطرة، ولكن إنكاره أيضاً يُغري بالتساهل، لذا إن لم تكن وُلدتْ بالقدرة على الموازنة أو اكتسبتها بالتجربة، عليك ألّا تكون في هذا الموقف، أو في الموقف الأصعب؛ أن تختار لا بين حياة شخص وموته بل موت شخص أو آخر، يمارس الأطباء هذا أحيانا في الأيام العادية، ولكن في مواقف محدودة وفقاً لمعايير يُحاسَبون عليها ويُحاسِبون أنفسهم عليها، لكن في جائحة التي لا نفهمها بالكامل بعد، بالأعداد التي لا نتوقعها، بالظروف المتاحة وغير المتاحة، فمعاييرك هي فوضى شاملة.
يقول الجوكر في مستشفى وهو يرتدي زي الممرضة الأبيض، وصدقني؛ هو مخطئ.
عندما بدأ الوباء نظر الناس إلى الأطباء، ونظر الأطباء إلى السماء أو إلى أي اتجاه يعتقدون أنه يجلب التوفيق، يحتاج العلم إلى المحاولات وتحتاج المحاولات إلى الوقت، ومحاولات كسب الوقت تعسرت أمام سرعة الفيروس وعجلة الحياة الحديثة.
على الأطباء أن يواكبوا هذا، أن يختاروا بين النصائح المُتقلبة ويتابعوا التقسيمات والتصنيفات والمصطلحات المتسارعة، ويُرجّحوا بين حديث مقرر وأحدث لم يُقر بعد. ليس كورونا فيروساً فريداً من نوعه، لكن نوعه [أي الفيروسات] مراوغ، كهدف متحرك، كابوس، أسوأ ما فيه أننا نعرف أنه وأن ما يظهر لنا منه ربما ليس أسوأ ما قد يواجهنا، لهذا نحتاج إلى التوفيق، وفي انتظاره نحتاج إلى الحذر، لهذا يُحذِّر الأطباء، ويُنبِّه الأطباء، ويصرخ الأطباء، لقد أصبح الأطباء مزعجين للغاية، ومملين أحياناً.
في موجة الجائحة الأولى كانت الناس تُصفِّق للأطباء من الشرفات، احتراماً لمجهودهم وتضحياتهم، للشفاء وللموت، الآن يفوح من الأطباء القلق والخوف أيضاً، لا أحد يحترم القلق أو الخوف، لذا؛ يخوض الأطباء مُنهكين شاحبين جرحى، أوقاتاً أصعب في الموجة الثانية، ولا أحد يصفق في الشرفات الآن.