يصاحب تصريح «ممنوع من العرض» العديد من الأفكار الراسخة، مثل المحتوى الجنسي الواضح أو الفضائحي أو المحتوى السياسي الخطر، وفي بعض الأحيان المحتوى الديني المثير للجدل، عادة ما تمنع الأفلام المحلية من العرض بعد عرضها على الرقابة، لكن في وقتنا الحالي لا تصنع الأفلام من الأساس إلا بعد عرضها على الرقابة لذلك لا تواجه الأفلام المحلية تلك المشكلة مثلما سبق، أصبح الممنوع من العرض حاليًا هو المقبل من الخارج من أكبر شركات الإنتاج العالمية، ولا يمنع الفيلم قبل الإعلان عنه بمعرفة مسبقة بمحتواه المنفتح أو المخالف للأفكار المحلية، بل يتم الإعلان عنه والتسويق له وبناء حماس شعبي ضخم لوقت إصداره، وفي اللحظة الأخيرة، قبل عرضه بيومين، وبناء على قرارات دول أخرى بالمنع، يوصم فيلم شعبي عالمي ما بأنه ممنوع من العرض في مصر.

آخر الأفلام الممنوعة من العرض بذلك التسلسل هو «دكتور سترينج في جنون الأكوان المتعددة – Doctor Strange In The Multiverse Of Madness»، والذي منع بنفس تسلسل الأحداث التي منع بها فيلم «الخالدون – Eternals» ولأسباب مشابهة، ليست الأسباب هي التناول الأسطوري للأديان المخالف للعقائد المحلية العربية، ولا محتوى جنسي صادم أو إسقاطات سياسية مقلقة، بل السبب هو مشهد مدته 12 ثانية تظهر فيه فتاة تتكون أسرتها من أمّين، سيدتين قائمتين على تربيتها، ذلك هو سبب منع آخر إصدارات عالم مارفل السينمائي المنتج من شركة ديزني الصديقة للأسرة، مشهد كان من الممكن تفسيره بعشرات الطرق، لكن تم اختيار منعه حتى بعد حرق سبب المنع، فإذا كان هناك خطر ما فقد وقع بالفعل، من شاهد الفيلم ومن لم يشاهده يعلم الآن بوجود المشهد سواء كان متابعًا لعالم مارفل أم سمع عنه للتو بعد المنع.

في أزمنة سابقة كان مصير الإفلام الممنوعة من العرض شهورًا وربما سنوات من الانتظار، أن تصدر على شرائط فيديو أو أسطوانات مدمجة سواء كانت مقرصنة أو أصلية، لكن مع وجود الإنترنت وسرعة تفشي وتسريب المحتوى المقرصن أصبح المنع بادرة معدومة المعنى، فمن الممكن مشاهدة الفيلم بسهولة مصور بكاميرا عالية الجودة لكنها لا تلتقط بأي حال من الأحوال الجودة الأصلية لفيلم صمم لكي يشاهد على أكبر وأضخم الشاشات ذات الأنظمة البصرية والسمعية المخصصة للإنتاجات الكبيرة، ومع تغيير وباء كوفيد 19 للمناخ السينمائي تميل شركات الإنتاج السينمائية الكبرى لتسريع إصدار النسخ الرقمية المادية وعلى المنصات الخاصة بها بعد مرور شهور قليلة من العرض.

لكن في حالة أفلام عالم مارفل فإن الزخم المتراكم لمشاهدة الإصدارات الجديدة يتصاعد مرة بعد مرة، ويخشى الجميع حرق الأحداث الذي يفسد تجربة المشاهدة، فيصعب انتظار شراء النسخ الأصلية أو تحميلها مقرصنة، لذلك فإن نسخ الكاميرا تصبح حلًا اضطراريًا للمتابعين الشغوفين، وللكتاب عن السينما في دول تتحسس من الاختلاف، لكن كيف يمكن الكتابة عن فيلم شوهد بجودة رديئة صوره أحدهم في دار عرضه المحلية لينشره للآخرين؟ كيف يمكن التعامل مع تجربة سينمائية مقرصنة تفرض علينا بينما تمتلئ قاعات السينما حول العالم بمشاهدين يملكون نفس الاهتمامات يشاهدون الفيلم كما يجب أن يشاهد بينما نشاهده نحن بتضييق الأعين لتلقي التفاصيل الغائمة؟

عودة سام ريمي

يعتبر دكتور سترينج في جنون الأكوان المتعددة هو الجزء الثاني من سلسلة أفلام دكتور سترينج التي صدر جزءها الأول عام 2016، جاء الفيلم بعد تطورات عدة طرأت على الشخصية وعالمها والعالم المتكامل لتلك الأفلام، حدثت تلك التطورات في أفلام أخرى تضمنت شخصية سترينج بعدما أصبح ساحرًا وجزءًا من المنتقمين Avengers، آخر تلك التطورات حدث في فيلم الرجل العنكبوت لا طريق للمنزل Spider man: no way home، وفيه أطلق سترينج تعويذة هزت قوام الزمان والمكان وصنعت اضطرابًا كبيرًا في الأكوان المتعددة، ينطلق (جنون الأكوان المتعددة) من ذلك المفهوم لكي يصيغ قصة جديدة عن العوالم الموازية فيها يستكشف إمكانية أن تكون النسخ المتعددة لكل منا هي ما نراه في الأحلام، وأن رؤيتنا لأنفسنا بشكل مختلف في حلم ما من الممكن أن يكون نحن فعلًا في كون آخر.

أخرج سام ريمي المخرج الشهير والمحبوب تلك النسخة من دكتور سترينج بعد اختفائه عن ساحة إخراج أفلام الأبطال الخارقين بعد انتهاء سلسلة الرجل العنكبوت الأولى من بطولة توبي ماجواير، يعرف ريمي بحبه العميق لأفلام الرعب، فلقد أخرج ثلاثية من أكثر أفلام النوع تأثيرًا، بدأت بالأموات الأشرار  The Evil Dead عام 1981، كما يشتهر بقدرته على صنع مؤثرات بصرية مرعبة وآسرة بأقل الإمكانيات باستخدام المؤثرات العملية مثل التحريك بأسلوب التوقف والحركة stop- motion، لكنه هنا يعمل تحت أكبر وأكثر الشركات ثراء في العالم ويملك تحت طوعه أكبر فرق المؤثرات البصرية المنتجة حاسوبيًا وأحدث التقنيات السمعية والبصرية، يستغل ريمي تلك الإمكانيات في صناعة فيلم قاسم لجماهير السلسلة وعالم أفلام الأبطال الخارقين، فمن جانب هو يلتزم بالمتوقع من فيلم عن السحر وعن بطل محبوب، لكنه يستخدم حبه وقدرته على إنتاج الرعب والكوميديا من أصغر المواقف، فيصبح دكتور سترينج فيلمًا مختلفًا أسلوبيًا عن عالمه، مغامر في أفكاره البصرية ومفاجئًا في تتابعاته التي يتسم كل منها بأسلوب مختلف أو فكرة جديدة، كما أن مشاهد الحركة تعمل كمحرك للقصة وليست فواصل من القتالات الرقمية التي تؤدي إلى نتائج ما ينتظرها المشاهد، فهنا هي الغاية وليس الوسيلة.

مشهد من Doctor Strange In The Multiverse Of Madness

عند مشاهدة مخلوقات سام ريمي وأفكاره البصرية  بجودة الكاميرا على شاشة منزلية فإن التجربة كلها تصبح شبيهة بحلم غائم، مثل سقوط الشخصيات في سلسلة غير منقطعة من العوالم الموازية أو تلبس روح دكتور سترينج (بيندكت كامبرباتش) لجثته من عالم آخر مما ينتج مشاهد رعب أحياء- أموات جديدة على عالم مارفل، لكن  تصبح القدرة على تحديد التفاصيل والاستمتاع بجودة الصورة العالية والرسوم الغرائبية منخفضة، تتداخل الألوان والحركات حتى تكون كتلة واحدة يصعب فصلها، ويصبح تذكر تجربة مشاهدة الفيلم أشبه بتذكر حلم طويل تبقى منه فتات في العقل الواعي، خصوصًا مع استخدامه أسلوبية واضحة في تحريك الكاميرا بشكل متسارع أو استخدام تقنية «الإظهارات المتوازية – crossfades» والتي تصنع صورة سينمائية شبيهة بالأحلام، لكن حتى مع اضطرار المشاهدة في تلك الظروف فإن أسلوب ريمي واضحًا، واختلاف الفيلم عن جزءه الأول لا يمكن تجاهله، يستغل ريمي إمكانيات انغماس القصة في عوالم السحر الأسود لجعله عن السحر فعلًا وليس نسخة منمقة لامعة من السحر، يستقي إلهامه من مرجعيات أشهر أفلام الرعب الكلاسيكية، مثل كاري من إخراج بريان دو بالما المقتبس عن كاتب الرعب الأشهر ستيفن كينج، ومن أفلامه هو الشخصية التي امتلأت بشخصيات حية يتلبسها الأموات لكنها لا تفقد قدرتها على المزاح.

أشرار أفلام الرعب

سكارليت ويتش من فيلم Doctor Strange in the Multiverse of Madness

عندما أخرج ريمي سلسلة أفلام الرجل العنكبوت صنع شخصيات شريرة خالدة، أشهرها «العفريت الأخضر – Green Goblin» الذي اتسم بكونه شريرًا شبيهًا بشياطين أفلام الرعب، يملك ضحكة متميزة وابتسامة مرعبة على وجهه، خلدت أسلوبية ريمي شخصيات كان من الممكن أن تنسى ولم تظهر شخصيات شريرة بتلك الأيقونية في سلاسل أفلام الرجل العنكبوت كلها بعد ذلك، في جنون العوالم الموازية يواجه سترينج شريرًا غير متوقع، فهو على مواجهة مع بطلة محبوبة وعضوة من المنتقين وهي واندا ماكسيموف (إليزابيث أولسن)، التي يمكن التعمق في تطور شخصيتها بمشاهدة مسلسل ديزني القصير «واندا فيجن – WandaVision»، مثل سترينج تملك واندا قدرات سحرية خارقة لكنها تعيش بقلب مكسور بسبب فقدانها لأسرتها، زوجها وولديها.

تمثل واندا شخصية (ضد بطل) تصعب من عملية التشجيع التي تسهلها أفلام مارفل، فهناك أبطال وأشرار وجمهور سينمائي واسع يشجع البطل عند توجيه ضربة قاتلة للشرير في القاعات حول العالم، في حالة واندا فإن شرها قادم من جرح عميق يستعصي على الالتئام، ومع تعمق الجرح تزداد القوة، لكن ما فعله ريمي في الشخصية بتشبيهها بشخصية كاري الشهيرة شكليًا وموضوعيًا جعل من الصعب قولبتها في كونها ضد بطل أو شرير، لا تملك واندا رغبة كاري في الانتقام، لكنها تملك رغبة أكثر إلحاحًا وهي جبر قلبها المنكسر فتكرر مرارًا أنها ليست شريرة ولكنها أم، يجعلها ذلك شريرًا خاصًا جدًا، لا يمكن تصوره إلا في هيئة امرأة، مثل كاري التي لا يمكن أن تكون إلا فتاة مراهقة.

لم يذكر سبب منع الفيلم في كل تلك الفقرات، لأنه مع وجود كل تلك التفاصيل المعقدة يصبح تفصيلة لا تذكر، لكنه متعلق بشكل رئيسي بالشخصية الجديدة التي يقدمها الفيلم، أمريكا شافيز (سوشيتيل جوميز)، لدى أمريكا قدرة خارقة لا تعلم كيفية السيطرة عليها وهي القدرة على التنقل بسلاسة من كون إلى آخر من دون أن توجد نسخة منها في تلك الأكوان، وبسبب تلك القدرة تسعى واندا لاستخدامها للوصول إلى نسخة من نفسها في عالم من كل تلك العوالم تعيش في دفء عائلتها بسعادة، في حقيقة الأمر تدور قصة الفيلم كلها عن إيجاد السعادة، أو عن النسخة الأكثر سعادة من أنفسنا، أمريكا نفسها تبحث عن السعادة بعد فقد والدتيها، كما أنها مختلفة في عالمها وفي كل العوالم، في نسخة الكاميرا لن تستطيع رؤية تفاصيل ملابسها التي تتضمن سترة تحمل ألوان العلم الأمريكي، ودبوس صغير يحمل علم الفخر الذي ربما يكون وجوده أحد أسباب المنع.

يمثل دكتور سترينج في جنون الأكوان المتعددة تجربة سينمائية مسلية لأبعد حد، حافلة بالتغيرات الأسلوبية ومشاهد الحركة والرعب المفاجئة، لكنه يملك كثيرًا من القصور كقصة متماسكة فهو يبدأ فجأة من حيث انتهت أفلام أخرى في العالم نفسه، ولا يأخذ وقته في بناء شخصياته المبنية سلفًا أو الشخصيات التي يقدمها لأول مرة، يبدو في بعض الأحيان كحلقة مقتطعة من فيلم آخر أو تدريب في استخدام المؤثرات والأفكار البصرية، لكنه لا يحتوي على لحظة ملل، هو فيلم صيفي جماهيري يمكن الاستمتاع به في دار عرض مكتظة بالمشاهدين من أعمار وخلفيات مختلفة، أو يمكن اختباره كحلم غائم رديءالجودة ومحاولة تذكر ما ورد فيه للكتابة عنه.