فلسفة الأخلاق الطبية: علاقات الأطباء بالمرضى
محتوى مترجم | ||
المصدر | ||
التاريخ | ||
الكاتب |
ما مدى انسجامك مع طبيبك؟ تتضمن أيّ استشارة سريرية تفاعل شخصين، لذا يجدر النظر إليها كعلاقة، وكمواجهة أخلاقية. قسم أبقراط، أن تقوم بأفضل ما بوسعك لأجل المريض، والتزامات مماثلة مرتكزة على إطار كلاسيكي من الفضائل الأخلاقية، يجري ترديده في مراسم تخرج الأطباء الجدد على مدى قرون. مع ذلك، قد تكتسب علاقات الأطباء بالمرضى وعائلاتهم أشكالاً متنوعة. سأقوم هنا بإيجاز النماذج المتنوعة لعلاقات الأطباء بالمرضى في ثلاثة فقط: النموذج الأبوي، ونموذج الفردانية الراديكالية، ونموذج المشاركة في اتخاذ القرار.
النموذج الأبوي
يؤكد «النموذج الأبوي» أن عناية الأطباء قائمة على خبرة وتدريب طبي طويل الأمد، ومعرفة متخصصة، تقنية في الغالب. يمكن اختصار هذا النموذج بـ«الطبيب يعرف أفضل». هنا، تُعتبر القيم المهمة بالنسبة للمريض أقل أهمية مما يراه الطبيب في صالح المريض.
هذا النموذج قائم بالأساس على المبدأ الأخلاقي للإحسان (بمعنى، أن تفعل خيرًا للآخر)، مع استقبال المريض لهذا التدخل الذي، في تقييم الطبيب، هو الأكثر ملاءمة للمريض لمساعدته على استرداد صحته أو التخفيف من معاناته.
يستلزم هذا المبدأ وضع الطبيب منفعة المريض فوق منفعته الخاصة، وعدم اتخاذ قرارات لأجل مكسب مادي أو أيّ مكسب آخر، وأن يطلب المساعدة من أطباء آخرين حين يكون هذا في مصلحة المريض. مع ذلك، في الحالات غير الطارئة (الاختيارية)، يضع النموذجُ الأبوي مبدأَ الإحسان في تعارض مع مبدأ استقلالية المريض.
يمكن القول إن التحول النموذجي خلال ربع القرن الأخير من اتخاذ الطبيب للقرار بشكل أبوي إلى اتخاذ المريض للقرار باستقلالية هو أكثر التغييرات الأخيرة أهمية في المشهد الطبي الغربي. وهو نتيجة لعدد من العوامل المتنوعة: اتجاه المجتمع المعاصر نحو الحقوق الذاتية؛ وتزايد قيمة التعددية، وبالتالي التباين الأخلاقي؛ وغزوات وسائل الإعلام للتعليم الطبي، بشكل مباشر وعن طريق الوثائقيات الطبية؛ إضعاف أغلب أشكال السلطة؛ بالإضافة للنجاح التقني الأكبر للطب في استعادة وظائف الأعضاء الجسدية وإطالة العمر.
ومن المثير للاهتمام، يرى إدموند بيلليجرينو دخول الفلاسفة المحترفين في مجال الأخلاقيات الطبية كقوة دافعة في اتجاه استقلالية المريض كالنهج السائد، يُنظر «المباديء الأربعة وعلاقة الطبيب بالمريض: الحاجة إلى ارتباط أفضل» في كتاب: «مباديء أخلاقيات الرعاية الصحية»، (ر. جيلون، 1994).
أدى التفوق المتزايد لمبدأ استقلالية المريض إلى التخلي على نطاق واسع عن النموذج الأبوي في الاستشارات الطبية الاختيارية. النموذج الأبوي مقبول أكثر بغير معارضة في حالات الطوارئ، حيث تكون الإجراءات الفورية لإنقاذ الحياة، المتبعة غالبًا للبروتوكول الطبي، ضرورية للغاية.
نموذجيًا، الأبوية الطبية مقتصرة على قرارات محايدة القيمة، مثل حجم الأُنْبوبُ داخِلَ الرُّغامَى المناسب إدخاله في طفل ذي عمر ووزن محدد. لكن قرار الإنعاش أو عدم الإنعاش، على سبيل المثال، مشحون قيميًا للغاية. حقيقة أنه، بالرغم من نوايا الطبيب الحسنة، هناك دومًا عدم يقين في الطب السريري بخصوص التشخيص واستجابة المريض الخاصة للعلاج، هي أيضًا مثار قلق في النموذج الأبوي.
نموذج الفردانية الراديكالية
على النقيض تمامًا من النموذج الأبوي يوجد ما يمكن تسميته «نموذج الفردانية الراديكالية». تأسس هذا النموذج على الإقرار بامتلاك المرضى لاستقلالية مطلقة، وحقوق مطلقة للتصرف بأجسادهم.
يفترض النموذج أن كل مريض قادر على التمييز بين البدائل العلاجية، وأن الأطباء كذلك ملزمون بتنفيذ مطالب المرضى، بصرف النظر عن اتفاق الأطباء معهم (ومنطقيًا، بصرف النظر عن تكلفتها أو لا جدواها). في هذا النموذج، بينما قد يختار المرضى اتباع نصيحة الأطباء، إلا أنهم مطالبون باتخاذ قراراتهم بأنفسهم، بأفضل ما يمكنهم.
ثَمّة نموذج مشابه أُطلق عليه اسم النموذج الاستهلاكي. تُعتبر فيه الرعاية الصحية سلعة يحصل عليها المستهلك (المريض) مع بذل العناية الواجبة، بقصد إمداده بالمعلومات لا بأحكام قيمية من ناحية مُورِّد الخدمة المحتمَل (الطبيب). المسؤوليات الأخلاقية للطبيب هي إطلاع المريض على تشخيص مرضه وخيارات العلاج المتاحة، وتوفير الخدمة المطلوبة بكفاءة.
إعادة تسمية الأطباء تبعًا للمصطلحات التجارية كـ«مقدمي الرعاية الصحية»، والمرضى كـ«المستهلكين»، تؤكد سيطرة المريض على التفاعل المتبادل خلال الرعاية الصحية. ينعكس هذا في مواثيق حقوق المريض والإلزام الواجب قانونًا للموافقة المستنيرة، الهادفة على وجه الخصوص لتمكين المستهلكين من اتخاذ قراراتهم.
من مخاطر هذا النموذج أن بمقدوره تقويض روح الرعاية المحفزة للأطباء، الذين قد ينفصلون عاطفيًا عن العملية بعد شرح الخيارات، بما أن القرارات الآن راجعة بالكامل للمريض. الأمر صعب أيضًا من ناحية المريض، حيث يُطلب منه الإلمام بكمية ضخمة من المعلومات التقنية، في وقت مرضه، ثم إعادة تقييمها خلال سير عملية العلاج.
علاوة على ذلك، النموذج فقير من ناحية أنه لا يقّدر طبيعية وجود المريض في العالم، وبالتالي في علاقات مع أشخاص آخرين: عائلته، أو مجتمعه، أو مرضى آخرين قد يكونون منافسين له على موارد محدودة، أو أطباء مدركين لحدود التقنية الطبية من ناحية ما هو ممكن وما هو ليس كذلك.
طلب المساعدة الطبية ليس كالذهاب إلى السوبر ماركت لشراء البقالة. الطب غير محايد أخلاقيًا؛ فهو يهدف إلى رعاية ومساعدة الناس بفاعلية ورحمة. بمعنى، بدلاً من تركيز أخلاقيات المهنة الطبية على اتخاذ قرارات في لحظات محددة من المعضلات الأخلاقية، ينبغي التركيز على رفع مصالح المريض إلى حدها الأقصى. وهذه تشمل المصلحة التقنية-الطبية (العلاج الصحيح تقنيًا، مثلاً الدواء الصحيح بالجرعة الصحيحة)، والمصلحة الإنسانية (مصلحة المريض كشخص)، والمصلحة الإدراكية (المصلحة كما يراها المريض)، وباللاتينية: summum bonum (الصالح الأعظم، مهما كان تعريفه). ينظر إدموند بيلليجرينو، «الخيار الأخلاقي، ومصلحة المريض، والمصلحة كما يراها المريض» في كتاب «الأخلاقيات وطب الرعاية الحرجة»، 1985.
نموذج المشاركة في اتخاذ القرار
يمكِّننا الوعي بهذه المصالح الأربعة المختلفة للمريض من النظر في نموذجٍ وسطٍ بين طرفيّ النقيض هذين – «نموذج المشاركة في اتخاذ القرار»، المعروف أيضًا باسم «النموذج التبادلي»، أو «نموذج العقد التفاوضي». يتضمن هذا النموذج نهجًا مشتركًا، حيث يتحالف أصحاب المهنة الصحية مع المرضى وعائلاتهم، ويكون الهدف مساعدة بعضهم للتوصل إلى أفضل مسار للعمل من أجل المريض.
يقوم هذا النموذج على الإقرار بالإنسانية المشتركة لكل من الأطباء والمرضى بالإضافة لأهمية ملكية المريض لجسده الخاص. في هذا النموذج، يقدّم المرضى المعلومات دون قيد، ويوفر الأطباء التشخيصات المحتملة وخيارات العلاج، فيتم التواصل بطريقة تتيح إمكانية اتخاذ قرار مشترك عما قد يسمح به المريض. خلال هذا النموذج، تتمايز علاقة «الطبيب بالمريض» عن علاقة «الطبيب بالمرض».
هذا النموذج هو «تعهد ثنائي»، يستتبع الاحترام المتبادل والثقة والاعتبار والعدالة. على سبيل المثال، يقدم الطبيب معلومات مدعومة عن النسب المئوية للبقاء على قيد الحياة مدة خمس سنوات بعد عملية الاستئصال الجذري للثدي، مقابل نسب البقاء على قيد الحياة بعد استئصال الورم فقط بالإضافة للعلاج الإشعاعي. تقرر المريضة ما إذا كانت التضحية بثديها تعادل التحسن الإحصائي في احتمالات حياتها. في هذا النموذج تُناقش قيم المريض والطبيب بالنسبة لكلٍ من الرعاية الصحية والمبادئ الأخلاقية بواسطة الطرفين المستقلين. أيضًا يتيح نموذج المشاركة في اتخاذ القرار أن المريض قد لا يميز قيمه بشكل واضح، لذا يجدر بالطبيب النزيه إرشاده نحو فهمِ وإحكامِ بنائِه القيمي، من أجل مساعدته في اتخاذ قراره الخاص. تعلم كيفية خوض حوار أخلاقيّ، وتفادي إعطاء الأولوية لقيم الرعاية الصحية فوق القيم الأخرى، غالبًا ما يكون ضروريًا وجوده ضمن مجموعة مهارات الطبيب.
تعاطف وحكمة الطبيب ضروريان هنا؛ كما هي إعادة تقييم المريض للوضع بعد التفكير. ينبغي أن يحاول الطبيب المعتني بحقٍ أن يبين للمريض أيّ طريق يَرْجُح أن يحقق أكبر نفع له، دون إكراه. بمعنى، في حين أن المرضى (عمومًا) هم الأفضل في معرفة ما يحقق أكبر خير لهم، الأطباء هم (عمومًا) الأفضل موضعًا لمعرفة أيّ الخيارات تتيح تحقيق هذا، يُنظر م. أ. كيكيويتش، «تحرير السوق في الرعاية الصحية: نظرة مختلّة لاحترام استقلالية المستهلك».[1]
وتعبيرًا عن الأمر بصورة مختلفة، يعتمد نموذج المشاركة في اتخاذ القرار على استكشاف واحترام أكثر ما يُهم المريض الفرد. ويهدف إلى تطوير تفضيلات مستنيرة للمريض، ويحترم الاستقلاليةَ عن وعيٍ بضرورة التساند بين الطبيب والمريض (وعائلته) خلال عملية اتخاذ القرار. يتضمن هذا حوارًا شاملاً وتأمليًا، دون ضغط، سعيًا للتوصل إلى اتفاق رضائيّ غير إجباري بخصوص طريق العلاج المتبع. يُنظر ب. ووكر و ت. لوفات «الاتفاق الحواري في اتخاذ القرار الطبي».[2]). ويتطلب فهمًا متبادلاً للقيم التي يعتنقها المريض وهؤلاء المهتمون بشأنه والأطباء من أجل تحقيق المصلحة القصوى للمريض خلال الموقف الفعليّ. تشتمل العوامل التي قد تربك هذه العملية على ضعف مستوى محو الأمية الصحية، وعدم الميل الثقافي لاتخاذ القرارات المستقلة، وضيق وقت الاستشارة، من بين عوامل أخرى.
الخلاصة
يتطلب استخدام نموذج المشاركة في اتخاذ القرار في الممارسةِ الطبيةِ العمليةِ تعاطفًا وإشفاقًا وحوارًا لتحديد الهام بالنسبة للمريض. بالتالي ينبغي أن يكون تطوير مهارات التحاور الحقيقي مع المرضى، بصرف النظر عن الخلفيات الاجتماعية والثقافية المختلفة، جزءًا أساسيًا من التدريب الطبي.
[1] M.A. Kekewich, ‘Market Liberalism in Health Care: A Dysfunctional View of Respecting “Consumer” Autonomy’, Journal of Bioethical Inquiry, 11(1), 2014, p.25 [2] P. Walker & T. Lovat, ‘Dialogic Consensus in Clinical Decision Making’, Journal of Bioethical Inquiry, 2016