عندما يمر أحد منا بظرف قاسٍ في حياته العملية أو الاجتماعية، بتلقائية شديدة، يبدأ في الانفراد بنفسه ولو قليلًا، تجهيزًا لمحاكمة تخيلية تضعه في قفص الاتهام بتهمة التقصير. فيدخل في سلسلة من المراجعات، قد تصل به لمراجعة قراراته منذ عدة سنوات. موقف مألوف لكثير منا، لكن ماذا لو طبقناه على عدة أفراد، بل مجتمعات بكاملها؟

سيتناسب عنف المراجعات، مع عنف الأحداث، ولا أشد من وباء يجتاح العالم أجمع، ويسقط اقتصادات دول، بدت في ظاهرها أكثر تماسكًا ووعيًا. وهنا تطفو على السطح من جديد المراجعة الأبرز في عالم كرة القدم بشكل خاص، والرياضة بشكل عام؛ كيف يحصل لاعب يركل الكرة على أضعاف ما يحصل عليه الطبيب والمهندس؟

انفصام غير مقصود

الآن، أخذت ملامح وجهك تتغير، وبدأت تستعد لتوجيه اللعنات لهذا العالم غير العادل، بما فيهم كاتب هذه الكلمات الذي يبدو عليه الميل لنفس وجهة النظر التي لا تروقك. لكن في الحقيقة، لن نميل لما يزعجك، سنمسك معك الخيط منذ بدايته، مرورًا ببعض التوضيح، وانتهاءً بما فعلته كرة القدم تجاه فيروس كورونا.

البداية كالعادة ستكون مع قصة الطفل الذي يبدأ بلعب الكرة في شوارع منطقته، ثم يلاحظ أصدقاؤه موهبته فينصحونه بالتوجه إلى أقرب نادٍ أو مركز شباب، ومنه تبدأ رحلة السعي نحو أحد أندية القمة، إلى أن يأتي الصدام العائلي المشهور والذي يمنع الشاب من استكمال طريقه، بعد شد وجذب تجاه تقديم أهمية التعليم على الرياضة.

ينتج عن ذلك حالة من الانفصام غير المقصود، منع ابنك من طريق الملايين، ثم جلوسكما معًا لحسد أصحابها.

الأغرب من ذلك، أن تقديم التعليم على كرة القدم يبدو أقرب للمنطق بكثير وفقًا للكثير من الإحصائيات. وقبل أن تستغرب إليك الأرقام التالية.

أفاد تقرير شبكة الإذاعة البريطانية إلى أن نسبة 0.5% فقط من الناشئين دون ال 9 سنوات يصلون إلى الفريق الأول في الأندية الكبيرة. ووفقًا للكاتب «مايكل كالفين» في كتابه «No Hunger In Paradise: The Players. The Journey. The Dream» ينجح 180 ناشئًا فقط من أصل 1.5 مليون في الوصول للعب بالبريميرليج بنسبة (0.012%) ، نسبة ضئيلة للغاية!

أضف هذه الأرقام إلى جودة قطاعات الناشئين المتباينة، ومعايير الاختيار الممزوجة ببعض المجاملات والواسطة. لذلك يمثل التعليم الطريق الأكثر أمانًا على المدى الطويل، سواء كنت مهندسًا أو طبيبًا أو غير ذلك.

وكونك ستندم على قلة المكاسب مستقبلًا مقارنة بلاعب كرة القدم، فأنت قد حصلت في المقابل على طريق وظيفي أكثر أمانًا ووضوحًا. لكن هل من العدل أن يكون الفارق بين راتب صاحب السلعة الترفيهية وصاحب السلعة الحيوية بهذه الضخامة؟

قوانين المدينة الفاضلة

في الواقع، يتم طرح هذا السؤال بين الأطباء بمختلف تخصصاتهم، والمهندسين بمختلف أقسامهم، وفي كل شركة صغيرة كانت أم كبيرة. يحاول البعض القياس وفقًا لأهمية الوظيفة والمجهود المبذول، لكن منذ متى كان العالم بنظامه الرأسمالي بهذه المثالية؟

بعيدًا عن معايير الحب والكره التي تشوب كثيرًا من المجالات، فإن الجميع في هذا العالم يخضعون اقتصاديًّا لمبدأ واحد فقط، هو «العرض والطلب»، ليس فقط لتحديد سعر العقارات والسيارت وغيرها من السلع، ولكن لتحديد أسعارنا أيضًا.

بالنسبة للاعبي كرة القدم، فعلى الرغم من ارتباطهم بصناعة غرضها الرئيسي الترفيه، إلا أن هذا الصناعة باتت تقدم منتجًا مطلوبًا وبشدة. وكلما زاد عدد المشاهدين، زاد عدد المعلنين. ومع زيادة عقود الرعاية والبث التلفزيوني، ازداد الطلب على اللاعبين الموهوبين، لأنهم يزيدون فرصة فريقهم في الفوز بالألقاب، وبالتبعية المزيد من العوائد.

ووفقًا للعرض والطلب، تنقسم كرة القدم أيضًا إلى طبقات، ففي موسم 2014/15 على سبيل المثال، كان متوسط أجر اللاعب في الدوري الفرنسي 70 ألف باوند، بينما وصل في البريميرليج إلى 1.7 مليون باوند. فالبريميرليج كان أكثر الدوريات قفزًا في عوائد البث التلفزيوني، والتي قفزت من 200 مليون باوند لأعوام 1992-1997، إلى 5 مليارات باوند لأعوام 2016-2019، وبالطبع لن تذهب هذه الزيادة دون المرور على اللاعبين.

لكن تذكر الأرقام التي سردناها بالأعلى، كم لاعبًا يصل للحصول على هذه الأرقام؟ والأهم، كم كان عدد المحاولين؟ أدرك تمامًا أن العرض والطلب وغيرها من الكلمات المبسطة للتعبير عن الأسعار، لن تكون فعالة لإقناع الناقمين على لاعبي كرة القدم، ولكي نملأ تلك المسافة بين الاقتناع وعدم الاقتناع، سنضطر إلى النظر للاعبين نظرة مختلفة.

الواجب غير المفروض

النظرة المختلفة هنا هي نظرة أكثر تطلبًا، تجعل الجميع يترقب تصرفات هؤلاء اللاعبين، منتظرين منهم المزيد من المساعدة والتوعية، ليس بالضرورة عبر الأموال، لكن باستغلال شعبيتهم الجارفة. وفي وقت الأزمات، تزداد الحاجة إلى ذلك الدور المجتمعي للرياضة والرياضيين بشكل عام، كما هو الحال مع أزمة فيروس كورونا.

فوجدنا اللاعبين واحدًا تلو الآخر يساهمون في توعية الجماهير بالبقاء بالمنزل، وغسل اليدين، وصولاً إلى تقديم المساعدات المالية، كالحملة التي أطلقها مدافع الأهلي المصري سعد سمير لإعالة عدد من الأسر المصرية المتضررة من الإجراءات الوقائية، واستجاب له نجوم آخرون، كوليد سليمان وطارق حامد وأحمد فتحي وكريم نيدفيد، وفي انتظار المزيد.

إلى هنا سأضطر آسفًا لقطع مشاعر الرضا عن كرة القدم ولاعبيها التي بدأت تتسلل إليك، لأن ما حدث على أرض الواقع لم يكن ورديًّا هكذا. على الرغم من مساعدات اللاعبين، إلا أن كرة القدم قد أظهرت وجهها القبيح في بداية الأزمة.

فقد تأخر القائمون كثيرًا في اتخاذ قرار حاسم لوقف النشاط الكروي، وكأنهم يحاولون الفصال، على حساب حيوات الجماهير. فأصروا – رغم أنباء تفشي الوباء – على إقامة المباريات بجمهور كما حدث في مباراة ليفربول وأتلتيكو مدريد، أو بدون جمهور في مباريات أخرى مع تجمع بعض الجماهير خارج الاستاد، وكأن المشكلة في مقاعد الاستاد، وليس في التجمعات نفسها.

ولم ينتبه المسئولون إلا بعد إصابة اللاعبين والمدربين واحدًا تلو الآخر، وكان الضحية الأبرز هو نادي فالنسيا الذي أُصيب 35% من لاعبيه ومسئوليه بالفيروس، جراء رحلتهم إلى مدينة ميلانو لمواجهة أتالانتا بدوري الأبطال.

وللأسف وبشكل سينكره الإعلام الذي يخدم اللعبة، ساهمت كرة القدم في نشر الوباء، لأن الوجه القبيح الذي جعل كرة القدم أداة للتحايل والسياسة، بتمويل مباشر من بعض الدول، لم يكن على استعداد لخسارة أمواله، حتى لو على حساب حياة الناس. لذا فإن كان هنالك سببًا لإعادة ترتيب أولويات المجتمع، فلن يكون راتب اللاعبين، لكنه على الأرجح سيكون مجلس إدارة كرة القدم الخفي، الذي ساهم في نشر الوباء.